بوتين والطريق المعوج إلى دمشق

جدل في روسيا بشأن إرسال قوات إلى سوريا

عندما خاطب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الجمعية العامة للأمم المتحدة في 28 سبتمبر/أيلول، كان يعلم أنه سوف يلفت انتباه العالم ويتفوق على رئيس الولايات المتحدة باراك أوباما عندما يدعو إلى تشكيل جبهة موحدة في المعركة ضد تنظيم الدولة الإسلامية.

ولكن بوتين كان يخاطب الروس أيضا، وهو يعلم تمام العِلم ضرورة صرف انتباههم عن المشاكل الاقتصادية المتزايدة الوضوح التي تواجه بلادهم.

في العام الماضي، كان الإلهاء متمثلا في ضم شبه جزيرة القرم، الذي أعقبه تشجيع الانفصاليين الموالين لروسيا في شرق أوكرانيا. وكان إرسال الطائرات والصواريخ الروسية وبضعة آلاف من الجنود إلى سوريا مؤخرا بمثابة بديل دعائي لمشروع "نوفوروسيا" الفاشل.

في العام الماضي كان الإلهاء متمثلا في ضم شبه جزيرة القرم، والذي أعقبه تشجيع الانفصاليين الموالين لروسيا في شرق أوكرانيا. وكان إرسال الطائرات والصواريخ الروسية وبضعة آلاف من الجنود إلى سوريا مؤخرا بمثابة بديل دعائي لمشروع "نوفوروسيا" الفاشل

ويرى منتقدو بوتين، وهم محقون في ذلك، أن مغامرته في سوريا مجرد استحضار آخر لمشاعر الحنين إلى الماضي السوفياتي، فالاتحاد السوفياتي كان مقتدرا جبارا ويزعم بوتين أن روسيا قادرة على امتلاك نفس القوة، وأنها تمتلكها بالفعل.

ولكن ما الغاية وراء كل هذا؟ ربما يكون إرباك ومفاجأة الولايات المتحدة والغرب تكتيكا جيدا في الأمد القريب، ولكن يبدو أن الأمر برمته يخلو من رؤية طويلة الأمد للأغراض التي يفترض أن تخدمها القوة الروسية، ربما باستثناء الحفاظ على قوة النخبة في روسيا. ونتيجة لهذا فإن النظام يحاكي أشكال الديمقراطية في حين يستخدم آلته الدعائية لتحفيز شكل عدواني من أشكال القومية.

في السنوات الأولى من هذا القرن كان اقتران أسعار النفط المرتفعة بالنمو الاقتصادي سببا في تقليص رغبة النخبة في التفكير الاستراتيجي، والسماح لهم بتجاهل التراجع اللاحق في إصلاحات الرعاية الصحية والتعليم والضمان الاجتماعي. والآن ينظر النظام وعامة الناس إلى الموقف الحالي باعتباره طبيعيا على نحو أو آخر أو "أزمة بلا أزمة".

ولأن التصورات تشكل الواقع، فإن كل شيء طبيعي، ولا يجب القيام بأي شيء، وبوسع بوتين -الذي يفترض أنه استعاد كرامة روسيا- أن يتمتع بمستويات من الشعبية تتجاوز 80%.

يرى بوتين أن استعادة كرامة روسيا تعادل إحياء "مكانة القوة العظمى" في أعقاب انهيار الاتحاد السوفياتي و"هزيمته" المذلة على يد الغرب في الحرب الباردة. ومن الواضح أن ممارسة القوة في الخارج تعوض عن حقيقة مفادها أن الكرامة داخل البلاد لم تسترد بعد، فالمواطن الروسي اليوم يظل أعزل عاجزا عن الدفاع عن نفسه في مواجهة رؤسائه، وشركات المرافق العامة، والمحاكم، والشرطة، ورغم الصعوبات التي يواجهها أيا كانت فإنه يظل فخورا بأمته وزعيمها.

هناك بطبيعة الحال تفسير آخر لاستمرار شعبية بوتين في النمو في مواجهة الاقتصاد المتدهور، ذلك أن العاجزين عن إعالة أنفسهم من الطبيعي أن يتطلعوا إلى الدولة لمساعدتهم، ومن غير المحتمل أن يعضوا اليد التي تطعمهم. وما ينتقده الغربيون باعتباره انتهاكات لحقوق الإنسان من المرجح أن يمتدحه الروس باعتباره سياسات ضرورية لتخليص البلاد من الممارسات "الغريبة" وحماية الأغلبية من الأقلية "المخربة". وقد يثير عداء النظام تجاه المثليين جنسيا استياء الغرب، ولكنه يضرب وترا حساسا لدى أغلب الروس.

