التجربة التونسية.. آخر القلاع

Tunisian MPs attend a plenary session of the Constituent Assembly due to set an election calendar on June 25, 2014 in the capital Tunis. After months of negotiations among Tunisia's political parties, Tunisia's National Assembly approved October 26 for the legislative election and November 23 for the presidential poll, as it was proposed by the electoral commission. AFP PHOTO / FETHI BELAID
غيتي إيميجز

نقطة نظام
هل نجح التونسيون؟
مقومات النجاح

ما أندر ربيع العرب وما أكثر شتاءهم، سنوات ثلاث تمر على انطلاقة الشرارة التونسية لثورة أو انتفاضة أو احتجاج حسب المراجع والتأويلات، وانحسر الربيع العربي واضطرب بنيانه وسقط عند البعض وانحرف عند آخرين وبقي يترنح أمام المجهول عند التونسيين.

أيام قلائل أمامنا ليلتحق التونسيون بصناديق الاقتراع لتحديد من يقودهم في السنوات القادمة ويعلنون أن المرحلة الانتقالية الحساسة قد طويت صفحتها أو تكاد من أجل أحوال أفضل. لقد كان المسار الطويل للتجربة التونسية عسيرا ومحفوفا بالمخاطر وطالته عديد المحطات التي كادت أن تطيح بكل الآمال والأحلام وتدفع البلاد إلى الفوضى وسوء السبيل.

التونسيون يمسكون بأيديهم مستقبلهم ومستقبل الربيع العربي، لم تعد تجربتهم تعني رقعة أرضهم ولكنها تمثل اليوم آمالا معقودة على نجاح التجربة ومن ورائها تصدير الحلم مجددا إلى بقية العالم وخاصة جانبه العربي.

نقطة نظام
لما انطلقت الثورة التونسية وأعلنت ميلاد عهد جديد لمواطنيها لم يدر بخلد أحد أن تصبح التجربة تقليدا شائعا بين الأمم، اهتزت مصر وليبيا واليمن وسوريا، وخرجت الشعوب تريد تملك أوطانها وزلزلة العروش والكراسي والدفع بأصحابها خارج المشهد.

إعلان
التونسيون يمسكون بأيديهم مستقبلهم ومستقبل الربيع العربي، لم تعد تجربتهم تعني رقعة أرضهم ولكنها تمثل اليوم آمالا معقودة على نجاح التجربة ومن ورائها تصدير الحلم مجددا إلى بقية العالم وخاصة جانبه العربي

ارتجت التجربة في مصر، وبعد عام من عرس ديمقراطي تخللته اضطرابات وتدافع، أعلن الجيش أن اللعبة انتهت واسترجعت الثكنة مكانها مجددا بعد حكم تواصل أكثر من نصف قرن ودفع بالتجربة إلى أحضان النسيان والعقاب الشديد والضرب من حديد، وعادت المنظومة القديمة بكل جرأة لتستولي على الصولجان والدرة وليصبح ربيع مصر قوسين يتم إغلاقهما على وقع دماء وعذابات واستبداد جديد.

واشتعلت سوريا بعد بداية سلمية لثورة مباركة، سرعان ما أثخن فيها النظام قتلا وتعذيبا وسجنا رافضا التخلي عن كرسيه ولو على أنهار من الدماء، واستغل الوضع دخلاء استمرأوا لعبة النظام المقيتة على الجذع الطائفي، فأصبح المشهد دمويا خالصا طائفيا خالصا متطرفا خالصا، وبقي الشعب السوري البطل يدفع الثمن باهظا بين أطراف لم يعد يعنيها سوى الكرسي ولو كان مهشما أو معوجا أو على زعامة حي أو قرية.

ودخلت ليبيا مرحلة الجنون وكأنها ترث جنون قائدها المقتول، وأصبح وضعها مأساويا خالصا، على وقع تقاسم المغانم بين طوائف وقبائل ومجموعات، وسقطت الدولة أو تكاد وأصبح بعض الليبيين يترحم على الاستبداد وهو قابع في بيته أو يلعن الثورة وأهلها وهو يجتاز الحدود التونسية هربا وطلبا للأمان.

هل نجح التونسيون؟
كان النموذج التونسي ولا يزال مجموعة ممارسات التقى فيها العرف والتقليد والتاريخ القريب والبعيد، كان لقاء بين عقلية معاصرة حداثية وأخرى أصيلة منفتحة ذات قراءة معتدلة بين النقل والعقل، وكلما تقارب هذا التجاوب محمولا على بساط حزبي أو غيره أعطت التجربة ثمرة إيجابية لكل المجتمع، ولعل اللحظة الثورية وما بعدها بقليل تمثل أحد هذه النجاحات التي يتميز بها النموذج التونسي، وفي المقابل كلما تباعد اللقاء وهيمن على المكان المنظور الأيديولوجي والحسابات السياسية الضيقة تباعدت الضفاف وتباعد معه كل حصاد لثمرة طيبة يعيشها المجتمع.

