الدور التركي بشرق أفريقيا في ظل التنافس الإقليمي

MOGADISHU, SOMALIA - JANUARY 25: Turkish President Recep Tayyip Erdogan (R) is welcomed with an official ceremony by Somalian President Hassan Sheikh Mohamoud (L) at the airport in Mogadishu, Somalia on January 25, 2015.

دوافع تركيا
جماعة غولن
سد النهضة
رؤية مستقبلية

تبدي أنقرة اهتماما متزايدا بقارة أفريقيا عموما وبمنطقة القرن الأفريقي بشكل خاص، وتحاول تطوير علاقاتها في كافة المجالات قدر إمكانها, ويبدو هذا ملحوظا بشكل كبير في سلوك السياسة الخارجية التركية.

فعلى الصعيد الدبلوماسي لنا أن نتخيل حجم الجهود المبذولة لإنشاء وتمتين العلاقات في أفريقيا حيث وصل عدد السفارات التركية في القارة السمراء إلى 39 سفارة إضافة إلى أربع قنصليات عامة، مقارنة بعام 2009 حيث كان عدد سفارات أنقرة في أفريقيا 12 سفارة فقط، بينما كان عدد السفارات التركية في عام 2002 سبع سفارات فقط.

وفي هذا السياق، تحرص أنقرة على الانضمام إلى كافة المنظمات والملتقيات الأفريقية (مثل الاتحاد الأفريقي) حسب نوع العضوية التي تتاح لها.

وتحرص تركيا على تكثيف الزيارات واللقاءات مع القادة الأفارقة من أجل فتح آفاق أوسع للتعارف والتعاون وتنظيم العلاقات، وفي هذا المعنى تأتي الزيارة الأخيرة للرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى شرق أفريقيا، حيث زار إثيوبيا وجيبوتي والصومال، بينما يجري عدد من الترتيبات الثنائية مع إريتريا. وكان أردوغان قد زار 12 بلدا أفريقيا خلال 2014.

أما على الصعيد الاقتصادي، فإن عام 2003 كان قد شهد إعداد إستراتيجية تركية لتطوير العلاقات الاقتصادية مع أفريقيا، وأعلن الأتراك أن 2005 هو عام أفريقيا. وبالنسبة لحجم التجارة مع أفريقيا فقد كان ثلاثة مليارات دولار عام 2002، لكنه تضاعف إلى 19 مليار دولار مع نهاية عام 2013. ووصل حجم الاستثمارات التركية في أفريقيا إلى ستة مليارات دولار.

وعلى صعيد دعم التنمية في أفريقيا والبعد الإنساني للسياسة الخارجية التركية، فإن مؤسسات مثل تيكا والإغاثة الإنسانية وجان سيو وياردملي تقوم بجهود ضخمة، وقد خصصت تركيا لمكافحة مرض إيبولا في أفريقيا خمسة ملايين دولار، فضلا عن بنائها للمستشفيات والمراكز الصحية خاصة في الصومال.

وعلى ذكر الصومال، فإن أردوغان كان بزيارته الصومال في 2011 أول رئيس وزراء غير عربي يزور مقديشو خلال عقدين من الزمان.

وتصل الخطوط الجوية التركية الآن إلى حوالي 40 مدينة في القارة الأفريقية، كان آخرها وصول أول طائرة تركية إلى العاصمة الإريترية أسمرا في النصف الأخير من 2014.

وعلى صعيد علاقات المجتمع المدني، فإن المؤسسات التركية قد نسجت شبكة من العلاقات عبر أفريقيا، فعلى صعيد العلاقات الدينية استضافت مؤسسة الديانة التركية الزعماء الدينيين في أفريقيا, وقد وفرت تركيا منحا دراسية لحوالي 3000 طالب من دول أفريقية, بينما افتتحت جامعات تركية مراكز خاصة بالدراسات الأفريقية وتستضيف باستمرار أكاديميين وباحثين أفارقة.

