هل المنطقة ذاهبة إلى الحرب؟
ليست الحرب في منطقة الشرق الأوسط خيارا محتملا، بل هي واقع حاصل، وبالتالي فإن السؤال عن احتمالية وقوعها، على ما تنشره التحليلات في الآونة الأخيرة جراء حالة التوتر الناشئة بين تركيا وروسيا، ينطوي على خطأ في القراءة، ولكن التساؤل المطروح هو: هل ستتطور الحرب وتتسع إلى صدام إقليمي ودولي مباشر واسع بين الأطراف المتصارعة في الإقليم؟
اعتمدت الحرب في المرحلة السابقة على وكلاء الأطراف الإقليمية والدولية من الداخل السوري والجوار الإقليمي في تطبيق نمطي كلاسيكي لمبدأ الحرب بالوكالة، لكن حالة التعب التي وصل لها بعض فرقاء الصراع واختلال موازين القوى دفع داعميهم إلى الانخراط المباشر في الحرب وعدم الاعتماد على الأدوات المحلية والإقليمية التي بدا أنها استنفدت ليس قوتها فقط وإنما أيضا المخزون الإستراتيجي لاحتياطي قدراتها.
يشّبه الكثير من المؤرخين الظروف التي تمر بها المنطقة بتلك التي سادت أوروبا في مرحلة ما قبل الحربين العالمتين الأولى والثانية، ففي هاتين الحالتين تمثّلت صواعق التفجير بأحداث لم يكن يتوقع أن تؤدي إلى حرب عالمية |
وقد استدعى هذا الأمر ذهاب الكتلة المقابلة للتحالف الروسي إلى رفع منسوب دعمها للتشكيلات التي تدعمها في محاولة لتثبيت أوضاعها في الصراع.
ولعل الخلفية الأساسية لهذا التطور تكمن في المتغير الأم المتمثل بالانسحاب الأميركي من المنطقة والذي أشعل دينامية من الصراعات على شكل سلسلة مترابطة في عدة أمكنة من الإقليم في محاولة لإعادة توزيع القوى بين الأطراف وملء المساحات التي يحصل فيها فراغ القوة في المنطقة جراء هذه التغيّرات العنيفة وخاصة بعد اندلاع ثورات الربيع العربي.
مؤشرات دالة
هناك جملة مؤشرات على تطور الصراع الحالي في المنطقة من أهمها:
أولا: زحمة المهمّات
تعج المنطقة، وفي مساحة جغرافية ضئيلة مقارنة بحجم القوى الموجود، بعدد كبير من المهمّات التي يقوم بها أصحابها بوصفها مأموريات ذات غرض محدّد وأجل معين.
فمن المهمة الروسية التي تدّعي محاربة داعش (تنظيم الدولة الإسلامية) بقصد صناعة عملية سلام في سوريا، إلى مهمة التحالف الدولي الذي تقوده أميركا لمحاربة داعش بقصد منع تمدّدها وابتلاع الجوار الجغرافي لدولة داعش، إلى المهمّة الفرنسية الحاصلة بعد هجمات باريس ضد داعش أيضا، فضلا عن المهمة الإسرائيلية ذات الطابع الأكثر ديمومة لمراقبة ومنع حزب الله من نقل السلاح القادم من إيران عبر البوابة السورية.
وينطوي هذا الازدحام على احتمالات صراع ممكنة بالنظر لحجم مكونات الخطر المشبع بها:
– تضارب الأهداف: وهو تضارب من الممكن أن يتطور إلى شكل من الصراع أكثر سخونة ومباشرة، ورغم ادعاء جميع الاطراف أنّ هدفها الأساسي القضاء على داعش لا يبدو أنّ أحدا معنيا حقا بهذا الهدف، وذلك إما لأن داعش لا تهدّد مصالح بعض الأطراف بشكل مباشر، وإما لرغبة هذه الأطراف في استمرار توظيف الخطر الداعشي للغطاء على أهدافها بعيدة المدى متمثلة في بناء مشاريع جيوسياسية أكبر من خطر داعش الموضوعي.
– افتقاد التنسيق: ونظرا لاختلاف الأهداف فـ إن هذا الازدحام في سماء المنطقة وفي بحارها يشكل بؤرة صراع كامنة وقابلة للانفجار في كل لحظة وذلك لعدم توفر إدارة واحدة وعملية تنسيق للفعاليات والعمليات العسكرية وتعدد غرف العمليات بما يضع الجميع على خط احتمالية الصدام.
نظرا لاختلاف الأهداف فإن هذا الازدحام في سماء المنطقة وفي بحارها يشكل بؤرة صراع كامنة وقابلة للانفجار كل لحظة لعدم توفر إدارة واحدة وعملية تنسيق للفعاليات والعمليات العسكرية وتعدد غرف العمليات بما يضع الجميع على خط احتمالية الصدام |
فعدا الطائرات الجوالة في سماء المنطقة، يجري إدخال أنماط جديدة من الأدوات القتالية كالصواريخ الإستراتيجية بعيدة المدى التي تطلقها روسيا من بحر قزوين وتعبر سماء المنطقة، وكذلك تحوّل البحر الأبيض المتوسط إلى منصة إطلاق صواريخ إستراتيجية عبر الطراد الروسي "موسكوفا" وحاملة الطائرات الفرنسية "شارل ديغول" واحتمال انضمام حاملة الطائرات الأميركية "هاري ترومان" التي غادرت الشواطئ الأميركية متجهة للخليج واحتمال تعريجها على المتوسط لسد الثغرة الأميركية بعد خروج حاملة الطائرات الأميركية منذ شهرين من المتوسط.
ثانيا: مناخ متأزم
يشّبه كثير من المؤرخين الظروف التي تمر بها المنطقة بتلك التي سادت أوروبا بمرحلة ما قبل الحربين العالمتين الأولى والثانية، ففي هاتين الحالتين تمثّلت صواعق التفجير بأحداث لم يكن يتوقع أن تؤدي إلى حرب عالمية، فقد شكل اغتيال ولي العهد النمساوي فرانز فرديناند في سراييفو من قبل الصرب السبب المباشر للحرب العالمية الأولى بعد إعلان النمسا الحرب على صربيا.
وجاء هذا الحادث على خلفية أسباب أعمق تمثلت حينها بالتنافس على مناطق النفوذ ونمو النزعات القومية والتحالفات العسكرية وبناء القوة الحربية، وهي عناصر تكاد تكون متوافرة الآن ولا ينقصها إلا حصول الشرارة التي قد تكون على شكل مقتل بشار الأسد أو اغتياله بطريقة ما.
أما الحرب الثانية، فقد كان سببها الرئيس اجتياح هتلر لـ بولندا بذريعة استعادة ممر دانزيغ الذي يفصل غرب ألمانيا عن شرقها، ولكن في خلفية هذا السبب كانت تقف أسباب لها علاقة بخضوع القوى الكبرى في أوروبا (فرنسا وبريطانيا) إلى تهديدات هتلر تحاشيا لحصول صدام أكبر، وهو ما دفع هتلر إلى رفع سقف مطالبه وزيادة ابتزازه لأوروبا حتى وصل إلى مرحلة بات يشكّل فيها خطرا حقيقيا على مصالحها وأمنها، فإلى أي درجة يتشابه اليوم سلوك الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مع سلوك أدولف هتلر في تلك الفترة؟ ألا يبدو أن ثمة استعادة طبق الأصل للمناخات والظروف التي سبقت تلك الحرب الرهيبة؟
المشكلة في مثل هذا المناخ هي قدرته على توليد شروط الصراع وخلق دينامية صراعية قائمة بذاتها تخرج عن قدرة الأطراف على ضبطها، وربما تشكّل نواة لاستقطاب يصعب كسره كما يصعب عدم الانجرار في سياقه إلى نهايات غير معروفة النتائج.