إعلان

نعم يمكن أن نتحدث عن إسلام تونسي دون وجل، إسلام وسطي معتدل قد يتطرف في "علمانيته" أو يتطرف في إسلاميته، ولكن هذه الطبخة التونسية على علاتها ساهمت عن قرب في إنجاح التجربة التونسية في مسارها إلى حد الآن، ولكن هل تتم مشوارها وتؤتي أكلها النهائي في خاتمة المطاف؟ إن دخول عامل الإرهاب على المشهد السياسي التونسي قلب الأوراق ولاشك، وأبرز للعموم أن المشهد لا يزال هشا ويكتنفه كثير من الغموض. التجربة التونسية ليست ملك آبائها ولكن أجندات خارجية وطوابير خامسة ومنظومات الأزلام والفلول والعهد القديم والدولة العميقة، كلها أطراف لا تزال تمسك بأطراف المشهد وحتى ببعض قطع اللعبة، ويمكن أن تحدث المحظور. فهل نجحت التجربة حتى تكون نموذجا يتبع ويعتبر خلاصا لأصحابه وأملا للآخرين؟

إن لحظة البناء والتجاوز، لحظة الثورة والدولة ليست لحظة أيديولوجية ولكن لحظة وطنية بامتياز لا يمكن حملها من قبل فريق دون آخر، كانت الثورة لقاء الأضداد فلتكن مرحلة ما قبل الدولة ومرحلة الدولة وحدة الأضداد!

بكثير من التبسيط تقوم الثورات غالبا والثورة التونسية لا تخرج عن هذا الخط، استجابة لداعي الحرية والكرامة، الشعب يريد معيشة أفضل وأمنا أحسن وحرية أكثر وتعاملا أخلاقيا أرفع، رباعية المطالب هي رباعية نجاح الثورات من عدمها، والتجربة التونسية تلكأت في هذا المجال، التقت عليها أسباب موضوعية من أزمات الخارج الاقتصادية وأجنداته الخفية مع داخل متوتر لا يقبل بسهولة تسليم البيت إلى أصحابه الحقيقيين، وأسباب ذاتية تتمحور حول تعثر الكفاءة وتردد الحسم والحزم وحسابات مغلوطة مع الفلول، وتعثر المنظومة الأخلاقية القيمية غيابا أو ضعفا.

ومن هذه الأبواب الأربعة تؤكل الثورات وتخيب.. اقتصادا، غلاء للمعيشة وانهيارا نسبيا للدينار وفقدانا للقدرة الشرائية للمواطن زعزعت الثقة وطرحت التساؤلات الحزينة، دخول الإرهاب على الخط وسقوط ضحايا في سلك الأمن والجيش الوطني ضرب المصداقية وأربك الأمن والأمان، دعاوى محاربة الإرهاب وعودة فلول العهد البائد مجددا على الساحة وإن كان غيابهم كذبا وافتراءً، قلص من منسوب الحرية في البلاد وبدأ عد تنازلي خطير لعودة الاستبداد.

إعلان

هيمنة الإرث غير الأخلاقي على المشهد الاجتماعي نتيجة منهجية تجفيف منابع التخلق والقيم التي قررها ونفذها باقتدار النظام البائد، أضعف كل بوادر ملموسة لعملية التغيير داخل ذهنية التونسي وثقافته ومن ثم ممارسته.

مقومات النجاح
كل الأمر موكول إلى التونسيين نخبا وعامة، والانتخابات القادمة إذا وصلها الشعب بسلامة فإن التجربة تمثل نجاحا مرحليا هاما في المشي على الأشواك، وإن كان مبتورا.. ووصولك أعرج خير من ألا تصل بتاتا.

على الشعب التونسي أن يجعل من كل توتير للمسار حتى وإن كان إرهابا معطى داخل هوامش الطريق نحو التحرر، لا أن يكون مثبطا ومنهيا للتجربة. إن منجز الدستور وما تبعه من وفاقات على علات بعضها، يمثل جزء هاما من المسار، ليس الأمثل والأفضل ولا شك ولكنه منجز الربع ساعة الأخير يحمل معه النطيحة والمتردية وما أكل السبع، من أجل نجاح التجربة ودخول مرحلة الدولة بعد أن استنفدت مرحلة الثورة أو تكاد كل محطاتها.

إن الدرس البليغ للتجربة التونسية يحمله بعد خاص للتونسي في تكوينه التاريخي والثقافي والحضاري متمثلا في إنسان الوفاق والحوار والوسطية والواقعية والخوف من المجهول، ولكنه أيضا سعي مجهد أحيانا نحو الأفضل حسب معطيات اللحظة وإستراتيجية المكان والزمان. لا يريدون القمر الليلة ولكن يمكن أن يكون الفانوس كافيا لبعض الطريق.

إن لحظة البناء والتجاوز، لحظة الثورة والدولة ليست لحظة أيديولوجية ولكن لحظة وطنية بامتياز لا يمكن حملها من قبل فريق دون آخر، كانت الثورة لقاء الأضداد فلتكن مرحلة ما قبل الدولة ومرحلة الدولة وحدة الأضداد!

التجربة التونسية اليوم في حاجة إلى تجميع الصف الثوري بكل ألوانه، سقطت ضفاف الفرز الأيديولوجي، ووجدنا الإسلامي والعلماني واليساري واليميني في نفس الضفة، ضفة الثورة أو ضفة مناهضتها، والنموذج التونسي والمصري عنا ليس ببعيد، نحن اليوم في حسم وجودي بين البقاء والعدم، ليس بقاء للعناوين والدكاكين الصغيرة مهما عظمت، ولكن المستهدف اليوم بقاء المشروع الثوري بما يعنيه من "قلب للطاولة" و"فسخ وعاود" وقطيعة مع الماضي وبناء نموذج تنموي ومنهج حياة جديد.

إعلان
المسار الثوري اليوم في حاجة إلى تثوير قراءته وتجاوز عقبات الأيديولوجيا الكامنة في أعماق البعض والانفتاح على الآخر في صحبة طريق وعرة ليس لها رصيف. مشعل الثورة لن تمسكه اليد المرتجفة، ولكن لن تحمله يد واحدة لأن التحدي أكبر

التجربة التونسية اليوم في حاجة إلى سقوط كل النرجسيات والأنا المتضخم والسيد ومريديه، ولا يبقى غير المشروع الوفاقي الوطني الثوري، لا نريد ملوكا للطوائف يحمي كل صغير دكانه وعنوانه ويستعد لفتح الباب لريح "الشهيلي" الحارة لتعصف بأخيه على حرّ، وقد نسي أن لا عاصم اليوم من سقوط الجميع ولو بعد حين.

التجربة التونسية اليوم، ومن ورائها كل التجارب اللاحقة، في حاجة لمنظومة أخلاق وقيم حازمة، تخلت عنها الثورة ممثلة في نخبتها، وبقي التدافع السياسي تعدل بوصلته في الغالب النظرة الحزبية الضيقة وألاعيب الربع الساعة الأخير والأجندة الحينية التي تفيض تكتيكا وتنعدم إستراتيجيا واستشرافا وجوديا لكل المشروع.

اليوم نحن نريد التفافا حول مشروع الثورة في تحالف وحيد يحمل عنوان الثورة، يلتقي فيه الإسلامي بالعلماني، واليميني باليساري من أجل كلمة سواء جامعة: الثورة أولا والوقوف بحزم تجاه منظومة الفساد والاستبداد وعودتها المزعومة. لأن المنظومة المضادة للثورة تتقدم متحدة بخطى ثابتة وإن كانت قوتهم الحقيقية في ضعفنا وتشتتنا. الثورة ملك أبنائها وليست ملكا لقطاع الطرق.

لن يحمي وهج الثورة ومن بعدها مرحلة الدولة اليوم، الإسلامي الثوري في محرابه، أو العلماني الثوري في معبده الحداثي، ولكن في تحالف إستراتيجي وليس تكتيكيا لإنقاذ الجوهر والعودة إلى صلب المنجز الثوري.

إن المسار الثوري اليوم في حاجة إلى تثوير قراءته وتجاوز عقبات الأيديولوجيا الكامنة في أعماق البعض والانفتاح على الآخر في صحبة طريق وعرة ليس لها رصيف. مشعل الثورة لن تمسكه اليد المرتجفة ولا شك، ولكن لن تحمله يد واحدة لأن التحدي أكبر من عنوان وأيديولوجيا ودكان.

ختاما: الأندلس عبرة في مستوى الحضارات وسقوطها، والأندلس عبرة في مستوى تشتت أي كيان وفنائه إذا كان الصراع وجوديا خالصا.. تعيشون اليوم صراعا وجوديا خالصا يتجاوز المصالح الضيقة والطموحات الشخصية والحسابات السياسوية.. تعيشون متحدين أعزة كرماء مبجلين أو الفناء والعدم ولو بعد حين.. "الثورة ثم الدولة في رقابكم".

إعلان

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان