هل وعينا درس "الكساسبة" جيدا؟
كان إعدام معاذ الكساسبة الطيار الأردني الأسير لدى "تنظيم الدولة الإسلامية" أمرا متوقعا، وتنفيذ ذلك بطريقة قاسية كان واردا كذلك قياسا على تجارب سابقة للتنظيم في قتل رهائنه وأسراه، أما قتله حرقا فلعله لم يرد على ذهن أحد حتى وقع!
تفسير الحادث
لا يختلف الفقهاء قديما ولا حديثا في أنه لا يجوز إحراق البشر ولا غيرهم من الأحياء لأي غرض مهما كان جرمهم، وكلام الفقهاء فقط في جواز الإحراق على سبيل القصاص ممن أحرق إنسانا حيا، وفي إحراق الموتى إن كانت أجسادهم تحمل وباء ولم تكن ثمة وسيلة لمنع انتشاره بين الأحياء إلا هذه، أي عند الضرورة فحسب.
وما ورد عن إحراق أبي بكر الصديق رضي الله عنه للفجاءة السلمي خبر ضعيف لم يثبت، وأما تحريق علي بن أبي طالب رضي الله عنه لبعض الزنادقة فقد راجعه فيه عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، وأورد عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يثبت أن المشروع في حقهم هو قتلهم دون حرقهم كما هي رواية البخاري في الجامع الصحيح.
إحراق الكساسبة جاء لترويع الخصوم، وإشعارهم بأن كلمة التنظيم واحدة، وأن تهديداته جادة وليست مجرد كلام يطلقه في الهواء، وأن أطراف التحالف الدولي العاملة ضده من بلاد المنطقة ومواطنيها غير الموالين له ستكون أول أهدافه |
وخطورة الارتفاع في وتيرة التحفيز الدولي ضد "تنظيم الدولة" تكمن -قبل أي شيء- في ترويع واشنطن وحلفائها لدول المنطقة بهذه "الفزاعة"، ودفع هذه الدول إلى إنشاء تحالفات والالتزام بسياسات ضارة بمصالحها السياسية والاقتصادية ومهدِّدة لوجودها واستقلالها نفسه الآن وفي المستقبل، في حين أن الأمر لو عولج عربيا على أنه مشكلة داخلية، لكانت القوى الكامنة في دول المنطقة -على افتراض أننا نفكر باستقلالية وندرك مكامن القوة في مجتمعاتنا الغنية بالطاقات البشرية المتنوعة- قادرة على إنهاء الأزمة بالطريقة الملائمة.
إننا بحاجة ماسة وعاجلة إلى أن ننهي مرحلة القصور السياسي الذي يلازمنا منذ زمن طويل، ولا نترك غيرنا يقوم معنا بوظيفة ولي اليتيم الجائر أو حتى العادل.
ماذا وعينا؟
إن أول رد فعل سجله مدونو مواقع التواصل عقب إحراق الطيار الشاب معاذ الكساسبة هو الاستنكار الشديد لهذا التصرف القاسي والمشين، إلا أن كثيرا من هؤلاء المدونين تساءلوا عن إحراق المعتصمين في ميداني رابعة العدوية والنهضة بالقاهرة، ولماذا لم يهتز له العالم كما اهتز لإحراق شاب واحد ليس -على أي حال- أحق بالحياة من ضحايا الانقلاب في مصر؟!
بل كتبت إحدى المدونات المصريات تقول في دائرة أوسع من هذا بكثير: "العالم الذي اهتز لصورة الطيار الأردني هو نفس العالم الذى صنع، ودعم، ونفذ المجازر والمحارق في مصر وسوريا وغزة ومالي وبورما، عالم الخسة والنفاق"!
ونلتقط الخيط من هنا لنقول: إن التناقض الذي أظهره العالم في رد فعله على إعدام الكساسبة مقارنة بحوادث أخرى أشد شناعة استُخدم فيها الحرق الجماعي، والدهس بالسيارات، والإجهاز على الجرحى، واغتيال العُزل، وقتل الناس تعذيبا على أيدي أنظمة حاكمة مدعومة غربيا بقوة، هذا التناقض يؤكد أن حسابات المجتمع الدولي هي التي وضعته في التناقض، وأن مصالح الدول الكبرى تدفعها إلى الصمت على أي جريمة، بل إلى التواطؤ مع أي جريمة ترى أنها تخدم تلك المصالح.
