تركيا والانتقال إلى النظام الرئاسي

قصر رئاسي تركي جديد يثير جدلا - تعليم العربية
غيتي إيميجز

مبررات النظام الرئاسي
مخاوف المعارضين
مسار الانتقال

لم يكن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أول من طرح قضية الانتقال من النظام البرلماني إلى الرئاسي في تركيا، فقد سبقه إلى ذلك كل من الرئيسين تورغوت أوزال وسليمان ديميريل، لكن يمكن القول إن أردوغان هو الوحيد الذي بذل خطوات فعلية في هذا المجال عندما أمر قبل سنتين بتشكيل لجنة برلمانية مهمتها إعداد دستور جديد يلحظ الانتقال إلى النظام الرئاسي.

ومع أن اللجنة فشلت وتم حلها إلا أن الجدل بشأن تبني النظام الرئاسي عاد بقوة إلى الساحة التركية مع فوز أردوغان بالانتخابات الرئاسية وعزمه ترؤس جلسات الحكومة والسعي إلى وضع دستور جديد عقب الانتخابات البرلمانية المقررة في يونيو/حزيران المقبل.

مبررات النظام الرئاسي
ثمة مقولة رائجة في الشارع التركي اليوم تقول إن تركيا قوية بحاجة إلى نظام رئاسي قوي، وثمة من يرى أن طبيعة شخصية أردوغان لا يمكن أن تقبل الجلوس في قصر الرئاسة فقط كشخصية رمزية تقوم بمهام شرفية، فالرجل الذي أسس وتزعم حزبا نقل تركيا من مرحلة إلى أخرى ومن حال إلى آخر له طموحات كبيرة لا حدود لها، وهو يرى أن مشروعه لن يكتمل إلا بصلاحيات قوية تمكنه من تحقيق أهدافه المرسومة لحين عام 2023 أي الذكرى المئوية الأولى لتأسيس الجمهورية التركية.

ثمة مقولة رائجة في الشارع التركي اليوم تقول إن تركيا قوية بحاجة إلى نظام رئاسي قوي، وثمة من يرى أن طبيعة شخصية أردوغان لا يمكن أن تقبل الجلوس في قصر الرئاسة فقط كشخصية رمزية تقوم بمهام شرفية

الدعوة للانتقال إلى النظام الرئاسي يبررها أصحابها بمجموعة من الأسباب الضرورية كما يرون، ولعل أهمها:

1 – أن النظام السياسي الحالي والموصوف بالبرلماني يعاني خللا في العلاقة بين السلطتين التنفيذية والتشريعية، أي الحكومة والبرلمان، حيث يشكو الثاني من سيطرة الأولى، وعليه فإن الانتقال إلى النظام الرئاسي سيحل هذا الخلل من جهة، ومن جهة ثانية سيجعل النظام السياسي أكثر استقرارا.

ولعل أهمية هذا الأمر تتضح في ظل الحكومات الائتلافية التي تعاني عادة من عدم الانسجام أو التوافق، وهو ما يؤثر في الاستقرار السياسي والخطط الحكومية، ولا سيما الاقتصادية منها.

2- أن الدور القوي للنظام الرئاسي ينبع من طريقة الاقتراع في الانتخابات الرئاسية بالبلاد، حيث للمرة الأولى جرى الاقتراع بشكل مباشر من الشعب خلافا للمرات السابقة التي كانت تتم من داخل البرلمان، وعليه يرى أنصار النظام الرئاسي أن الرئيس بات يمثل الشعب الذي طالما فاز بأصواته.

3- أن تركيا -التي حققت خلال العقد الماضي نجاحات كبيرة، ولا سيما في المجال الاقتصادي وشهدت تغيرات سياسية داخلية عميقة واكتسبت نفوذا إقليميا ودوليا- باتت بحاجة إلى دستور جديد يعبر عن هذا الدور ويعكس هذا الصعود في النفوذ والمكانة، وهو ما يعني أن يقوم الرئيس بإدارة الملفات الأساسية، ولا سيما ملف السياسة الخارجية.

