عائلة بوش.. التوريث "الديمقراطي"

Republican U.S. presidential candidate and former Florida Governor Jeb Bush formally announces his campaign for the 2016 Republican presidential nomination during a kickoff rally in Miami, Florida June 15, 2015. REUTERS/Carlo Allegri


سبق وأن قلت إن حكم بوش الابن, والآن أقول "عائلة بوش" حوَّلت أميركا لدولة عالمثالثية من حيث الاستهتار بالدستور وأحكامه، والخلط الصريح للتجارة بالحكم كما ثبت من حصص أعضاء إدارة بوش في شركات تجارة النفط وفي الشركات التي تقدم خدمات الجيوش والحروب.

والحال أنه وصل غوصها في صفقات فساد عالمية حد تحويل الأرض التي تحتلها وأرض العديد من حلفائها لما يشبه "أرض القراصنة" في القرون الوسطى, غير الخاضعة لقوانين دول القراصنة الأصل ولكن لعروش دولهم الأصل، مع حصة سخية في كنوزها، وتغييب حريات وحقوق الأميركيين المنصوص عليها في ما يسمى "قائمة الحقوق" الدستورية التي كانت تتمتع بحصانة تصل للقدسية, بالتنصت على المواطنين واعتقالهم على الشبهة, واختلاق محاكم على طريقة المحاكم العسكرية التي تحاكم المدنيين في بلادنا.

بل ووصل الأمر لإقامة سجن في "غوانتانامو" ليكون سجنا خارج أرض الولايات الأميركية الخمسين, وبالتالي خارج الحدود الجغرافية لسيادة الدستور والقوانين الأميركية.

وقد بقيت غوانتانامو حتى بعد استئجار إدارة بوش الابن (نتيجة تعالي الاحتجاج العالمي على غوانتانامو) لسجون, أو بالأحرى لخدمات سجن وتعذيب في دول عربية منها مصر.. أما معتقل غوانتانامو فلم يمكن حتى لأوباما غلقه نهائيا, وإن حسّن ظروف الاعتقال فيه. واستسهال إنشاء السجون وتعذيب الناس يمثل مقتلا لأي نظام, فهو تحديدا ما فجر الثورة المصرية وأطاح بحكم مبارك وبمشروع توريث جمال مبارك.

لا يبدو أن توريث الحكم خاص بالأوطان العربية، ففي أميركا يجري الاستعداد لتكرار القصة ذاتها واستكمالها بتوريث الابن الثاني الأصغر لبوش الأب, تحت ذات ذريعة مبارك عند تبين نيته توريث ابنه, أي بكون "الدستور يسمح بترشح أي مواطن"

ولا يبدو أن توريث الحكم خاص بالأوطان العربية، ففي أميركا يجري الاستعداد لتكرار القصة ذاتها واستكمالها بتوريث الابن الثاني الأصغر لبوش الأب, تحت ذات ذريعة مبارك عند تبين نيته توريث ابنه, أي بكون "الدستور يسمح بترشح أي مواطن".

ولكيلا يختلط على القارئ عن أي بوش نتحدث, سنشير للرئيس بوش الابن بـ "دبليو" (w) وهو الحرف الذي يشار به له في أميركا لتمييزه, وقد جُعل ذلك الحرف اسما لفيلم سينمائي درامي عنه أنتجته هوليود. وسنشير للابن الثاني المرشح حاليا على قائمة الحزب الجمهوري ليكون الوارث في العائلة, باسمه المختصر الذي يعرف به في أميركا وهو "جب"!

ولاستكمال الصورة العالمثالثية التي أوصلت عائلة بوش أميركا لها, نذكر بأن الأمر سبق وأن تجاوز توريث الحكم للأخطر المتمثل في تزوير الانتخابات الرئاسية التي أعلن فيها فوز "دبليو" رئيسا عام 2000، وذلك حين طعن الديمقراطيون بكون نتائج الفرز الإلكتروني لأصوات ولاية فلوريدا جرى العبث بها، وطالبوا بإعادة فرز يدوية. وطعنوا أيضا في استبعاد أصوات آلاف الناخبين المغتربين والعسكريين في الخارج الذين يصوتون لصالح الديمقراطيين عادة.