ثالثا: إدارة روسيا للأزمة
يشكل أسلوب روسيا في إدارة الأزمة، بوصفها أصبحت فاعلا مركزيا في صراع المنطقة، أحد مكامن الخطر وممكنات تطوير الصراع. السيناريوهات التي نشرتها قناة "روسيا اليوم" للصراع مع تركيا تكشف طريقة تفكير القيادة الروسية الخطرة وطبيعة إدارتها للأزمة في المنطقة، وهي سيناريوهات انتحارية لقيادة سياسية نزقة ليس لديها هامش خيارات واسع بسبب عدم قدرتها على خوض المواجهة والانتصار فيها دون استخدام الأسلحة النووية، واعتبارها أن أي نمط من أنماط الحروب الأخرى هو تهديد وجودي واستنزاف يهدد وجود روسيا نفسها.
ويوضح السلوك الروسي النزق استناده إلى رهانات من صنف انتحاري كأن تشكّل الضربة الأولى لتركيا مثلا حالة رعب للعالم وحلف الناتو بما يضمن تحييده عن الفعل وتركه روسيا تلتهم تركيا حتى هضمها.
رغم امتلاك روسيا السلاح النووي فلا تعدو أن تكون مجرد قوة إقليمية بسلاح نووي، مع عدم قدرتها على إدارة حرب كبرى في مواجهة أطراف أكثر قوة منها بدرجات، ولذا تتجه التقديرات إلى احتمالية استمرار حروب الوكالة ولكن بإيقاع أكثر سخونة |
وهنا لا بد أنّ موسكو تراهن على أن كون تركيا دولة مسلمة فإنها لن تجد تعاطفا كافيا من قبل دول الغرب التي لن تغامر بالدخول في حرب عالمية من أجلها، وقد كان موضوع إسلامية تركيا مادة رئيسية لتهجم بوتين على القيادة التركية، وهو ما بدا أنّه محاولة لعزل تركيا عن الوسط المسيحي الأوروبي "الكاثوليكي والأرثوذكسي"، وجذب التعاطف إلى روسيا في صراعها مع تركيا.
روسيا، وفي إطار ابتزازها للعالم، تسعى إلى استثمار عامل الخوف بعد أن أوجدت مناخا من الفوضى عبر رفضها الركون إلى قواعد اشتباك واضحة ومحدّدة، كما أنها لا تعترف بخطوط حمر في الصراع، فضلا عن عدم وجود آليات للتنسيق في بيئة صراعية من السهل أن تحصل فيها أخطاء، ومن السهل أن تتطور تلك الأخطاء إلى صدامات تؤدي إلى انفلات الأمور عن كل إمكانيات السيطرة.
شكل الحرب المحتملة
لا تلحظ تقديرات الخبراء إمكانية اندلاع حرب كبرى على خلفية النزاعات الحاصلة في المنطقة، والسبب أن التفاعلات الحالية لا تملك كمية الشحن الكافية لاندلاع حرب عالمية كبرى، كما أنّ الظروف الدولية لا تسمح بمثل هذا التطوّر لانعدام تكافؤ القوة بين الأطراف، وخاصة روسيا.
فـ رغم امتلاك روسيا السلاح النووي فهي لا تعدو أن تكون مجرد قوة إقليمية بسلاح نووي، مع عدم قدرتها على إدارة حرب كبرى في مواجهة أطراف أكثر قوة منها بدرجات، ولذا تتجه التقديرات إلى احتمالية استمرار حروب الوكالة ولكن بإيقاع أكثر سخونة مما كان عليه في السابق، بمعنى تحوّل منطقة الشرق الأوسط إلى مسرح لحرب مصغّرة يجري فيها امتصاص طاقات القوى لدى الأطراف الإقليمية والدولية الطامحة وتحوّلها إلى صندوق بريد لمطالبات هذه القوى من النظام الدولي.
باستثناء ذلك، يفترض أن تستمر إدارات البيت الأبيض بإدارة هذه اللعبة بمستوى من الحنكة يضمن توزيع المهام على الأطراف وتحديد مناطق النفوذ لكل منها، ووفق ذلك سيكون هناك تصنيفان لهذا الصراع: حرب ساخنة على أجساد أهل المنطقة ومستقبلات كياناتها السياسية، ولعبة بالنسبة للقوى الكبرى على رقعة شطرنج أوسع.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.