4- أن الحديث عن ضرورة الانتقال إلى النظام الرئاسي لا يمكن تصوره بعيدا عن شخصية أردوغان الذي يرى أن النظام الرئاسي سيخلص السلطات التنفيذية والتشريعية من البيروقراطية الموجودة والإجراءات الروتينية، وسيعطي قوة دفع كبيرة للسياستين الداخلية والخارجية في تطلعهما نحو أهدافهما المرسومة عام 2023 من خلال إنجاز سلسلة ضخمة من المشاريع الاقتصادية والقيام بإصلاحات سياسية حقيقية وحل القضايا المزمنة ولا سيما القضية الكردية، على أمل أن يضع كل ما سبق تركيا ضمن قائمة أفضل عشرة اقتصادات في العالم.

مخاوف المعارضين
مقابل المبررات -التي يقدمها المطالبون بالانتقال إلى النظام الرئاسي- ثمة مخاوف وأسباب لدى المعارضة الرافضة هذا الانتقال، ولعل من أهم هذه المخاوف والأسباب:

1- الخوف من أن يكون الانتقال إلى النظام الرئاسي مدخلا لحكم شمولي دكتاتوري، إذ ترى المعارضة أن الرئيس أردوغان سيستغل هذا الانتقال ليصبح حاكما مطلقا بما يشكل خطرا على الديمقراطية والتعددية في البلاد، فحسب النائب عن حزب الشعب الجمهوري المعارض أنور أويمن فإن لدى أردوغان مشكلة كبيرة مع التعددية والعلمانية، ويسعى جاهدا لإرساء الدكتاتورية خطوة تلو خطوة، فيما يرى حزب الحركة القومية بزعامة دولت باغجلي أن النظام البرلماني هو الأنسب لتركيا. 

يتخوف معارضون من أن يكون الانتقال إلى النظام الرئاسي مدخلا لحكم شمولي دكتاتوري، ويرون أن أردوغان سيستغل هذا الانتقال ليصبح حاكما مطلقا بما يشكل خطرا على الديمقراطية والتعددية في البلاد

وفي العمق يمكن القول إن المعارضة الضعيفة والمنقسمة والمشتتة تخشى من أن يؤدي النظام الرئاسي ليس إلى الدكتاتورية فحسب بل إلى القضاء على بقايا نفوذها السياسي والبرلماني.

2- بعيدا عن المخاوف من الدكتاتورية ثمة رؤية تقول إن تركيا غير جاهزة للانتقال إلى النظام الرئاسي، ويرى أصحاب هذه الرؤية أن الاستشهاد بالنظام الرئاسي في الولايات المتحدة كمثال للاقتداء به فيه ظلم كبير، فهناك مسار تاريخي لم يتحقق بعد، وهناك قضايا جوهرية عالقة في طبيعة الحكم بتركيا.

فعلى سبيل كيف سيكون الحكم المحلي في المحافظات؟ هل سيتم اعتماد هذا الحكم بمفاهيمه الحقيقية كما هو الحال في أوروبا وأميركا؟ وهل سيتم انتخاب حكام الأقاليم والمحافظات على الطريقتين الأوروبية والأميركية من قبل الشعب مباشرة أم سيتم تعيينهم من قبل الحكومة كما هو متبع حاليا؟ وماذا بالنسبة لصلاحيات رئيس الوزراء؟ هل سيتم تقاسمها مع رئيس الجمهورية في حال الانتقال إلى النظام الرئاسي أم سيتحول إلى مجرد موظف ينتظر تعليمات الرئيس وينفذها دون نقاش أو رأي؟

دون شك سيفتح الانتقال إلى النظام الرئاسي الجدل في كل الاتجاهات بشأن القضايا العالقة والتي ربما تثير المزيد من الانقسام في المرحلة المقبلة.

3- هناك رؤية تخشى من يؤدي الانتقال إلى النظام الرئاسي إلى تحرك الجيش، وأصحاب هذه الرؤية يعتقدون أنه رغم نجاح حكومة العدالة والتنمية في الحد من دور المؤسسة العسكرية التركية وتدخلها في الحياة السياسية والعامة فإن الجيش ما زال يحتفظ بالعديد من عناصر قوته ويتحين الفرصة للتحرك، وإن الانتقال إلى النظام الرئاسي الذي سيتوج أردوغان بصلاحيات مطلقة قد يشكل مدخلا لهذا التحرك باسم الحفاظ على الديمقراطية والمبادئ العلمانية للجمهورية من رئيس يسعى إلى استعادة العثمانية ويعمل لأسلمة الدولة والمجتمع.

