مجزرة "الدفاع الجوي" وفشل سياسة الإقصاء

شباب الألتراس نظموا مظاهرة حاشدة السبت أمام دار القضاء العالي

طبيعة النظام
الألتراس
فشل سياسة المواجهة

تعد مجزرة ملعب الدفاع الجوي في القاهرة حلقة جديدة من سلسلة طويلة من العنف الرسمي المعتمد من النظام القائم في مصر منذ 30 يونيو/حزيران 2013.

إن طبيعة هذا النظام تدفعه إلى استهداف كل القوى المنظمة التي تعارضه. لقد حول النظام خلافاته مع معارضيه إلى صراع صفري، ومعركة النظام الأساسية ليست ضد الإخوان فقط وإنما ضد كل القوى المنظمة التي حركت ثورة يناير وشاركت فيها. والهدف النهائي هو إخلاء الساحة تماما لأجل ترسيخ دولة الامتيازات والفساد من جديد.

فلماذا يتم هذا؟ وهل يمكن للنظام أن ينجح في سياسته تلك؟

طبيعة النظام
لقد اختار النظام الحاكم سياسة القمع والإقصاء تجاه كل من يعارضه، وهو يقوم بتحويل معركة ثورة يناير من النضال من أجل الكرامة والحرية والعدل إلى معركة ضد الإرهاب وضد كل من يعارض النظام. وهذا أسلوب قديم في وأد حركات التحرر وإجهاض الثورات الديمقراطية، عرفته الكثير من دول أميركا اللاتينية وآسيا وأفريقيا.

قام النظام بحل كل المجالس المنتخبة للنقابات ونوادي أعضاء هيئة التدريس، ومد سيطرته على النقابات والجامعات تدريجيا مستخدما في ذلك انفراده بالتشريع من جهة، ودعم ضعاف النفوس والمنتفعين (أو المخدوعين) من جهة أخرى

ويستخدم النظام عدة وسائل للوصول إلى هدفه أولها تقسيم المجتمع إلي قسمين، إما أن تكون مع النظام أو تكون ضده، فالمباراة صفرية ولا مجال لحرية الرأي. وهذه سمة جوهرية من سمات الأنظمة الشمولية والتسلطية والعسكرية.

والأداة الثانية هي العنف، فلا يمكن إقصاء الآخر دون استهدافه بكل صور التنكيل والقمع بهدف إخضاعه بالكامل والقضاء على كل القوى المنظمة المعارضة. وقد أظهر النظام الصورة الأسوأ لأي جهاز قمعي بالعالم، إذ اتسم العنف بكل الصور السيئة من الاستعلاء على الشعب، والانتقام منه، وقتل المتظاهرين العزل، واعتقال عشرات الآلاف وتلفيق التهم لهم، ثم توجيه الملايين من الجماهير عبر الإعلام الموجه.

وقد بدأ النظام بالإخوان وكل القوى الإسلامية المعارضة، ثم قام بتهميش بعض الأحزاب من كافة التيارات، والسيطرة الأمنية على بعضها الآخر، ومع اقتراب الانتخابات البرلمانية يقوم النظام بتشكيل أحزاب أو قوائم انتخابية تابعة له. هذا بجانب سيطرته علي الإعلام.

كما قام النظام بحل كل المجالس المنتخبة للنقابات ونوادي أعضاء هيئة التدريس، ومد سيطرته على النقابات والجامعات تدريجيا مستخدما في ذلك انفراده بالتشريع من جهة، ودعم ضعاف النفوس والمنتفعين (أو المخدوعين) من الأكاديميين والإعلاميين والقضاة والسياسيين من جهة أخرى.

وقد نالت جماعات الألتراس ما نال أي جماعة منظمة تعارض السلطة في مصر كما سنعرض فيما يلي.

الألتراس
ظلت ظاهرة الألتراس منذ ظهورها في مصر عام 2007 غير مُسيسة، لكنها ناصبت الأمن والإعلام العداء على خلفية رياضية بحتة، رافضة تحويل الكرة إلى صناعة يستفيد منها الكبار على حساب الجمهور ورافضة الممارسات القمعية للشرطة في المدرجات. لكن مع اندلاع الثورة، وانكسار حاجز الخوف، شاركت مجموعات الألتراس في الأيام الأولى للثورة، واشتركت في حماية الميدان وأسر الشهداء والمصابين، وفي الضغط أثناء محاكمات مبارك. كما شاركت في مليونية 9 سبتمبر/أيلول 2011 التي انتهت باقتحام السفارة الإسرائيلية.