تحرص تركيا على تكثيف الزيارات واللقاءات مع القادة الأفارقة من أجل فتح آفاق أوسع للتعارف والتعاون وتنظيم العلاقات، وفي هذا المعنى تأتي الزيارة الأخيرة للرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى دول في شرق أفريقيا

وقبل أيام قليلة، نظمت ثلاثة مراكز أبحاث (منها "سيتا" و"سام" و"الدراسات الإستراتيجية") مؤتمرا مشتركا بعنوان تركيا وأفريقيا في القرن الواحد والعشرين، حضره وزراء ودبلوماسيون من عدة دول أفريقية، وناقش عمليات التعاون والتكامل التركي مع أفريقيا.

كما تهتم أنقرة بالبعد التاريخي والتراثي والرمزي، فمثلا في 2013 بدأت مؤسسة تيكا التركية في ترميم قبور النجاشي و15 صحابيا دفنوا في إثيوبيا.

دوافع تركيا
يأتي الحراك التركي المتزايد في أفريقيا مدفوعا بعدة دوافع وأهداف، منها الدافع الفكري الذي ينطلق من الأفكار التي يتبناها حزب العدالة والتنمية -وتحديدا رئيسه الحالي أحمد داود أوغلو- حول مركزية تركيا باعتبارها دولة مركز وليست دولة هامش، وهو ما يفرض عليها أن تكون سياستها الخارجية أكثر حيوية واتساعا. وبإطلاق شعار "تركيا القوية"، يسعى الأتراك للعب دور أكبر في السياسة الدولية في أماكن متعددة منها أفريقيا.

ويعتقد الأتراك أنهم أحق -بحكم التاريخ والجغرافيا والعلاقات الدينية والثقافية- بعلاقات أمتن مع أفريقيا من قوى دولية صاعدة وفاعلة في القارة مثل الهند والصين والبرازيل. فعلى سبيل المثال، تقوم تركيا ببناء المساجد في أفريقيا بشكل كبير وتهتم بالتعليم الديني، وهو ما يميزها عن فاعلين آخرين.

وهذا له انعكاس مؤثر على العلاقات السياسية والاقتصادية، وقد لمس كاتب هذه السطور بعض هذا في مقابلات مع مثقفين أفارقة من دول أفريقية مسلمة أعربوا عن تفضيلهم لتركيا على دول أخرى في المزايا والتسهيلات الاقتصادية.

ومن جهة أخرى، تستفيد أنقرة من القلق الغربي من تزايد النشاط الاقتصادي الصيني في أفريقيا، مما يشجعها على تنفيذ مشاريعها حتى بتسهيل من مؤسسات مثل الاتحاد الأوروبي.

كما أن تركيا تواجه عوائق في شرق أفريقيا أقل من إيران التي تعاني من عقوبات اقتصادية من جهة, ويتمركز الآن على الجهة المقابلة من البحر الأحمر حلفاؤها الحوثيون، الذين يشكلون خطرا على دول مثل السعودية ترى في إيران خصما لدودا لها على المستوى السياسي والمذهبي، من جهة أخرى. وعلى سبيل المثال، ثارت أزمة قبل عدة أشهر حول إغلاق عدة مراكز ثقافية إيرانية في السودان قيل إن إغلاقها جاء بضغط سعودي.

وفي هذا الإطار، ترى تركيا نفسها أيضا أكثر حرية من إسرائيل التي تعطي أولوية في علاقاتها الأفريقية للجانب الأمني، والتي انطلقت إستراتيجية علاقاتها الأفريقية من مبدأ محاصرة الدول العربية والعبث في منطقة حوض النيل.

كما أن حسابات التنافس الإيراني/الإسرائيلي في منطقة القرن الأفريقي تجعل الأتراك يقدمون أنفسهم بديلا أكثر استقرارا وبعدا عن الصراعات، خاصة في المجال الاقتصادي.