مسار الانتقال
بغض النظر عن مبررات الداعين إلى النظام الرئاسي والرافضين له معا ثمة وقائع في الحياة السياسية التركية باتت تتحكم بمسار العمل السياسي ورسم التوجهات المستقبلية للبلاد، ويبدو أن قواعد اللعبة الديمقراطية التي تنطلق من صناديق الاقتراع هي التي تحدد مسار المشهد السياسي.

وعليه، يمكن فهم تركيز أردوغان على صناديق الاقتراع في كل الانتخابات التي جرت خلال العقد الماضي إلى درجة أنه يقود الحملات الانتخابية بنفسه بما في ذلك المحلية.

وتأسيسا عليه، فإن الانتخابات البرلمانية المقررة في يونيو/حزيران المقبل ستكون مصيرية وحاسمة للقوى السياسية والحزبية، إذ إن البلاد لن تشهد بعد ذلك بأربع سنوات أي انتخابات، والفائز بهذه الانتخابات سيرسم الكثير من الملامح السياسية للمرحلة المقبلة.

إن مجمل الإجراءات التي سيتخذها أردوغان ستكون كافية لجعل الحكم في البلاد أقرب إلى الرئاسي حتى لو لم يتم إقرار مثل هذا الانتقال في الدستور الجديد، وهو ما سيدفع المعارضة للقبول في النهاية بالانتقال قانونيا إلى النظام الرئاسي

معركة أردوغان وحزب العدالة والتنمية في هذه الانتخابات هي الفوز بثلثي الأصوات كي يتمكن من إقرار دستور جديد في البرلمان دون الحاجة إلى استفتاء عليه، وفي الحد الأدنى الحفاظ على النسبة الحالية كي يتمكن من عرض الدستور على الاستفتاء إذا لم يحصل على ثلثي الأصوات، وبغير هذه النتيجة تصبح معركة إقرار دستور جديد صعبة ما لم يستجب الأخير (الدستور الجديد) لمطالب المعارضة والحركة الكردية التي تطالب الاعتراف الدستوري بالقومية الكردية في البلاد إلى جانب جملة من المطالب الأخرى لعل أهمها الانتقال إلى الحكم المحلي في إدارة الأقاليم.

بانتظار اتضاح مسار الأمور أكثر فإن أردوغان بدأ عمليا بتهيئة الوضع للانتقال إلى النظام الرئاسي ليس من خلال إثارة النقاش والجدل بهذا الخصوص فحسب وإنما باتخاذ خطوات متلاحقة، تتجسد في إعلان ترؤسه جلسات الحكومة في الفترة المقبلة، وعزمه تشكيل ما يشبه لجنة أو مجلس حكماء يتألف من مستشارين يقوم بنوع من الإشراف على عمل الحكومة في المجالات الاقتصادية والسياسية، وهو ما يعني تفعيل السلطات الخاملة لرئيس الجمهورية، حيث من صلاحياته وفق الدستور سلطة تعيين رئيس الوزراء وترؤس اجتماعات الحكومة ورئاسة مجلس الأمن القومي ومجلس الإشراف على الدولة الذي يتولى تدقيق الهيئات العامة.

وبالتالي فإن مجمل الإجراءات التي سيتخذها أردوغان ستكون كافية لجعل الحكم في البلاد أقرب إلى الرئاسي من البرلماني حتى لو لم يتم إقرار مثل هذا الانتقال في الدستور الجديد، ولعل مثل هذا الأمر يشكل خطة (ب) السرية في يد أردوغان لدفع المعارضة إلى الموافقة على الانتقال إلى النظام الرئاسي بشكل قانوني، وتخفيفا لحدة الانقسام والصدام الداخلي.

ولعل ما يدفع أردوغان إلى اعتماد المسار الأخير هو طموحه ليس إلى نظام شبه رئاسي وإنما إلى نظام رئاسي بصلاحيات قوية إن لم تكن مطلقة بما في ذلك حل البرلمان.

ما يمكن قوله في الختام إن مسار الانتقال إلى النظام الرئاسي بدأ فعليا مع وجود أردوغان في قصر الرئاسة، وهو مسار يدعو إلى الكثير من التأمل لما ستكون عليه تركيا في المرحلة المقبلة، إذ إن الأمر لا يتعلق بالصلاحيات الدستورية لرئيس تركيا فحسب، بل بالخيارات السياسية لدولة إقليمية مهمة في منطقة تشهد تطورات عاصفة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.