الطريق غير معبد لـ"حرب لبنان الثالثة"

حزب الله شيع اليوم جهاد عماد مغنية الذي قتل في غارة إسرائيلية في القنيطرة في ضاحية بيروت الجنوبية في يناير 19 2015
الجزيرة

ردع الحزب
القرار في طهران
الانتخابات الإسرائيلية

رد حزب الله إذن على اغتيال إسرائيل لثلة من قادته العسكريين وجنرال إيراني، بعمليتين محدودتين في الجولان وجنوب لبنان، ويصح افتراض أن ما قام به دفعة أولى من وجبات الرد القادمة إلا إذا اكتفى الحزب بذلك، مع الحملات الدعائية المصاحبة لهما لامتصاص غضب قواعده التنظيمية التي لن تكتفي بقتيلين إسرائيليين مقابل ستة من مسؤولي الحزب العسكريين الكبار، وإلا فستصبح مصداقية الحزب وأمينه العام على محك لا يحسد عليه البتة، وهو الذي هدد وتوعد إسرائيل بالويل والثبور وعظائم الأمور، وألغى نظرية "ما بعد حيفا"، وصولا لقاعدة "ما بعد الجليل"!

ردع الحزب
كان متوقعا أن يرد حزب الله على خسارته الفادحة بتصفية قادته العسكريين في القنيطرة السورية، لكن الاجتهادات التي قدمها الكثيرون تمحورت حول طريقة الرد، ومداه المتوقع، وجغرافيته الميدانية، وعمقه الزمني.

 يدرك حزب الله حين أصدر قرار الانتقام  أن مآلات هذه العملية مرتبط بالدرجة الأولى بعدد الخسائر الإسرائيلية، وربما كان، وما زال، يود ألا تتدحرج الأمور نحو "حرب لبنان الثالثة" لأكثر من اعتبار وسبب

وجاءت عمليتا الجولان وجنوب لبنان في الأيام الأخيرة لتؤكدَا تقديرات إسرائيلية مفادها أن الحزب لن يقوى على امتصاص استهداف قادته العسكريين، ولذلك بلغ التأهب الإسرائيلي في الشمال ذروته القصوى في الإجراءات الأمنية والاحتياطات الميدانية، إلى أن جاءت عملية شبعا، وسقط فيها قتيلان إسرائيليان وأوقعت عدة إصابات في صفوف الجنود.

لم تأت العملية بعيدة عن سياقاتها العسكرية والاستخبارية، بل جاءت في ذروة التوقعات، ثم تلتها جملة تساؤلات طرحت في تل أبيب وبيروت: هل ستؤدي هذه العملية إلى تدحرج كرة الثلج رويدا رويدا لتصل الأمور إلى مواجهة مفتوحة بين حزب الله وإسرائيل، وأين تكمن إيجابيات وسلبيات مثل هذه الحرب الشاملة، وكيف تنظر عواصم صنع القرار في الإقليم لمثل هذه المعركة؟ 

أسئلة عديدة لم تجد لها إجابات شافية حتى كتابة هذه السطور، على اعتبار أن كل الخيارات قائمة، وجميع السيناريوهات ما زالت تمتلك من الوجاهة والترجيح نسبة كبيرة.

حزب الله من جهته، يدرك حين أصدر قرار الانتقام لاغتيال قادته العسكريين أن مآلات هذه العملية مرتبط بالدرجة الأولى بعدد الخسائر الإسرائيلية، قتلى وجرحى، عسكريين أو مدنيين، وربما كان، وما زال، يود ألا تتدحرج الأمور نحو "حرب لبنان الثالثة" لأكثر من اعتبار وسبب.

يدرك الحزب أكثر من غيره أن أي اشتعال لحرب لبنان الثالثة سيعني دمار البلد كله عن بكرة أبيه، وعودته عقودا إلى الوراء كما هدد بذلك أكثر من وزير إسرائيلي، فكيف والحال في ظل انتخابات إسرائيلية، وهو يعلم تماما أن المزايدات الانتخابية في تل أبيب تبلغ ذروتها عند الحروب مع العرب.