يعتقد الأتراك أنهم أحق -بحكم التاريخ والجغرافيا والعلاقات الدينية والثقافية- بعلاقات أمتن مع أفريقيا من قوى دولية صاعدة وفاعلة في القارة مثل الهند والصين والبرازيل. فعلى سبيل المثال، تقوم تركيا ببناء المساجد في أفريقيا بشكل كبير وتهتم بالتعليم الديني

وتطغى الأهداف الاقتصادية بوضوح على زيارات الأتراك لأفريقيا وفي خطاباتهم، حيث أعلن أردوغان أن الدخل القومي التركي في 2014 قد وصل إلى 820 مليار دولار وأن الهدف في 2023 هو تريليونا دولار. ويظهر ذلك أيضا من خلال الوفود الضخمة التي تستهدف تعزيز الاستثمارات التركية في كافة المجالات وتحديدا في قطاع الطاقة والصناعة.

ويتسق مع ما سبق اتسام الزيارة الحالية بوجود وفد ضخم يصطحب ضمنه الرئيس التركي ونائب رئيس الوزراء، ووزير الخارجية ووزير الزراعة والأغذية والثروة الحيوانية ووزير الاقتصاد، ووزير العلوم والصناعة والتكنولوجيا، ووزير الغابات وشؤون المياه ووزير الصحة، إضافة إلى عدد كبير من رجال الأعمال.

وقد بدا واضحا في حديث أردوغان تركيزه على الجانب الاقتصادي، خاصة مع إثيوبيا التي تعد الدولة الأفريقية الأولى من حيث الاستثمارات التركية، وقد تأسف أردوغان لتراجع حجم التجارة معها من 420 مليون دولار في 2013 إلى 400 مليون دولار في 2014، وتمنى أن يصل في أقصر مدة إلى 500 مليون دولار، وقد كان 27 مليون دولار في عام 2002.

جماعة غولن
في إطار حرب الحكومة التركية على جماعة فتح الله غولن، أو ما تسميه التنظيم الموازي الذي تتهمه بالتخطيط للانقلاب عليها من خلال التغلغل في مؤسسات الدولة -خاصة القضائية والأمنية- والقيام بالتنصت على محادثات المسؤولين, فإن تركيا قلقة من حجم التنظيم في أفريقيا من خلال مؤسساته هناك ودورها في توتير العلاقات مع أنقرة، وتخشى أيضا أن يستغل التنظيم تطور العلاقات الاقتصادية لمصلحته.

كما أن هناك تقارير أفادت بأن التنظيم له علاقات قوية ويقوم بفتح علاقات جديدة مع مسؤولين ورجال أعمال في الدول الأفريقية وعبر مؤسسات تعليمية وإغاثية. وفي هذا الإطار تم تسريب مقطع حول اتصال هاتفي بين زعيم الجماعة فتح الله غولن ورجل أعمال تركي حول صفقة "أناناس" مع أوغندا في 2013، وتم اعتبار "الأناناس" آنذاك شيفرة لصفقة معينة.

ولهذا فإن أنقرة -التي تعهّد قادتها بتعقب التنظيم وقلعه من جذوره- يبدو أنها ماضية في ملاحقته بأفريقيا من خلال التنسيق مع الحكومات الأفريقية الصديقة.

وفي هذا السياق، أيضا فإن أنقرة تحتاج إلى تقوية علاقاتها الأمنية ودورها الاستخباري في أفريقيا، فهي ضعيفة في هذا المجال مقارنة مع دول أخرى مثل إسرائيل. وبالتأكيد فإن أنقرة قد تطورت كثيرا استخباريا منذ عام 1999 عندما قامت -بالتعاون مع مخابرات أجنبية- باعتقال زعيم حزب العمال الكردستاني عبد الله أوجلان في كينيا.