وكان المرشحان جورج دبليو بوش وآل غور قد تساويا في الأصوات، وبقيت نتائج ولاية فلوريدا التي كان حاكمها "جب بوش" شقيق المرشح الجمهوري, ما أثار شكوكا أميركية مشروعة بالنتائج, خاصة أن فارق الأصوات لصالح بوش كان فقط 202 صوت.

وجرت ضغوط شديدة على آل غور لقبول حكم المحكمة العليا التي أوقفت إعادة الفرز، ولكن ذلك الحكم اعتبر سياسيا وليس قضائيا, لأربعة من قضاة المحكمة العليا السبعة كانوا جمهوريين صوتوا لصالح مرشح حزبهم.. أي أن الحال العالمثالثي وصل للقضاء!

أما انتخابات العام 2004 -التي قيل إن جورج دبليو بوش أعيد انتخابه فيها- فشابتها ممارسات تزوير مشابهة، منها استبعاد لناخبين من أصول أفريقية ممن تذهب أصواتهم عادة للديمقراطيين, وناخبين مسجلين كديمقراطيين, باستخدام ثغرة في آليات إرسال بريد لعناوين وبأرقام تسجيل مغلوطة لهم, وحين تعاد باعتبارها غير قابلة للتسليم يجرى استبعادهم كناخبين. وجرى ذلك في عدة ولايات منها أوهايو ونيوجيرسي وفلوريدا.

وهذا ما جعل جماعات حقوق الناخبين تقدم طعنا للجنة الوطنية للحزب الجمهوري وصلت إلى المحكمة العليا, ولكن ذلك لم يوقف ما كان يجري لخمسة وثلاثين ألف ناخب في أوهايو ومائة وثلاثين ألف ناخب في فلوريدا, وغيرهم في ولايات أخرى بلغ مجموعها ما لا يقل عن خمس ولايات.

والمصيبة الأكبر هي اقتران أول توريث من بوش الأب لابنه, بحال الابن "دبليو".. الموثق بكثافة, من مثل أنه لم يعرف حتى أسماء ثلاثة رؤساء دول أوروبيين, بل وأنه كان يعتقد أن "طالبان" اسم فرقة روك آند رول! وقد اضطر تداول العديد من هذه الحكايات والدته لأن تصرح للإعلام بقولها "ابني ليس غبيا"!

المصيبة الأكبر هي اقتران أول توريث من بوش الأب لابنه, بحال الابن "دبليو" الموثق بكثافة, من مثل أنه لم يعرف حتى أسماء ثلاثة رؤساء دول أوروبيين, بل وأنه كان يعتقد أن "طالبان" اسم فرقة روك آند رول! وقد اضطر تداول العديد من هذه الحكايات والدته لأن تصرح للإعلام بقولها "ابني ليس غبيا"!

وشخصيا أذكر أنني حين قرأت مانشيت غلاف مجلة سياسية أميركية رئيسة يقول إن "دبليو" يكلم الله, وأن الله يوحي له بمن عليه أن يقصف (العراق) ومن لا يقصف, قفزت مباشرة نحو الصفحات الداخلية لقراءة نص المقال المطول الذي نشر على مساحة عدة صفحات. وللأسف لم أجد ما يؤشر بأية درجة على كون الموضوع كتب بلهجة ساخرة أو مستنكرة أو حتى مستغربة.. مع التذكير بكون تخصصي الأكاديمي في الأدب الإنجليزي, أي المكتوب بالإنجليزية بما فيه الأدب الأميركي, وتضمن برنامج دراستنا الإلزامي آدابا عالمية مترجمة للإنجليزية منها أعمال كتاب ساخرين كـ فولتير.