ولأن نفس الروس يرون الحرب في أوكرانيا حربا دفاعية وعادلة، فإنها تصبح مبررة، وتعاد كتابة صفحات التاريخ السوداء، وتصبح اللغة العدائية هي القاعدة.

قبل وقت ليس ببعيد، كان الروس العاديون يتحدثون صراحة عن عدد الوفيات والإصابات التي تلحق بقواتهم في العمليات العسكرية التي تقوم بها بلادهم، ولكنهم الآن، بعد المرسوم الرئاسي الذي أصدره بوتين بشأن "الخسائر السرية"، يلتزمون الصمت. وحتى رغم أن المرسوم ربما يتعارض تماما مع الدستور الروسي والقانون بشأن أسرار الدولة، فإن قائمة المعلومات السرية الآن تتضمن الخسائر العسكرية الروسية أثناء العمليات في وقت السلم.

من غير الممكن أن يستمر الركود إلى الأبد، فعند نقطة ما سوف يتطلب بقاء النظام بروسيا تقديم شيء لعامة الناس غير القومية والحنين إلى الماضي. والسؤال هو ما إذا كان بوتين -الذي يعمل الآن على تعميق تورط روسيا في مغامرة عسكرية أخرى- يدرك هذه الحقيقة

والنتيجة هي بلد منقسم بين موالين وخونة، وطنيين وغير وطنيين أو بين أولئك الذين يتبعون خط الحزب وأولئك الذين يرفضونه. وإذا كانت استطلاعات الرأي دقيقة، فإن الموالين والمطيعين يشكلون أغلبية واضحة على الأقل حتى الآن. وهذا يفسر دعم الانفصاليين في منطقة دونباس شرق أوكرانيا وتأييد تدخل بوتين في سوريا. وإذا كانت الولايات المتحدة عاجزة عن تقبل هذه الحقيقة، فإنها بهذا تثبت إصرارها على فرض هيمنتها، سواء في أوروبا، من خلال حلف شمال الأطلسي، أو في الشرق الأوسط.

ويتعزز هذا المنطق بفِعل تفسير بوتين الذاتي للتاريخ، والذي يبرر حرب الشتاء في العام 1939 ضد فنلندا، وميثاق مولوتوف-ريبينتروب في العام 1939، والغزو السوفياتي لأفغانستان في العام 1979. حتى إن مكتب النائب العام كان مشغولا بتحليل سخيف بأثر رجعي للقرار الصادر عام 1954 بنقل شبه جزيرة القرم من ولاية الجمهورية الاشتراكية السوفياتية الاتحادية الروسية إلى الجمهورية الاشتراكية السوفياتية الأوكرانية. وما يثير القلق والانزعاج هو أن نفس التحليل يجري تطبيقه الآن على شرعية استقلال دول البلطيق بعد انهيار الاتحاد السوفياتي.

ولكن إلى أين يقودنا كل هذا؟ تماما كما كانت الحال في الحقبة السوفياتية، يساوي حكام اليوم أنفسهم بالدولة. ثم تختزل الدولة في الدائرة الداخلية للزعيم وأصحاب المراتب العليا من النخبة المالية والسياسية، التي ينعم أفرادها بالأمن والاطمئنان إلى قوتهم لأن المواطنين العاديين دُفِعوا دفعا بالتضليل والخداع إلى شكل متطرف وضعيف التمييز من أشكال القومية.

بوسع معارضي بوتين المحاصرين أن يتوقعوا عن يقين فترة طويلة من الركود السياسي والاقتصادي والفكري، حتى الانتخابات البرلمانية القادمة والانتخابات الرئاسية بعد عامين بكل تأكيد.

وربما يمتد الركود إلى الدورة السياسية التالية أيضا، ولكنه من غير الممكن أن يستمر إلى الأبد، فـعند نقطة ما، سوف يتطلب بقاء النظام تقديم شيء لعامة الناس غير القومية والحنين إلى الماضي. والسؤال هو ما إذا كان بوتين، الذي يعمل الآن على تعميق تورط روسيا في مغامرة عسكرية أخرى، يدرك هذه الحقيقة.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان