إعدامات "داعش" المتلفزة تفجر انقسامات عربية ودولية
استنفار دولي
صدمة مصرية
انتهازية نتنياهو
للوهلة الأولى، بدا لكثيرين أن الإستراتيجية المقيتة لتنظيم "داعش" الإرهابي القائمة على تصوير وبث عمليات إعدام الرهائن والمختطفين لديه عبر تقنية متطورة ومثيرة للتساؤل، لا تؤتي أكلها من حيث إرهاب وتفزيع شعوب العالم وردع حكوماته عن الانخراط في الجهود الدولية الرامية إلى ملاحقة التنظيم الإرهابي وتقويض بربريته، بقدر ما تأتي بنتائج معاكسة تماما، إذ تزيد من إصرار دول العالم وشعوبه على التكاتف سويا من أجل دحر التنظيم وقطع دابره حيثما وجد.
غير أن التحرك المصري والعربي الهادف إلى ترجمة تلك الرغبات والنيات إلى قرارات دولية ملزمة وإجراءات عملية على الأرض، قد بدا وكأنه ينحو منحى مغايرا.
استنفار دولي
لم يكد يمضي أسبوعان فقط على قيام تنظيم "داعش" بإعدام الرهينتين اليابانيتين نهاية شهر يناير/كانون الثاني الماضي، ثم تعهُّد رئيس الوزراء اليابانى شينزو آبي على أثر ذلك بتقديم مساعدات مالية بقيمة مائتيْ مليون دولار إلى الدول التي تقاتل التنظيم المتطرف، حتى أعلن وزير الخارجية الياباني فوميو كيشيدا أن بلاده ستقدم مساعدات مالية قيمتها 15.5 مليون دولار لدعم جهود مكافحة الإرهاب في الشرق الأوسط وأفريقيا.
وعقب بث التنظيم الإرهابى شريط فيديو يؤكد قتل الطيار الأردني معاذ الكساسبة حرقا وهو حي، شدد الأردن على عزمه مواصلة الحرب ضد "داعش". ورويدا رويدا، بدأت تتشكل ملامح إستراتيجية أردنية لسحق التنظيم بإشراف الملك عبد الله الثاني شخصياً، متسلحاً بإسناد شعبي بعد أن تغيرت قواعد اشتباك الأردن في التحالف العربي/الدولي بقيادة أميركا ضد تنظيم "داعش" وأخواته في سورية والعراق، من حرب استباقية دفاعية إلى حرب هجومية بامتياز.
وفي هذا السياق، أكدت مصادر أردنية أن واشنطن -التي تقود التحالف- ستساهم في تغطية أغلبية الأعباء المالية المتزايدة لهذا التصعيد، وخاصة الضربات الجوية التي تشنها مقاتلات سلاح الجو بصورة شبه يومية.
وتحقيقا لذلك، توصلت عمان إلى تفاهمات مع الإدارة الأميركية لتزويدها بمقاتلات متطورة ومعدات عسكرية أخرى، فضلا عن تنسيق مع الحكومة العراقية يسمح بتحرك قوات خاصة أردنية ضمن مساحة لا تتعدى 200 كيلومتر مربع في عمق المناطق العراقية القريبة من معاقل "داعش"، معتمدة على إسناد الجيش العراقي وقوات البيشمركة الكردية.
اعتبرت الخارجية المصرية -في بيان لها- السكوت على تموضع تنظيم "داعش" وغيره من التنظيمات الإرهابية المتطرفة في ليبيا ووعيده بالتمدد والانتشار منها إلى أفريقيا وأوروبا، تهديداً واضحاً للأمن والسلم الدولييْن، لا سيما بعد أن تحولت درنة إلى معقل لـ"داعش" في ليبيا |
وفي مصر، ما انقضت الليلة الكئيبة التي شهدت صدمة بثِّ فيديو ذبح واحد وعشرين قبطياً مصرياً على أيدي مقاتلين من "داعش" في مدينة سرت الليبية، حتى شنت طائرات مصرية مقاتلة من طراز "أف-16" غارات جوية استهدفت معقلهم الأساسي بمدينة درنة التي تضم مخازن أسلحة ومعسكرات تدريب وإيواء للإرهابيين، مما أسفر عن تدمير مخزن للأسلحة ومقتل عشرات الإرهابيين، في عملية عسكرية كانت الأولى للجيش المصري في الخارج منذ مشاركته في حرب تحرير الكويت عام 1991.
كذلك، باشرت القوات الخاصة المصرية عمليات كوماندوز خاطفة ونوعية داخل معسكرات الإرهابيين في شرق ليبيا، قتلت وأسرت خلالها العشرات ودمرت معدات ومنشآت ومستودعات ذخيرة.
ومن جانبها، أكدت مصر -التي شهدت استنفارا لقواتها على جبهتيْ سيناء والحدود الغربية مع ليبيا لدك معاقل الإرهاب- أن عملياتها العسكرية النوعية في ليبيا تمت تحت غطاء شرعي ينبثق من عدة اعتبارات:
أولها، التنسيق المصري مع السلطات الليبية الشرعية في طبرق، التي دعت الجيش المصري إلى مواصلة عملياته العسكرية ضد معاقل الإرهابيين في الأراضي الليبية، علاوة على التنسيق أيضا مع الجيش الوطني الليبي بقيادة اللواء خليفة حفتر، الذي شارك في الضربات عملياتيا ولوجيستيا ومعلوماتيا عبر تحديد الأهداف ورصد الإحداثيات للمقاتلات المصرية.
وثانيها، المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة، التي تخول دول العالم (فرادى وجماعات) حق الدفاع الشرعي عن النفس عبر اتخاذ ما تراه من إجراءات للدفاع عن أمنها الوطني ضد أية تهديدات.
ويكمن ثالثها في المظلة العربية المتمثلة في اتفاقية الدفاع العربي المشترك، فضلا عن تقديم دول عربية دعما ماليا وعسكريا للضربات الجوية المصرية ضد معاقل "داعش" في ليبيا، ومباركة مجلس التعاون الخليجي لاحقا لتلك الضربات، وكذلك للعمليات النوعية التي تنفذها القوات الخاصة المصرية لذات الغرض.
وأما رابعها، فتجلى في اعتبار الأمم المتحدة في ديسمبر/كانون الأول الماضي كلا من تنظيم "داعش" في درنة، ومجموعات النصرة في بنغازي، وتنظيم "القاعدة" في ليبيا، منظمات إرهابية، واعتبار المناطق التي يسيطرون عليها مناطق خاضعة لاحتلال إرهابي.
وبناء عليه، اعتبرت الخارجية المصرية -في بيان لها- السكوت على تموضع تنظيم "داعش" وغيره من التنظيمات الإرهابية المتطرفة في ليبيا ووعيده بالتمدد والانتشار منها إلى أفريقيا وأوروبا، تهديداً واضحاً للأمن والسلم الدولييْن، لا سيما بعد أن تحولت درنة إلى معقل لـ"داعش" في ليبيا، بعدما أعلنت في أكتوبر/تشرين الأول الماضي البيعة لدولة الخلافة وللبغدادي، الذي أعلن نيته جعل ليبيا منطلقا للانتشار في أفريقيا وأوروبا، وناشد المتطرفين الهجرة إليها من كل حدب وصوب.
وبالتوازي، جاءت التحركات المصرية على الصعيد الدبلوماسي بمشاركة وزير الخارجية سامح شكري في قمة مكافحة الإرهاب بواشنطن يوم 18 فبراير/شباط المنصرم، ثم في جلسة خاصة وطارئة لمجلس الأمن الدولي، تقدمت خلالها المجموعة العربية في الأمم المتحدة بمشروع قرار يطالب بتجديد الاعتراف بالحكومة الشرعية في طبرق، ورفع الحظر عن تسليح الجيش الوطني الليبي المفروض منذ ما يقارب أربع سنوات بموجب القرار الأممي رقم 2174، وتمكينهما من أداء مهماتهما في محاربة الإرهاب، وتشديد الرقابة بحراً وجواً لمنع وصول الأسلحة إلى المليشيات المسلحة، إلى جانب حظر وسائل الإعلام ومواقع الإنترنت التي تستخدمها الجماعات الإرهابية.