وهنا يضاف أن أنقرة نجحت في بناء علاقات قوية مع الصومال التي يمكننا القول إنها ساهمت في بنائها من جديد في كافة المجالات ومن ضمنها المجال الأمني، وتحاول أيضا بناء علاقات قوية مع إريتريا التي تمتلك ساحلا بطول 1000 كم على البحر الأحمر، كما تمتلك حوالي 140 جزيرة في البحر الأحمر يقال إن هناك وجودا إسرائيليا في بعضها.

سد النهضة
في ظل التوتر الحالي في العلاقات التركية المصرية، فإن مصر تنظر بتوجس إلى علاقات أنقرة مع أديس أبابا، وخاصة فيما يتعلق بموضوع سد النهضة الإثيوبي الذي تقول مصر إنها تتضرر منه، كما تقول إن تركيا تدعم إثيوبيا من خلال تمويل السد انتقاما منها، بل وأنها قد وقعت اتفاقيات عسكرية لحماية السد وزودت إثيوبيا بصواريخ لهذا الغرض وفقا لبعض التقارير.

تنظر دول أفريقية كثيرة إلى أنقرة نظرة إيجابية بسبب الدور الإنساني الذي تلعبه الأخيرة في الساحة الأفريقية، وهو ما يسهل عمليات التقارب السياسي, ويبدو أن أنقرة ستستمر في تقديم الدعم والمساعدات لأفريقيا خلال السنوات القادمة

ويبدو أن موضوع سد النهضة يأخذ حيزا على طاولة النقاش التركية الإثيوبية، لكن التطورات في هذا الشأن ستنعكس لا محالة على العلاقات مع مصر التي غيّر مؤخرا عدد من المسؤولين الأتراك لهجة خطابهم تجاهها، بدءا بعبد الله غل ومرورا ببولنت أرينتش وانتهاء بأحمد دواد أوغلو.

تعيش تركيا -فيما يتعلق بسد النهضة- ظروفا مشابهة لحالة إثيوبيا لكونها دولة منبع، ولذا فإنها قد تنظر من نفس المنظور، وهذا لا يمنع أن يكون الأمر وسيلة ضغط من تركيا على مصر، لكن هذا لن يفسر في مصر إلا بأنه موقف معادٍ للنظام الحالي في مصر.

رؤية مستقبلية
تبدو تركيا ماضية في نشاطها وفعاليتها السياسة والاقتصادية في أفريقيا، ولا يبدو أنها تواجه مشكلات حقيقية مثل باقي المنافسين الإقليميين سواء إسرائيل أو إيران، باستثناء ما تروجه وسائل إعلام غربية عن نوايا خفية وأطماع تركية في أفريقيا.

ولذا فإن الأتراك -الذين يمتلكون مؤهلات كثيرة للنجاح في أفريقيا- بحاجة لإقناع الأفارقة بأهمية الشراكة وإزالة بعض العقبات مثل جماعة غولن، وإذا استمر نجاح أنقرة فإن أمامها مستقبلا كبيرا قد يؤهلها لمنافسة قوى كبيرة بشكل أفضل.

تنظر دول أفريقية كثيرة إلى أنقرة نظرة إيجابية بسبب الدور الإنساني الذي تلعبه الأخيرة في الساحة الأفريقية ويسهل عمليات التقارب السياسي, ويبدو أن أنقرة ستستمر في تقديم الدعم والمساعدات لأفريقيا خلال السنوات القادمة.

أمام المشكلات التي تواجهها أنقرة في محيطها سواء العراق أو سوريا، فإن نشاطها في أفريقيا يمكن أن يشكل نقاطا إيجابية في رصيدها السياسي والاقتصادي لتواصل مسيرتها، وكلما تعقد الوضع أكثر في محيطها فإنها ستعزز علاقاتها في أفريقيا.

تبني أنقرة قسما كبيرا من علاقاتها على الجانب الاقتصادي الذي قد يشهد تراجعا كبيرا في حال حدوث تدهور أمني (كما حصل في ليبيا خلال الأعوام الأخيرة)، وهو ما ينبغي أن يتم الاحتياط له بشكل مدروس.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.