وليس سرا أن حلفاء الحزب في طهران بالذات تواصلوا مع حلفاء إسرائيل في واشنطن لإبلاغهم بأن رد الحزب على اغتيال قادته قد انتهى عمليا، مما دفع الجبهة الداخلية الإسرائيلية للطلب من المستوطنين في الشمال العودة إلى منازلهم، بعد أن أخذوا طمأنات جدية من الحكومة والجيش بذلك، بناء على بلاغات سياسية عالية المستوى بين واشنطن وتل أبيب وطهران وبيروت. 

القرار في طهران
ربما لا يحتاج كاتب السطور لتأكيد المؤكد بأن قرار رد حزب الله على تصفية مسؤوليه اتخذ بالتنسيق الكامل مع حليفيه الكبيرين: طهران ودمشق، لأنهما الأكثر تأثيرا وتأثرا بأي مواجهة قاسية قد تنشب مع تل أبيب، والراجح أن الأطراف الثلاثة: حزب الله وإيران وسوريا أرادوا أن يكون الرد على إسرائيل مؤلما وقصيرا ومحدودا، بحيث لا يستفز صانع القرار الإسرائيلي الذي يخوض معركة انتخابية حامية الوطيس.

وبالفعل فقد قتلت عملية حزب الله وأصابت عددا من الجنود الإسرائيليين، ووفقا للتسريبات المتداولة بين الجانبين، فيبدو أن نتنياهو تجرع هذه الضربة المؤلمة "مؤقتا"، كي لا يقع في ورطة أكبر تتمثل بحرب سوف تعتبر بالنسبة له الوصفة السحرية لسقوطه المدوي في الانتخابات أواسط مارس/آذار القادم.

لا يخفى على الحزب أن خلفه جمهورا لبنانيا عريضا لا يؤيد أي مواجهة مع إسرائيل، ولا يقف عند ذلك فحسب بل يأخذ على الحزب أن ورط الدولة اللبنانية في الحرب السورية الدائرة لحسابات أبعد ما تكون عن أنها لبنانية، وقد تكون "مقاولة بالباطن" لخدمة مصالح إيران 

ومع ذلك، فإن حسبة رياضية بسيطة تؤكد أن عملية شبعا لن توازي الخسارة الباهظة التي تكبدها الحزب في القنيطرة، وإن اكتفى الحزب بها، فقد يكون كفى نفسه شر حرب مستطيرة مع إسرائيل، لكنه سيبدو مردوعا منها بصورة لا تخطئها العين، بسبب حسابات إقليمية بالأساس أكثر من كونها تتعلق بالأبعاد الميدانية.

الحزب ذو العلاقة الإستراتيجية مع سوريا يدرك تماما أن رفع سقف الرد على استهدافه المؤلم قد يسحب دمشق مضطرة مجبرة لمواجهة مع إسرائيل، وهي لا تكاد تواجه المجموعات المسلحة بدون الدعم الإيراني وحزب الله، فكيف لو تدحرجت الأمور إلى حرب مدمرة؟

كما أن الأخ الأكبر المقيم في طهران مقبل بعد أسابيع قليلة على استكمال مفاوضات البرنامج النووي، ولا يبدو كمن يدعم حربا تستهدف إسرائيل من أقصاها إلى أقصاها، مما جعله يوافق على الانتقام منها، ولكن بهدوء ودون جرح كبريائها العسكري كما فعلت هي بهم في القنيطرة.

طبعا لا يخفى على الحزب أن خلفه جمهورا لبنانيا عريضا لا يؤيد أي مواجهة مع إسرائيل، ولا يقف عند ذلك فحسب بل إنه يأخذ على الحزب أن ورط الدولة اللبنانية في الحرب السورية الدائرة لحسابات أبعد ما تكون عن أنها لبنانية، وقد تكون "مقاولة بالباطن" لخدمة مصالح إيران في المنطقة.

هذه الاعتبارات وسواها جعلت الحزب يقدم على عمليته "المحدودة زمانا ومكانا واستهدافا" في مزارع شبعا، ومع ذلك فليس هناك من ضمانات بألا يلجأ لتكرار مثل هذه العمليات المحدودة في مناطق جغرافية أخرى كالجولان مثلا، تمهيدا للدخول مع إسرائيل في "حرب استنزاف".