وفي أعقاب مجزرة ملعب بورسعيد في فبراير/شباط 2012 والتي راح ضحيتها 74 شخصا، تصاعد النشاط السياسي لجماعات الألتراس، وصار القصاص القضية الأولي لها. ثم مع اشتداد السياسة القمعية للدولة بعد 30 يونيو/حزيران وتصاعد الحملات الإعلامية التي تشوه جماعات الألتراس تصاعدت المصادمات مع أجهزة الشرطة.

وقبل مجزرة ملعب الدفاع الجوي، وقعت في 23 ديسمبر/كانون أول الماضي مصادمات بين ألتراس أهلاوي والشرطة في أعقاب قرار منع حضور الجماهير لمباريات الكرة، وفي اليوم التالي وقعت مصادمات بين رابطة مشجعي الزمالك (وايتس نايتس) والشرطة بعد إعلان رؤساء عشرة أندية مصرية اعتبار مجموعات الألتراس جماعات إرهابية وتكليف رئيس مجلس إدارة نادي الزمالك برفع دعاوى قضائية لحلها واعتبارها جماعات إرهابية.

هذه النزعة التصادمية الإقصائية هي السبب الأول لكل مشكلات مصر الحالية. نعم هذه الجماعات قد تتحمل جزءا من المسؤولية لكن جذور المسألة تمتد لحالة الاغتراب التي يعيشها الشباب منذ عقود طويلة من جهة، وحالة الإحباط المستمر الناتج عن غياب العدالة واستمرار القبضة الأمنية الباطشة بعد الثورة من جهة أخرى.

فشل سياسة المواجهة
ويمكننا الحديث عن سبعة أسباب رئيسية لفشل أي مواجهة أمنية أو أي محاولة لاحتواء هذه الجماعات من قبل السلطة القائمة:

جماعات الألتراس هي جماعات شبابية غير منظمة تنظيما هرميا تقليديا، ويمتلك أفرادها قدرات على الانتشار والتضامن والعمل الجماعي، كما أنهم يميلون للمغامرة والمخاطرة والتصعيد والعداء الدائم لجهاز الشرطة

أولا: طبيعة جماعات الألتراس، فهي جماعات شبابية وغير منظمة تنظيما هرميا تقليديا، ويمتلك أفرادها قدرات على الانتشار والتضامن والعمل الجماعي، كما أنهم يميلون للمغامرة والمخاطرة والتصعيد والعداء الدائم لجهاز الشرطة.

وما يجمع كل مجموعة فكرة بسيطة هي "القصاص أو استمرار الاحتجاجات والفوضى" وهذا في حد ذاته مصدر للقوة، لكن ومع استمرار سياسة القمع صارت هذه الجماعات أكثر تسييسا، ومن هنا فإن هناك صعوبة لهزيمتها وقمعها، والعنف تجاه هذه الجماعات لن يزيد أفرادها إلا إصرارا على مواجهة الشرطة والسلطة.

ثانيا: طبيعة جهاز الشرطة، فبرغم القمع الذي يمارسه هذا الجهاز ضد الجماهير العزل، فإنه في واقع الأمر يفشل في المواجهات المباشرة مع المسلحين. والشرطة التي لا تجد أي كابح أمامها في قتل العزل من مشجعي كرة القدم أو المتظاهرين السلميين في الميادين أو الطلاب في ساحات الجامعات لا تستطيع مواجهة أي هجوم من أفراد مسلحين، ويسيطر على أفرادها ما حدث في 28 يناير/كانون الثاني 2011 عندما هزم الشعب الشرطة. وتكفي الإشارة هنا إلى أنه في ذات يوم المجزرة تحدثت الأخبار عن فرار أفراد الشرطة من مسلحين شنوا هجوما مباغتا على نقطة شرطة في سوهاج واحتمائهم بالأهالي في المنازل المجاورة.

ثالثا: طبيعة السلطة القائمة، والتي فقدت كل قدراتها الشرعية على الضبط وتحولت إلى ما يشبه عصابة مسلحة تعمل لمصلحة فئة مسيطرة ضد بقية الشعب. إن مصر بوضعها هذا لا تختلف كثيرا عن الدول التي شهدت حروبا أهلية، بل إن مصر تعاني من ظاهرة أشد وطأة وهي ظاهرة الفاشية والمكارثية.

وبالتالي فمن غير الممكن أن تنجح هذه السلطة في احتواء هذه الجماعات التي هي جماعات متمردة بطبيعتها على الواقع المعاش ولا تثق في أي شكل من أشكال السلطة بما في ذلك سلطة مجالس إدارات الأندية.

كما أن تطاول رئيس مجلس إدارة نادي الزمالك علي جماعات الألتراس ومحاولته حل روابطها وإصدار حكم يعتبرها جماعات إرهابية يزيد الأمر تعقيدا. ولهذا كان طبيعيا أن تعتبر رابطة وايت نايتس ما جرى في ملعب الدفاع الجوي "مجزرة مدبرة وقتلا مع سبق الإصرار والترصد"، وأن تتهم رئيس النادي وبعض قيادات الشرطة بتدبير "كمين" ضدهم بعد رفض الرابطة الانصياع لرغبة رئيس النادي بتوزيع التذاكر على أفرادها مجانا مقابل التوقيع على استمارات تتضمن تنازلات منهم.

