موقف الدولة العثمانية من أحداث الأرمن
تضغط بعض المحافل الدولية على الحكومة التركية وفق أسلوبين متناقضين، أحدهما يسعى لإبعاد تركيا عن الاتحاد الأوروبي باتهامها بالانتهاكات الكبيرة وأنها لا تعترف بها.
وينطلق هؤلاء من اعتبار أن ذلك لا يساعد على تحقيق الاستقرار بين الدول الأوروبية الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، لأن إحداها وفق هذا المنطق لا تعترف بحقوق الدولة الأخرى، وعليه تجب مطالبة تركيا بالاعتراف بالمزاعم الأرمنية حتى لو لم تكن صادقة.
أما الأسلوب الآخر فهو إصدار البرلمان الأوروبي قرارا غير ملزم لأعضائه يتضمن الاعتراف بالمزاعم الأرمنية على أنها إبادة، وبالتالي وضع عراقيل حقيقية أمام الحكومة التركية تحول دون دخولها الاتحاد الأوروبي، بحجة أن تركيا لا تعترف بما وافقت عليه أغلبية أصوات البرلمانيين الأوروبيين، خاصة أن تصويت البرلمان الأوروبي بعد دعم هذه المزاعم الأرمنية من قبل بابا الفاتيكان فرانسيس بالإبادة دون الاعتماد على تحقيق تاريخي ولا قانوني، قبولا لمزاعم طرف ورفضا لسماع صوت الطرف الآخر يؤكد أن تصويت البرلمان الأوروبي وتصريحات بابا الفاتيكان خطوتان في مشروع سياسي يراد منه إبعاد تركيا المسلمة عن الاتحاد الأوربي ولو بتهم كاذبة.
إن أسباب وقوع تلك الأحداث المؤسفة تعلمها الحكومة الأرمنية، ولذلك ترفض الاحتكام إلى محاكم تاريخية ولجان مختصة تحقق في مثل هذه المزاعم في العالم أجمع، وهذا الرفض من الدولة الأرمنية لتشكيل لجان قانونية ليس الأول من نوعه، فقد رفضت دول أوروبية أخرى المشاركة في التحقيق إبان وقوع تلك الأحداث |
ومن المضحك المحزن في آن أن يقول "أنطونيو تاجاني" نائب رئيس البرلمان الأوروبي، وهو يطالب البرلمان الأوروبي بإصدار قرار إدانة للجمهورية التركية بأنها ارتكبت جريمة إبادة ضد الأرمن عام 1915، قبل أيام "نحن لا نعاقب تركيا الحالية، وإنما نعاقب تركيا التي كانت قبل 100 عام". وذلك في تصريحات أدلى بها تاجاني حول مزاعم الإبادة التي عرض لها الأرمن عام 1915 في عهد الدولة العثمانية في مرحلة الحرب العالمية الأولى.
وقيل إن تاجاني دعا كل أعضاء الاتحاد الأوروبي إلى الاعتراف بأحداث 1915 المتعلقة بالأرمن على أنها "إبادة جماعية" من خلال مشروع قرار قدم إلى البرلمان الأوروبي، وتم إقراره بالتصويت عليه برفع الأيدي، أي أنه اخترع طريقة قانونية جديدة في إثبات المجازر والمذابح والإبادات على طريقة رفع الأصابع، وهذه سخرية لا تليق بحجم الدعوى، ولا تحترم تلك المآسي وآلامها التاريخية، وفيها إدانة للأرمن والأتراك والمسلمين أن ينظر إلى قضاياهم بهذه السخرية، فتعرض قضاياهم على التصويت دون علم ولا معرفة ولا تحقيق علمي تاريخي.
ولكن لا شك أن هذه الطريقة المضحكة في فهم المسؤولية التاريخية وطريقة إثبات الجرائم الجديدة برفع الأيدي ودون الحاجة إلى المحاكم والقضاة ولا المؤرخين المختصين، يشير إلى أن المسألة الأرمنية اليوم وفي المحافل الأوروبية السياسية والكنسية هي مسألة سياسية، وليست مسألة محاكم عادلة لما جرى من أحداث عام 1915، وإلا فمن الأولى أن تستجيب الحكومة الأرمنية لمطالب الحكومة التركية منذ عشر سنوات بتشكيل لجان مختصة للتحقيق بالمذابح التي وقعت عام 1915 نحو الأرمن.