الانتخابات الإسرائيلية
هنا ينتقل بنا الحديث إلى الموقف الإسرائيلي، الذي بدا رده على رد حزب الله على اغتيال قادته باهتا على غير العادة، ليس بالضرورة لقصور في القدرات العسكرية، فالكل يعلم أن الجيش الإسرائيلي يمتلك الترسانة التسليحية الأقوى في المنطقة، لكن الاعتبارات الانتخابية الداخلية، والتحفظات الأميركية، واشتعال الإقليم حولها، أدت دورها في كبح جماح تل أبيب عن توجيه رد مؤلم ضد الحزب في قلب الضاحية، معقل حزب الله في لبنان.

في ذات الوقت، فإن امتناع إسرائيل عن تصعيد الموقف ضد حزب الله لا يعني أنها طوت صفحة جنودها القتلى في شبعا، وهي تعلم أن صمتها هذا قد يشجع الحزب على تكرار مثل هذه العمليات بوتيرة أشد وجعا لها، ولذلك يمكن التقدير بأن تل أبيب تتريث لاقتناص هدف ثقيل العيار، أو تنفيذ عملية استخبارية، أو تكرار اغتيال في سوريا أو لبنان، بحيث لا يبدو الموقف مثل كرة ثلج تدحرجت بدأت برد ثم رد على الرد، حتى يشتعل صاعق القنبلة!

الراجح بين حزب الله وإسرائيل أن عملية شبعا لم تعبد الطريق بعد لحرب لبنان الثالثة، فدونها الكثير من العقبات والكوابح، لدى الجانبين، لكن بكل تأكيد ستكون هذه الحرب على أجندة الفائز في الانتخابات الإسرائيلية القادمة، ولاسيما أن الشهرين القادمين سيحملان الكثير من التطورات الميدانية المتلاحقة في لبنان وسوريا وإسرائيل.

الراجح أن عملية شبعا لم تعبد الطريق بعد لحرب لبنان الثالثة، فدونها الكثير من العقبات والكوابح، لدى الجانبين، لكن بكل تأكيد ستكون هذه الحرب على أجندة الفائز في الانتخابات الإسرائيلية القادمة

وبين الرد "الحقيقي وليس الاستعراضي" المطلوب من حزب الله، والدخول في حرب شاملة مع إسرائيل قد تكلفه الكثير الكثير، وتورطه في مواجهة داخلية مع جمهور كبير غير راض عن أدائه السياسي في السنوات الأخيرة، يبقى سيناريو العمليات المتكررة الشبيهة بحرب استنزاف، من خلال اتفاق غير مكتوب مع إسرائيل يجعلها ترد في أماكن وأهداف لا تؤلم خاصرة الحزب كثيرا.

حرب الاستنزاف المتوقعة على جبهتي الجولان وشبعا، سيبدو الحزب سعيدا لو انضمت إليها جبهة غزة، وهي التي تحث الخطى سريعا للعودة مجددا إلى حلفاء الأمس في إيران وبيروت، وقد يكون ذلك طلبا إيرانيا مباشرا لمشاغلة إسرائيل بعيدا عن الحليف المثخن بجراحاته في دمشق، لكن الرأي العام الفلسطيني في القطاع المدمر لا يبدو مع أي دخول في مغامرة غير محسوبة العواقب مع إسرائيل، وهو ما زال يلملم جراحاته من الحرب الأخيرة، وما زال يذكر أن جبهة لبنان خيم عليها "صمت القبور" في حين كانت غزة تدك بالصواريخ طوال 50 يوما.

وإن أقصى ما قد تقدمه غزة للحزب لا يعدو بيانات التأييد والتضامن مع أي عملية ينفذها الحزب ضد إسرائيل، أما أكثر من ذلك فهو تحميل للفلسطينيين فوق ما يحتملون، ولسان حالهم يقول: معركة الحزب وإسرائيل لا ناقة لنا فيها ولا جمل، فلماذا نتطوع لنكون قربانا على مذبح الاستقطابات الإقليمية مجددا؟

ومع ذلك، فإن الحدود اللبنانية الإسرائيلية التي تبدو كمنطقة رمال متحركة، قد تفاجئ صناع القرار في تل أبيب وبيروت باتخاذ قرارات لا يريدونها، ومنها الدخول في مغامرة حرب لبنان الثالثة، ولاسيما إن تزايدت الضغوط على حزب الله إن اكتفى بهذه العملية، لأنه سيبدو وقد أصيب بالعدوى من حليفه السوري صاحب مقولة إن "الرد على إسرائيل في الزمان والمكان المناسبين".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.