والكلام مع هؤلاء لا يجدي ما دام واقعنا نفسه بهذا الاهتراء والتشرذم، ومجال الكلام مع قومنا لا غيرهم، فليس حل الأزمة الضخمة التي نشأت بظهور "تنظيم الدولة" ذاتيا بالأمر الذي يستحيل، والتحالف الدولي المجيَّش ضد التنظيم ما جاء لحل الأزمة، ولكن لتعقيدها، وقطف الثمار منها، ولهذا فإن علينا -للقيام بمهمة الحل الذاتي هذه- أن نفهم الأمور على وجهها أولا، وبناء على ذلك نختار من المواقف أليقها وأكثرها منطقية وواقعية.
إن كثيرين لم يفهموا أن الإسلام في بلادنا لا يمكن إلغاؤه أو تدجينه، أو توظيفه خادما في قصور السياسة يسوّغ لأهلها أهواءهم، ولم يدركوا كذلك أن الضغط على الإسلام والتضييق على أهله أمنيا وفكريا ومعيشيا قد يؤدي إلى نتائج مروِّعة كالذي رأيناه ونراه، بل أشد، فشعوبنا لا يعجبها أن ترى دينها قد أُقصي عن المشهد، أو فُرِّغ من مضمونه، أو حُنِّطت جثته باعتباره تذكارا من الأجداد، وزيادة الضغوط -في مثل هذه الحال- إن لم تُحدِث عوجا وتشوّها، فإنها تولِّد انفجارا.
أظهر العالم تناقضا كبيرا في رده على إعدام الكساسبة مقارنة بحوادث أخرى أشد شناعة استُخدم فيها الحرق الجماعي، والدهس بالسيارات، والإجهاز على الجرحى، واغتيال العُزل، وقتل الناس تعذيبا على أيدي أنظمة مدعومة غربيا |
ولا ينبغي أن ننتظر حتى يصل بنا السفه إلى أن نقول في ساعة ندم لا تنفع: نحن قتلنا الحل بأيدينا، وسرنا ضد التاريخ بأنفسنا، فالإسلاميون الذين دخلوا علينا من الباب (بالانتخابات والعمل في وضح النهار في الأعمال الخيرية والخدمة الاجتماعية) قتلناهم وأحرقناهم واعتقلناهم وشردناهم كل مشرَّد، فلا عجب أن يخرج لنا إسلاميون آخرون من الكهوف والجبال وبطون الأودية!
إن الثورات التي اندلعت في بعض البلاد العربية خلال السنوات الأخيرة قد ترجمت كم السخط الذي تحمله الشعوب على الاستبداد والظلم والفساد الذي حكمها دهرا وخلَف الاستعمار في أوطاننا شر خلافة. وردُّ الفعل الطبيعي الذي كان ينبغي هو أن يراجع أولو الأمر سياساتهم، ويفيقوا بعد أن بلغنا مستوى من الضعف لا مثيل له في تاريخنا كله.
إن الشعوب قدمت لممارسة الإسلام في عصرنا صيغا مختلفة، منها المتساهل، والمعتدل، ومنها المتشدد نوعا ما، والمتشدد تشددا قياسيا، وكل هذه الصيغ تأثرت بالضغوط والتشويهات التي صنعت السياسة الداخلية أكثرها، وحين تغيب الظروف التي تصنع التطرف، فلن تكون الغلبة إلا للاعتدال في الفكر والاستقامة في الممارسة، ولن نرى مشايخ يقودون تنظيمات متطرفة تتقرب إلى الله بقتل الناس، وفي الجبهة الأخرى لن نرى مشايخ في سفينة الانقلابات العسكرية ولا في قصور الاستبداد.
لقد شاع بين الناس أن الثلاثي الذي يقتل الأمم هو: الفقر، والجهل، والمرض، وكان يحلو لبعض المفكرين أن يضيف إليها قاتلا رابعا هو الاستبداد السياسي. ولعله جدها وراعيها الأكبر، وقد يمتِّع أصحابه زمنا ما بالنفوذ والمال، لكن التاريخ ستكون له كلمة أخرى، كما أن الجماهير غير الراضية لن تفوِّت فرصة الانفجار حين تتاح لها.
وليست هذه دعوة إلى تسليم الحكم إلى إسلاميين معتدلين أو غير معتدلين، فهذا حق خالص للشعوب تقرره وحدها، ولكنها دعوة إلى قيام ولاة الأمر أنفسهم بواجبهم في الحفاظ على هوية البلاد والعباد، وأن يقدموا من أنفسهم نماذج حقيقية تعكس انتماءهم وانتسابهم إلى أمتهم ودينهم.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.