من نماذج مَأسَسة الاستبداد
لأول مرة أذهب في إجازة طويلة (ثلاثة أسابيع) قصدت منها إصحاح ما اختل من كيمياء الجسد، جرّاء ما اختل من كيمياء النفس، جرّاء ما اختل من شأن السياسة والحياة العامة.
كنت أخطط للبقاء أسبوعين لكن عديداً من الأهل والأصدقاء نصحوا بأن أبقى مدة أطول. "لا تعجل، فلا شيء في السودان يتغير"، قالوها كلهم. لكن السودان -في نظري- قد تغير، أو هو في مسار تغيير إلى الأسوأ.. يا حسرة!!
"انقلاب دستوري في وضح النهار"، هذا هو الوصف الأمثل لما أجراه البرلمان من تعديلات دستورية مؤخراً. التهليل والتصفيق من بعض الأعضاء، وخطب التزيين المزيفة من سياسيين ذوي أسماء كبيرة، قصد منها أن تضفي على التعديلات الانقلابية مشروعية مفقودة. حمدت الله أن أخرجني من هذه المحنة.
قيادة المؤتمر الوطني تكرر تاريخ الفشل في تجارب الأمم الأخرى. شاوسيسكو وبن علي وأمثالهم كانوا يفعلون ذلك أيضاً، كانوا لا يميزون بين المصلحة العامة ومصلحة أحزابهم ثم مصالحهم الذاتية الضيقة، فلما ذهبوا ذهبوا تشيعهم اللعنات، ولم يذكر لهم أحد جميلاً في بناء قاعدة صناعية أو إنشاء بنيات أساسية (طرق وجسور).
الانقلاب الدستوري الكاسح والقفز الفوقي عن كل مكتسبات تجربة الحكم والإدارة في السياسة السودانية، يبرره قادة المؤتمر الوطني بأن ترشيحات الولاة داخل أجهزة المؤتمر الوطني عكست ممارسات قبلية مرفوضة. "عمرة" دستورية كاملة ونكوص عن كل التراث الدستوري بسبب أخطاء المؤتمر الوطني وتشجيعه للصراعات القبلية.
ولكن، ما شأن الشعب السوداني بهذا؟ وما ذنبه؟ كيف يطمر كل ذلك التراث الإداري والسياسي بجرة قلم لأن المؤتمر الوطني -باعتراف قادته- قد ساق البلاد إلى حافة الحرب الاجتماعية. ولماذا دائما عندما يخطئ ابن المدير يصفع ابن الخفير؟
لا عجب إذن أن يصرح السيد الرئيس بأن المشاركة في الحكومة القادمة ستكون حسب مشاركة الأحزاب في الانتخابات. وهذا يعني أن الحكومة (هذه أو القادمة) هي حكومة المؤتمر الوطني، ولا حاجة لانتظار النتيجة التي قد تكون نظرياً -نظرياً يعني- أن يفوز بالرئاسة شخص آخر غير الرئيس الحالي ويشرك من يشاء في حكومته.
الانقلاب الدستوري الأخطر هو ما جاءت به النصوص الخاصة بجهاز الأمن. فالشكوى والنياحة من كل القوى السياسية -بمن في ذلك كثر داخل المؤتمر الوطني- هي من اتساع سلطات وتفويضات هذا الجهاز الذي ينتشر في كل المساحات الشاغرة والمشغولة في الدولة |
إذن العقدة تجاوزت ما يدعيه البعض -وشخصنا الضعيف من بين هؤلاء- من أن الرئيس لا يمكنه الترشح لاستكماله الدورتين حسب الدستور -بل حسب النظام الأساسي للمؤتمر الوطني نفسه (تنازلنا عن الحديث عن خمس دورات)- إلى أن الرئيس هو أجدر من يترشح، حسب ما تقوله لنا الهيئات والمسيرات الشعبية لدعم ترشيح الرئيس المدعومة مالياً بدورها من مصادر شتى لن تكون متاحة لكل المرشحين المساكين الآخرين؛ وإلى أن الرئيس هو هو الرئيس حتى ولو لم تجر الانتخابات.
الانقلاب الدستوري الأخطر هو ما جاءت به النصوص الخاصة بجهاز الأمن. كأنما أراد مؤلفو هذه النصوص "فرك الملح في الجرح"، كما يقال. فالشكوى والنياحة من كل القوى السياسية -بمن في ذلك كثر داخل المؤتمر الوطني- هي من اتساع سلطات وتفويضات هذا الجهاز الذي ينتشر في كل المساحات الشاغرة والمشغولة في الدولة.
رغم أن النص كان باتفاق المشرعين بعد اتفاقية السلام على أنه "خدمة"، ويفترض في الخدمة -كالخدمة المدنية- أن تكون محايدة تجاه كل الأفراد والتنظيمات. لم يشبع ذلك قادة المؤتمر الوطني فأرادوا أن يصنعوا خلقاً جديدا بأنياب وأظافر أشد كلْماً وأعمق جراحة.
جهاز الأمن الآن تعدى كونه جهازاً لخدمة الوطن والمواطنين إلى جهاز نظامي صريح. صارت له مهام قتالية، وهذا مأخوذ من اختصاصات القوات المسلحة. وصارت له سلطات اعتقال وتحقيق واسعة، وهذا مأخوذ من اختصاصات الشرطة. وهو أصلا كان مصمماً باختصاصات سياسية.
إذن هو الآن جهاز يملك أن يعتقلك لآرائك وأفكارك ونشاطك وعلاقاتك السياسية، دون إبداء الأسباب. وهو يملك أن يقاضيك -ربما في محاكم خاصة- ويملك أن يقاتلك فيقتلك في ميدان المعركة، وكل ذلك من منطلق الدوافع السياسية للذين يديرونه ويتحكمون فيه.
وهنا مربط الفرس: من الذين يتحكمون في جهاز الأمن ويلجمون سطوته؟ فالقوات المسلحة خاضعة للمراقبة البرلمانية عبر وزارة الدفاع، ولها قضاؤها الخاص الذي يصدر بقانون من البرلمان. والشرطة خاضعة للرقابة البرلمانية والقضائية. أما الأمن! فلا أحد سوى الرئيس. لا يمكن للبرلمان أن يستدعي مدير جهاز الأمن أو أياً من ضباطه للمساءلة. هو فقط تحت سلطة الرئيس.
وإذا علمنا أن لجهاز الأمن امتدادات شعبية واسعة على مستوى القاعدة فسندرك أن هذا هو الحزب الحقيقي الذي سيحكم السودان في المرحلة القادمة، ولن يتاح حتى لحزب المؤتمر الوطني المسكين -الذي ساق نفسه والسودان إلى تلك الهاوية- أن يوقف نمو الوحش. إنه -ويا للهول- الاستبداد الجديد المؤسس!
إنه لمن المؤسف أن هذا الانقلاب قد جرى تحت غطاء الحوار الوطني الذي دعا إليه الرئيس أوائل العام الماضي. الآن توقف الحوار عملياً، وتآكل رصيد الثقة بين الرئيس وشعبه رغم مسيرات التأييد التي يعرف العالم كله كيف تصنع وتمول.
التجربة في السودان انتهت إلى ما انتهت إليه معظم التجارب السياسية العربية: نظام حكم استبدادي تدور فيه البلاد ومن فيها حول شخص واحد…، فعليكم أيها السودانيون أن تشدوا الأحزمة، فقد جاءكم الاستبداد مُمَأسَساً كما لم تروه وتعهدوه من قبل |
القوى السياسية كلها تعيش عهد الرعب وتنظر أمامها مقصلة روبسبير. السيد الصادق المهدي لا يستطيع دخول السودان ولذا هو باق في الخارج لأسباب مفهومة. سياسيون آخرون مرموقون تحت الاعتقال. لجنة السبعة زائد سبعة صارت درداء، أي فقدت ما كان لها من أضراس، ولا تطمع حتى في أن يرثى لحالها الرئيس ويقابلها ليسمع منها.
الرئيس قد قضى وطره منها ومن الحوار الوطني ويعد نفسه لرئاسة جديدة، إن كانت بانتخابات فهو ألذ، وإن كانت بغير انتخابات فهو جائز. من يجرؤ أن يعترض على كل حال؟
كنت أداوم على القول بأن السياسة في السودان قبل أكتوبر/تشرين الأول لن تكون كالسياسة بعده. وكان السؤال الذي يأتيني: ولمَ؟ كنت أرد بأن المؤتمر العام للمؤتمر الوطني الذي سينعقد في أكتوبر/تشرين الأول سيوضح لنا مبهمين: أولاً، هل سيترشح الرئيس مرة أخرى رغم وعده الصريح بعدم الترشح؟ وثانياً، هل سيقدم المؤتمر الوطني مشروعاً إصلاحياً أو تجديدياً؟
الإجابات كانت فجة وواضحة: أولاً، الرئيس قد ترشح حتى دون قدر ضئيل من التمنع يناسب تأكيداته السابقة. ثانياً -ويا للأسف- المؤتمر الوطني الذي كان أمل القوى الإسلامية في السودان وخارجه هو الآن بلا مشروع حضاري، أو مشروع سياسي وطني، أو حتى مشروع إصلاحي محدود.
التجربة انتهت إلى ما انتهت إليه معظم التجارب السياسية العربية: نظام حكم استبدادي تدور فيه البلاد ومن فيها حول شخص واحد.
نظام لا يراهن على مساندة شعبه وعدالة سياساته ورشد حكمه بمثل ما يراهن على ملل الجماهير من أقاصيص الربيع العربي، وعلى انقسام القوى الدولية بعد أحداث أوكرانيا، وعلى بعض تكتيكات إقليمية. وتبقى الكلمة الأخيرة -عند الحاجة- هي للبطش والتنكيل.
أيها السودانيون: شدوا الأحزمة، فقد جاءكم الاستبداد مُمَأسَساً كما لم تروه وتعهدوه من قبل، فإمّا أن..، وإمّا أن..، والمعنى واضح.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.