ولا أحد يريد تفسير قبولٍ أميركي ودولي كهذا بمزاعم تتجاوز القداسة للنبوّة -أي بما يتجاوز زعم الخلافة- لتبرير حصار العراق وتجويع أهله وقصفهم بـ اليورانيوم المنضب بما أودى بحياة نصف مليون طفل عراقي (حسب اعتراف مادلين أولبرايت، وتأكيدها أن هذا رقم وثمن مقبول لمصالح أميركا) ثم احتلال كامل العراق, ما كلف حياة أكثر من مليون عراقي آخر.

فيما بعد, يأتي فيلم "دبليو" الأميركي ليقدم صورة الرئيس الحقيقية, بما فيه قلق والده عليه وشكّه في صوابية قراراته. ويبين الفيلم الدور الكبير والمدمّر الذي لعبه تشيني نائب الرئيس ووزير الدفاع رامسفيلد وعدد من العسكريين والمتنفذين في الساحة السياسية الأميركية بتوظيف بوش كواجهة لهم, حد الكذب عليه.

تسلح الفيلم بوثائق وشهادات جعلته غير قابل للدحض أو "لإقامة الدعاوى القضائية" بذريعة التشهير, والتي تعرف شركات الإنتاج السينمائي مستوى الجدية التي تأخذ بها المحاكم الأميركية قضايا كهذه، وكلفة تعويضاتها العالية. وقد تكون الحقائق التي كشفها الفيلم دراميا, كما فعلت وثائقيات أخرى أقل رواجا, ساعدت, عن قصد أو دون قصد, على الاعتراف بحقيقة حال "دبليو" تمهيدا لطي تلك الصفحة من تاريخ آل بوش تحت عنوان "عدم المسؤولية بسبب الحالة العقلية" لدبليو, تحضيرا لترشيح أو تنصيب (بتزوير مشابه؟) "جب" الأعقل!

ولكن مشكلة ذلك الترشح تأتي بعد اعتراف العالم كله بمخاطر وتداعيات جريمة العصر التي جرت بحق العراق, شعبه وجيشه وأيضا رئيسه صدام, بإطلاق حملة شيطنة امتدت لعقود وانتهت باحتلال جرمي دموي يندى له جبين الإنسانية. إذ لم يعد ممكنا السيطرة على حلقة الشر تلك، مع التطبيع الذي رافقها مع أبشع أشكال الجريمة بحق العراقيين, فطالت آثارها المنطقة بأسرها بما أدى أو ساهم لحد كبير في ظهور (تنظيم الدولة الإسلامية) "داعش" (تصديقا لمقولة أن تكرار ذكر الشيطان يؤدي لظهوره)، وصولا لاعتراف أميركا بذلك على لسان رئيسها أوباما, لتليه اعتذارات غيره المفتقدة للصدقية بدرجة افتقاد أصحابها لها.

وفوز أوباما ذاته -إضافة لكفاءته غير القابلة للإنكار- جاءت لشعور أميركي بضرورة إحداث تغيير جذري في السياسات الأميركية أشبه ما يكون بثورات الربيع العربي. وكون مطالب التغيير أمكن حسمها سلميا في بلد ديمقراطي (على نقائص النظام الانتخابي الأميركي) بفوز أوباما بدءا بترشيح الحزب له متقدما على "الـ كلينتون الأقوى" (حسب المقارنة التي كانت تجري بين الزوجين كلينتون), لا يعني أن بقية القوى المسيطرة تاريخيا في أميركا قد تنحّت, بل ترنّحت فقط لفترة.

والآن بات واضحا أن الجمهوريين يطرحون ردّة تصل حد التوريث. وبرامج المرشحين الجمهوريين كافة تؤشر على عدم تغير, إن لم يكن على تفاقم سياسة الجمهوريين المتطرفة والتي بلغت ذروتها في حكم "البوشيْن" الأب والابن.

والأرجح أن يتم اعتماد جب بوش مرشحا للحزب. ولكن, بالنظر لسياسات ومصالح أقطاب الحزب التاريخيين, إن تكرست حالة "الصرعة" الانتخابية المتمثلة في تقدم المرشح "ترامب", لا يستبعد توظيف الجمهوريين لـ ترامب كـ "دبليو" مستجد كي لا تؤول الرئاسة للديمقراطيين ولـ آل كلينتون الذي اعتبر عهدهم تقدميا، ومجيء ترامب سيعني الأسوأ, لأن تملص المتنفذين في الحزب الجمهوري الذين سيحكمون البيت الأبيض, بمن فيهم آل بوش, من أفعال ترامب، سيكون أسهل!