وقد انطلق التحرك المصري في هذا الاتجاه من رؤية مؤداها أن التدخل الدولي المطلوب في ليبيا يأتي لإصلاح أخطاء التدخل الأول في عام 2011، والذي اكتفى بإسقاط القذافي وترك ليبيا مرتعا للإرهاب والإرهابيين، حيث يتعين على العالم معاودة التدخل لحماية الدولة الليبية من الانهيار.
كما استند أيضا على ضرورة التعاطي مع المسألة الليبية على غرار الحالة العراقية، حينما طالبت بغداد قبل أشهر بتدخل دولي لمحاربة الإرهاب هناك، وتجاوب معها المجتمع الدولي.
صدمة مصرية
رغم تخفيض القاهرة لسقف مطالبها داخل مجلس الأمن الدولي من توفير غطاء قانوني وسياسي لتدخل عسكري دولي ضد "داعش" ليبيا، إلى رفع حظر السلاح عن الجيش الوطني الليبي ومنع وصوله إلى الجماعات الإرهابية، مع تعزيز موقف الحكومة المنبثقة عن مجلس النواب الليبي المنحل برئاسة عبد الله الثني. فإن تراجع الدول الغربية عن نصرة التحرك المصري قد شكل صدمة للمصريين والليبيين على السواء.
رغم إعلان عدد من العواصم الأوروبية حماسها وتأييدها للمساعي المصرية في بادئ الأمر، فقد جاء موقف تلك الدول في الأمم المتحدة مخيبا للآمال، إذ شدد مشروع بيان مجلس الأمن على ضرورة دعم المجتمع الدولي لجهود المبعوث الأممي إلى ليبيا برناردينو ليون لتشكيل حكومة وحدة وطنية من شأنها مكافحة الإرهاب في ليبيا |
فرغم إعلان عدد من العواصم الأوروبية حماسها وتأييدها للمساعي المصرية في بادئ الأمر، فقد جاء موقف تلك الدول في الأمم المتحدة مخيبا للآمال، إذ شدد مشروع بيان مجلس الأمن على ضرورة دعم المجتمع الدولي لجهود المبعوث الأممي إلى ليبيا برناردينو ليون لتشكيل حكومة وحدة وطنية من شأنها مكافحة الإرهاب في ليبيا، بينما خلا البيان من أية إشارة إلى قضية رفع حظر التسليح بحسب مشروع القرار الذي قدمه الأردن في وقت سابق إلى مجلس الأمن، بطلب كل من مصر وحكومة عبد الله الثني.
وقد استند رفض واشنطن والدول الغربية للمطالب المصرية إلى عدة ذرائع أبرزها: إتاحة الفرصة لما يعرف بالحل السياسي (بمعنى ترك الفرصة لإنجاح الحوار الوطني بين الفصائل الليبية المتناحرة، وتشكيل حكومة وطنية ائتلافية تضم كل الأطياف والتيارات وتضطلع بمهمة مكافحة الإرهاب)، ومخاوف واشنطن من أن يفضي رفع حظر السلاح إلى تعقيد الموقف الأمني والعسكري المتدهور في البلاد، ثم غياب الإجماع داخل ليبيا بشأن طلب التدخل الدولي، فهناك انقسام بين حكومتين وبرلمانين في الشرق والغرب، تؤيد أولاهما التدخل لمحاربة الإرهاب بينما ترفض الأخرى ذلك.
وبينما ترى واشنطن أن خطر داعش في سوريا والعراق أكثر تهديدا، فإنها تحبذ استمرار التحالف الدولي لمحاربة "داعش" حصرا في سوريا والعراق.
بيد أن اللافت في الأمر أن تباين الرؤى والمواقف قد امتد ليشمل الجماعة العربية ذاتها، حيث لم ترتكز التحركات المصرية/الليبية على إجماع عربي راسخ، في ظل تحفظ أطراف عربية على النهج المصري في التعاطي مع الملف الليبي.
