هجمات باريس.. السياق والمستقبل

People gather in front of a memorial along a police cordon set-up close to the Bataclan concert hall on November 15, 2015, two days after a series of deadly attacks. Islamic State jihadists claimed a series of coordinated attacks by gunmen and suicide bombers in Paris on November 13 that killed at least 128 people in scenes of carnage at a concert hall, restaurants and the national stadium. AFP PHOTO / MIGUEL MEDINA


الهجمات التي شهدتها باريس في الأيام الماضية تحتاج وقفة مطولة، ليس لبعدها الأخلاقي والمأساوي فحسب، بل لضرورة تقويض "المحرم" الذي يكرس حاليا، وهو اعتبار وضع الجرائم والانتهاكات في سياقها التاريخي والسياسي/الاجتماعي ناتجا عن انحياز قبلي لها.

ذكر البيان الصادر عن تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) أن الأماكن التي استهدفت في هجمات باريس "اختيرت بعناية"، والواقع أن الهجمات تميزت بعامل التزامن، وهو عامل متكرر في كثير من عمليات التنظيمات الأصولية الجهادية منذ عقود، أما "المكان" فكان أهدافا ليس لها دلالة إهانة الدولة، بل إرعاب المجتمع من خلال ضرب تجمعاته (مطاعم، شارع مكتظ بالمدنيين، حفلة لموسيقى الروك و.. إلخ).

من ناحية أخرى، تثير العمليات الإرهابية لداعش سؤالا عن الشروط القبلية للهدف المفترض، والشروط هنا متطابقة مع المخيال الجمعي لتنظيم وحشي يعيش في الزمن الغابر.

في مجتمع يشكل المهاجرون فيه 8% من السكان، تصبح مسائل الاندماج والتعددية الثقافية ذات حساسية شديدة، خاصة مع ارتفاع نسب البطالة، حيث وصلت نسبة العاطلين بفرنسا إلى 10.3% وهذه نسبة مرتفعة نسبيا بالقياس إلى ألمانيا ذات الوزن الديمغرافي الأثقل والمساحة الصغرى

الهدف عدو مباشر -والعدو في وعي التنظيم ليس جهاز الدولة فحسب بل المجتمع برمته- يهاجم التنظيم عسكريا وله وعي إمبراطوري، حتى وإن لم يعد إمبراطورية، وهكذا فإن روسيا وبعض دول أوروبا الغربية هي الأهداف الملبية للشروط، وتتم عمليات إعادة صياغة للعدو من خلال الزمن المناسب للمخيال الجمعي، فالبيان المشار إليه تحدث عن فرنسا باعتبارها "حاملة لواء الصليب"، وهذا المرض الناستالوجي المستفحل يميز عادة جميع الحركات الدينية/الخلاصية.

في الثلاثينيات من القرن العشرين كانت فرنسا هي الوجهة الثانية للهجرة في العالم بعد الولايات المتحدة الأميركية، وكانت هجرة أبناء المستعمرات إلى المتروبول في اطراد ولا تزال بعد فكفكة الاستعمار كنتيجة ثقافية للمرحلة الكولونيالية، بالإضافة إلى المهاجرين القادمين من أوروبا الشرقية وشبه الجزيرة الإيبيرية.

وحسب دراسة نشرها المعهد الفرنسي للإحصاء والدراسات الاقتصادية في نوفمبر/تشرين الثاني 2014 فإن 46% من المهاجرين لفرنسا عام 2012 من أصول أوروبية، في حين أن 30% قدموا من أفريقيا، وعلى رأسها الجزائر والمغرب، وهذا يتفق مع إحصاءات مؤسسات أخرى في العام 2006، حيث تقع الجزائر على رأس قائمة الدول الأفريقية الرافدة للهجرات نحو فرنسا، وشكل الجزائريون كذلك أعلى رقم لتقديم طلبات اللجوء حينها، يليهم البوسنيون.

في مجتمع يشكل المهاجرون فيه 8.8% من السكان (في العام 2013)، تصبح مسائل الاندماج والتعددية الثقافية ذات حساسية شديدة، خاصة مع نسب البطالة، حيث وصلت نسبة العاطلين في فرنسا في أكتوبر/تشرين الأول 2015 إلى 10.3%، وهذه نسبة مرتفعة نسبيا بالقياس إلى ألمانيا ذات الوزن الديمغرافي الأثقل من فرنسا والمساحة الجغرافية الصغرى.

وفي حالات تأزم كهذه يسهل كثيرا على الوعي الاجتماعي تصويب اللوم على المهاجرين والأجانب عامة، وتقوم قوى اليمين المتطرف عادة بتهييج المجتمع من خلال خطاب شعبوي يرتكز على متلازمتين: متلازمة "الأجنبي" والبطالة، ومتلازمة المهاجر والهوية الحضارية حين يكون القادمون من خارج الفضاء الحضاري المكرس فرنسيا في الفترة الأخيرة، أي من خارج أوروبا، بعد أن كانت المستعمرات في أفريقيا ضمن الفضاء الحضاري الفرنسي كهوامش، بالإضافة إلى استثمار المشاكل الحقيقية مثل الهجرة غير الشرعية وفشل كثير من مهاجري العالم الثالث في الاندماج.

من خلال ما ذكر آنفا، يتضح لنا أن المجتمع الفرنسي متوتر ومشدود بسبب بنيته المهجنة و"الفشل" الجزئي على الأقل لسياسات الاندماج، وهذا نقاش محموم في المجتمع الفرنسي منذ التسعينيات على الأقل حين صدرت قوانين "باسك" ليس لتنظيم الهجرة فحسب بل ولمحاولة منعها تماما.

وحين يأتي هجوم إرهابي ضخم كالذي حدث في 13 نوفمبر/تشرين الثاني الجاري، يمكننا التنبؤ بتوجهات القوى السياسية ونوعية خطابها الذي ستوجهه لمجتمع يعاني كل هذا التوتر قبليا، فمن الواضح أن هناك عواقب وخيمة ستطال المهاجرين المسلمين والعرب في أوروبا بعد هجمات باريس.

فبعد الهجمات بساعات قليلة شددت كثير من الدول الأوروبية الإجراءات الأمنية خاصة على الحدود، ومن المرجح أن تستمر عمليات التشديد الأمني كإجراء احترازي أولا، وكوسيلة رسمية لصد اللاجئين ومنعهم نهائيا من الدخول ثانيا، ومن الصعب الاعتراض على هذا اجتماعيا تحت ضغط رعب هجمات باريس وتبني داعش لها رسميا.

قوى اليمين المتطرف التي كسبت هذا العام نقاطا كثيرة من خلال ملف اللاجئين والهجمات ضد صحيفة "شارلي إيبدو"، ستحقق قفزة مهمة على صعيد الشعبية بعد هجمات باريس، فالمجتمعات الأوروبية قابلة حاليا بفعل عوامل الاقتصاد والأمن لاستيعاب أكثر الخطابات الشعبوية تطرفا

هذا بالإضافة إلى أن قوى اليمين المتطرف التي كسبت هذا العام نقاطا كثيرة على الصعيد الاجتماعي/السياسي من خلال ملف اللاجئين والهجمات ضد صحيفة "شارلي إيبدو"، ستحقق قفزة مهمة على صعيد الشعبية وتوسيع القواعد بعد هجمات باريس، فالمجتمعات الأوروبية قابلة حاليا بفعل عوامل الاقتصاد والأمن لاستيعاب أكثر الخطابات الشعبوية تطرفا.

ولكن في المحصلة وعلى المدى المتوسط لن تكون هناك نتائج جيدة لخطابات شعبوية في مجتمع مهاجرين ذي خصوصية مثل المجتمع الفرنسي، لأن خطابات متطرفة في مجتمع كهذا تعني معاداة قطاع اجتماعي يحمل جنسية البلد ويدخل مؤسسات الصهر الاجتماعي، بالإضافة إلى أن أزمة الاغتراب المستحكمة التي يعيشها المهاجر الذي يتقن اللغة الرسمية ويحمل الجنسية ستتضاعف، وهذا يعني تاليا تضاعف الأزمات التي تدعي القوى اليمينية المتطرفة أنها تقف ضدها.

وفي نقاش المستقبل، لا بد من نقاش مستقبل العمليات الإرهابية نفسها، ويبدو جليا أن الثقافة السياسية الغربية، في بعدها العملي، لا تريد مبارحة موقع الضحية الخالصة، وإلا فإن الواضح أن السياسات الأميركية في العراق بعد الاحتلال، والتأخر الأميركي/الأوروبي في إيقاف مأساة الشعب السوري ودعم تحول ديمقراطي في سوريا، سمح لداعش بالانتقال من دائرة "الممكن" الثقافي إلى دائرة الواقع.

ولا يمكن فهم ظهور داعش من خلال سياق الاستبداد العربي فقط، بل من خلال اشتباكه الأساسي مع سياق السياسات الأميركية والأوروبية في العالم العربي، وهنا تجدر الإشارة إلى ممارسة خطيرة يقوم بها بعض الكتاب والصحفيين العرب في وسائل الإعلام وهي تحويلهم لأي محاولة لوضع الممارسات الإرهابية في سياق من الوقائع إلى "تابو" بدعوى أن هذا يعد "تسويغا" للإرهاب!

وهذا النمط من التفكير في الحقيقة هو أحد أهم تمظهرات الوعي الغيبي، ففي هذا العالم الدنيوي ليست الظواهر الإنسانية إلا نتيجة سياقها المعقد والمتشابك بالماضي والحاضر، ولا تنبثق من ذاتها بغير علل وعوامل. وتحريم وتجريم كل محاولة لوضع الإرهاب في سياقه هو إخضاع هذه الظاهرة للوعي الغيبي في رأينا، ومن كوارث هذا الوعي انه لا يسمح لنا بنقد الواقع كعمل أخلاقي، ويكتفي فقط بالبكائيات والمراثي و"جوهرة" البشر عبر اختزال الظواهر كلها في نصوص دينية، وهذا كله لا يغير شيئا لا في الواقع ولا في التفكير.

وعليه، إذا لم تحدث تغيرات في عناصر الواقع المكون من دول استبداد قمعية وقوى غربية تستثمر فيها ومعها، فإن العمليات الإرهابية ستستمر لأنها تتغذى من سياقها، وهو سياق نموذجي لكل النزعات الانتحارية والعدمية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.