 
إن فاز جب بوش, فتلك حتما ردة لأميركا لنحو أحوال العالمثالثي. ولكن ليس لكارهي أميركا أن يفرحوا شامتين. كما لم يكن لهم حق بأن يغضبوا لكون سياسة أوباما الخارجية طوت لحد كبير صفحة "رامبو" الذي لم يتجسد في الواقع, وخارج الشاشة الفضية إلا في جنود معاقين نتيجة معارك غير مشرفة

فـ بوش الأب هو من بدأ النهج الذي سار عليه ابنه, ومعه ذات الشخوص في أبرز مواقع إدارته: تشيني ورامسفيلد وولفويتز، وآخرون متمترسون في مواقع تسمى مراكز دراسات إستراتيجية. وبوش الأب الآن, في إملائه لسيرة حياته على كاتب محترف تحت عنوان -يفتقر كليا للتواضع برأيي- هو "القدر والقوة: الأوديسا الأميركية لجورج هربرت ووكر بوش", وتسريب هذا الجزء من فحوى الكتاب الآن تحديدا, جعل مصادر أميركية تعتبر كامل كتابه محاولة لتمكين توريث ابنه الثاني. وذلك بتعليق المسؤولية على عاتق "الحاشية" وبالذات "تشيني" الذي يقول عنه بوش الأب إنه أصبح في عهد ابنه "دبليو" متطرفا جدا, ورامسفيلد الذي يقول إنه أصبح "متعجرفا ومفتقرا للتواضع وللتعاطف الإنساني.. فأساء لرئيسه".

ومقابل "ضربة الكف" من بوش الأب لأقطاب جمهوريين, يقوم الابن المرشح جب بوش "بعدل الطربوش" (بتصحيح الوضع) بقوله إن تشيني خدم شقيقه بصورة جيدة كنائب للرئيس, وإنه خدم أباه كوزير للدفاع جيدا وبصورة استثنائية. وإنه من الطبيعي أن يحاول والده كـ أب, أن يخلي ابنه من المسؤولية, وإنه "مثل الكثير من الناس الذين أحبّوا جورج (دبليو بوش) يريدون اختلاق رواية مختلفة"!

وفي إنكار لحالة شقيقه (التي تسلط الضوء على خلل قد يتجاوز التوريث السياسي للوراثة البيولوجية) يقول إن أخاه "كان شخصا ناضجا, وإن إدارته تحددت بأفكاره وبردة فعله على أحداث الحادي عشر من سبتمبر". ويوظف "ضمير الغائب" ليلقي خطبة انتخابية إذ يقول إن شقيقه كان سيرد: "ما جرى كان تحت رقابتي, كنت أنا القائد, وأتحمل المسؤولية شخصيا عما حدث, الجيد والسيئ منه على السواء"!

إن فاز جب بوش, فتلك حتما ردة لأميركا لنحو أحوال العالمثالثي. ولكن ليس لكارهي أميركا أن يفرحوا شامتين. كما لم يكن لهم حق بأن يغضبوا لكون سياسة أوباما الخارجية طوت لحد كبير صفحة "رامبو" الذي لم يتجسد في الواقع, وخارج الشاشة الفضية إلا في جنود معاقين جسديا أو نفسيا نتيجة معارك غير مشرفة لا علاقة لها بأي قضية "وطنية" أو حتى إنسانية.

فمقابل كل جندي أميركي يُقتل أو يعطب خارج أميركا, هنالك الألوف من جنود ومدنيي العالم الثالث (وفي مقدمته عالمنا العربي) يتساقطون مجانا.. وهنالك الكثير مما يمكن أن نتعلمه نحن أيضا من أوباما, فالرجل يملك أكثر من زاوية رؤية, منها العالمثالثية!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.