ومن رحم ذلك التباين في المواقف العربية والغربية، انبلج إلقاء متبادل باللائمة عن تدهور الأوضاع في ليبيا، ففي حين يرى الغرب أن الكرة في ملعب العرب، إذ لم يكن من مهام الناتو حينما تدخل لإسقاط القذافي عام 2011 إعادة إعمار ليبيا أو محاربة الإرهاب هناك، وإنما إنقاذ الشعب من استبداد القذافي، وهو ما يرى الغرب أن الناتو قد حققه بالفعل؛ يصر العرب على مسؤولية المجتمع الدولي عن إصلاح أخطاء تدخله الأول عام 2011 في ليبيا، والذي هيأ الأجواء لانتشار التنظيمات الإرهابية في ربوعها حينما أسقط القذافي وترك البلاد ترزح في أغلال الفوضى.
وفي ضوء ما اعتبره المصريون تخاذلا من قبل المجتمع الدولي، لم يعد أمام القاهرة سوى التحرك في مسارات ثلاثة متوازية تتجلى في: مواصلة عمليات عسكرية نوعية خاطفة ضد معاقل "داعش" في ليبيا بالتنسيق مع السلطات الشرعية بطبرق، والتي جدد وزير خارجيتها -خلال جلسة مجلس الأمن الطارئة- مطالبة الجيش المصري بمواصلة تلك العمليات، ثم المشاركة في ترتيبات ما يعرف بالحل السياسي الهادف لتشكيل حكومة ائتلافية ليبية تضم مختلف الأطياف.
وقد عاودت القاهرة بالفعل استقبال زعماء الفصائل السياسية الليبية غير المتطرفة لهذا الغرض، إضافة إلى مواصلة الجهود لإقناع المجتمع الدولي بحظر وصول السلاح إلى العناصر الإرهابية في ليبيا.
انتهازية نتنياهو
في مسعى منه لممارسة هوايته المفضلة والمتمثلة في استغلال الأزمات الدولية لتحقيق مكاسب قُطرية، حاول رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو استغلال العمليات الإرهابية الداعشية التي استهدفت مصالح يهودية في أوروبا، لتعزيز موقفه التنافسي القلق في الانتخابات العامة الإسرائيلية المرتقبة، عبر دعوة يهود أوروبا للهجرة إلى إسرائيل باعتبارها ملاذهم الآمن، وهي الدعوة التي قوبلت برفض واستهجان واضحيْن من قبل الحكومات والجاليات اليهودية الأوروبية على السواء.
من رحم التباين في المواقف العربية والغربية، انبلج إلقاء متبادل باللائمة عن تدهور الأوضاع في ليبيا، ففي حين يرى الغرب أن الكرة في ملعب العرب، يصر العرب على مسؤولية المجتمع الدولي عن الأمر |
ففي رد على محاولة استغلال نتنياهو هجوميْ كوبنهاغن منتصف هذا الشهر -اللذين استهدف أحدهما كنيساً يهودياً وأسفرا عن قتيلين- لدعوة اليهود الأوروبيين للهجرة إلى إسرائيل، دعت رئيسة الوزراء الدانماركية هيلي تورنينغ شميت الطائفة اليهودية إلى عدم تلبية دعوة نتنياهو، مؤكدة أن مكان تلك الجالية هو الدانمارك حيث تعيش منذ قرون، مشددة على أنها جزء من المجتمع.
وبدورهم، رفض يهود الدانمارك -الذين يبلغ تعدادهم ثمانية آلاف يهودي- دعوة نتنياهو، وقال الناطق باسم الطائفة اليهودية هناك جيب جوهل: "إننا دانماركيون، ولن يدفعنا الإرهاب للهجرة إلى إسرائيل".
وفي برلين، رفضت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل دعوة نتنياهو مشددة على مواصلة اليهود الألمان العيش بشكل جيد في بلادها، وتعهدت بأن تبذل الحكومة وإدارات الولايات ما في وسعهم لضمان سلامة المؤسسات اليهودية والمواطنين الألمان اليهود.
ومن جانبه، جدد الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند رفضه ترويج دوائر إسرائيلية أنه لم يعد هناك عيش لليهود في أوروبا، مؤكدا أن لليهود مكانتهم في أوروبا، خصوصاً فرنسا التي تضم أكبر عدد من أبناء هذه الطائفة في أوروبا بواقع 600 ألف. وناشد هولاند حكومة نتنياهو التوقف عن استثمار الأحداث الإرهابية التي تشهدها أوروبا لتحصيل مكاسب انتخابية محلية.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.