وكان من الأولى أيضا أن يكون قرار البرلمان الأوروبي التأكيد على المطلب التركي بضرورة توثيق ما حصل قبل إصدار أي قرار، والمطالبة بمعرفة الأسباب التي دفعت الحكومة العثمانية آنذاك إلى إصدار قرار نقل الأرمن من الأماكن التي جرت فيها هذه المذابح إلى أماكن أخرى مثل سوريا وهي داخل الدولة العثمانية أكثر أمنا للأرمنيين، بعد أن تسببوا بأنفسهم في نشوب هذه المذابح بينهم وبين مواطنين عثمانيين آخرين، سواء كانوا من المواطنين العثمانيين أو من الشرطة العثمانية، التي كانت تفصل بين المواطنين الذين تعرضوا لاعتداءات وعمليات قتل من عصابات أرمنية كانت تهاجم العثمانيين لصالح دول أجنبية، كانت جيوشها تحقق انتصارات في بداية الحرب العالمية الأولى، فتورطوا بالاعتداء على إخوتهم العثمانيين ظلما وبغيا.
الدول الأولى التي عاصرت تلك الأحداث كانت على معرفة بحقيقتها فلم تورط نفسها بجهد لا طائل منه، بينما الدول الأوروبية المعاصرة تريد استغلال المزاعم الأرمنية في أجندة سياسية، وبهدف الإساءة للدولة التركية وتوتير العلاقات داخل المجتمع التركي قبل الانتخابات البرلمانية |
فإحدى الرسائل المحفوظة في الأرشيف العثماني مرسلة من العاملين في تلك الأماكن إلى وزارة الداخلية بتاريخ 7 مارس/آذار 1915 وتقول إن 30 ألف رجل مسلم في ولايتي قارس وأرداهان شرقي تركيا قتلهم المتمردون الأرمن، كما حذرت الرسالة من أن جنودا أرمنا في الجيش العثماني يرفضون القتال ضد العدو، ويتعمدون أن يذهبوا أسرى لدى العدو ليُسربوا له المعلومات، وبعض الدراسات التاريخية تؤكد مقتل 519 ألفا من العثمانيين في تلك الاضطرابات الأمنية التي لم تحدث لأسباب قومية ولا دينية، حسب الوثائق الموجودة لدى الأرشيف العثماني والأرمني والعالمي أيضا.
إن أسباب وقوع تلك الأحداث المؤسفة تعلمها الحكومة الأرمنية، ولذلك ترفض الاحتكام إلى محاكم تاريخية ولجان مختصة تحقق في مثل هذه المزاعم في العالم أجمع، وهذا الرفض من الدولة الأرمنية لتشكيل لجان قانونية ومن مؤرخين مختصين للتحقيق بتلك الأحداث ليس الأول من نوعه، فقد رفضت دول أوروبية أخرى المشاركة في التحقيق بتلك الأحداث إبان وقوعها، حيث كانت قد دعت إليها الدولة العثمانية في مارس/آذار 1919، أي بعد أربع سنوات من تلك المزاعم.
فقد أظهرت الوثائق أن الدولة العثمانية طلبت من كل من هولندا وسويسرا والدانمارك وإسبانيا إرسال اثنين من القضاة إلى اللجنة التي أسستها الدولة للتحقيق في الأحداث الواقعة في العام 1915، وكشف الضباط الذين استغلوا وظيفتهم في تهجير الأرمن، ولكن هذه الدول رفضت المشاركة بالتحقيق، وأعلنت رفضها الانضمام إلى اللجنة في بيان ينص على أن المشاركة في هذه اللجنة لا تناسب مصلحتها وهي غير ضرورية لها.
هذه الوثائق التاريخية تؤكد أن اضطرابات تلك الأحداث وجدت صدى في أخبار ذلك الزمان، أي قبل مائة عام، وأن الدولة العثمانية لم تعمل على إخفاء شيء من الحقيقة، بدليل أنها طالبت بفتح تحقيق دولي فيها، ودعت عددا من الدول الأوروبية لتشارك فيها وترسل محققين من قبلها، ليطلعوا بأنفسهم على مجريات التحقيق وسماع الشهود الذين كانوا أحياء من جميع الأطراف، وليعاينوا الأماكن التي حرقت ودمرت، ومن الذي بدأ بتلك الأحداث عندما ظنوا أن المحتل الأجنبي يمكن أن يمنحهم أوسمة ومكافآت على خروجهم على دولتهم العثمانية.
بيد أن رفض الدول الأوروبية للتحقيق يتكرر، مع فارق أن الدول الأولى التي عاصرت تلك الأحداث كانت على معرفة بحقيقة الأحداث فلم تورط نفسها بجهد لا طائل منه، بينما الدول الأوروبية المعاصرة تريد استغلال المزاعم الأرمنية في أجندة سياسية، وبهدف الإساءة للدولة التركية والأمة والحضارة التي تنتمي إليها، وبهدف توتير العلاقات داخل المجتمع التركي قبل الانتخابات البرلمانية في 7 يونيو/حزيران القادم، ومن المرجح أن يفوز بها حزب العدالة والتنمية المستهدف من هذه الحملة الغربية، ولكن الشعب التركي سوف يحسن الرد في هذه الانتخابات وغيرها.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.