رابعا: الشحن الإعلامي ضد جماعات الألتراس وتخوينها في الإعلام يزيد الأمور اشتعالا. لقد صارت مصر منذ 30 يونيو ساحة لكل صور اللامنطق الإعلامي، وتصدر المشهد الإعلامي شخصيات كارثية تهدم المجتمع والدولة. وفي أثناء المجزرة الأخيرة كانت هناك تصريحات كارثية من رئيس نادي الزمالك ومن بعض الإعلاميين المحسوبين علي النظام. ولهذا لن يمكن حل هذه المسألة إلا بعد إيقاف تلك الحملات الإعلامية غير المسؤولة وإجراء تغيير شامل للجهاز الإعلامي العام والخاص.

إن استقراء التاريخ القريب يؤكد لنا أن سياسة الإقصاء هي السبب الأول لاندلاع الحروب الأهلية، وأنها ستفشل في نهاية المطاف. فلم يحدث مثلا أن قضى اليساريون على اليمينيين ولا اليمينيون على اليساريين في أي دولة في العالم

خامسا: هناك بعد آخر متصل بعدم ثقة جماعات الألتراس وغيرها من القوى السياسية والمجتمعية في القضاء المصري الذي أصدر -منذ 30 يونيو/حزيران- مئات الأحكام بالإعدام ضد المعارضين وصار بالتالي طرفا في الأزمة السياسية من وجهة نظر هذه القوى. بل وتشكوا جماعات المعارضة أيضا من انحياز النيابة العامة أثناء التحقيق مع المعتقلين. وفي الحادثة الأخيرة أحال النائب العام عشرات من الذين اعتقلتهم قوات الأمن للنيابة بتهم إثارة الشغب والتحريض. وهذا الأمر بلا شك يدفع هذه الجماعات إلى اللجوء للعنف والاحتجاجات بعد أن سدت كل الطرق السلمية للقصاص عبر قضاء عادل وناجز.

سادسا: خطورة سياسة الإقصاء التي يعتمدها النظام منذ 30 يونيو/حزيران والتي يريد من خلالها القضاء نهائيا علي كل معارضيه بما في ذلك روابط مشجعي الكرة. إن استقراء التاريخ القريب يؤكد لنا أن هذه السياسة هي السبب الأول لاندلاع الحروب الأهلية، وأنها ستفشل في نهاية المطاف. فلم يحدث مثلا أن قضى اليساريون على اليمينيين ولا اليمينيون على اليساريين في أي دولة في العالم.

وفي كل الحروب الأهلية لم يختف التيار الذي اُستهدف أبدا. وفي بعض الحالات يصبح للذي استهدف دولة مستقلة كما في جنوب السودان وشرق إندونيسيا وغيرها. وعادة ما تؤدي الحروب الأهلية إما إلى تقسيم الجيوش أو تدميرها بالكامل. بل وقد تنتهي في كثير من الحالات إلى التقسيم أو تدخل الخارج أو الأمرين معا. بجانب تراجع اقتصاديات هذه الدول عشرات السنين إلى الوراء.

وأخيرا: ثمة بُعد له علاقة بالهُوية. فهذه الجماعات ولاؤها الأول هو للنادي وبالتالي لا يثق الكثير من أفرادها في الأطر القديمة بما في ذلك الهُوية الوطنية، وهذا نتاج طبيعي لعولمة الثقافة وغزو الفضائيات الأجنبية وضعف البدائل الثقافية القائمة. وليس أدل على ذلك من أن أساليبهم في مواجهة خصومهم منقولة بالكامل من تجارب خارجية.

ومن هنا فإن معالجة هذه المسألة لن يكون إلا ضمن معالجة أشمل تتضمن بناء دولة القانون والمؤسسات والمواطنة ووضع برامج تنمية حقيقية للاقتصاد والسياسة والتربية المدنية والتمسك بكل مقومات الهوية من لغة ودين ومصير مشترك.

إن تاريخ نظم الحكم المعاصرة يؤكد لنا أن العنف الذي تستخدمه النظم التسلطية والعسكرية والشمولية يحوّل -في نظر فئات واسعة من الشعب- السلطة من طبيعتها الخيرة والشرعية إلي عصابة عنيفة ترى في كل من يعارضها خصما يجب القضاء عليه. لكن العنف الذي تعيش به هذه الأنظمة تسقط به أيضا عن طريق الانتفاضات والثورات والانقلابات وحركات العصيان.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.