التيار "الغربي" في المعارضة السورية

A general view of the opening of the the so-called Geneva II peace talks in Montreux Switzerland, 22, January 2014. Representatives of Syrian President Bashar al-Assad, a deeply divided opposition, world powers and regional bodies started a long-delayed peace conference aimed at bringing an end to a nearly three-year civil war. EPA/RAINER JENSEN

جزم باراك أوباما بأن المعارضة السورية لا تستطيع إسقاط بشار الأسد، فهي معارضة عاجزة ما دامت تتشكل من فلاحين وأطباء أسنان. وهذا ما يشكّل صدمة لأطراف أساسية في المعارضة بنت كل إستراتيجيتها على "حب" أميركا، ودورها التدخلي.

لهذا كان علينا أن نحلل "حالة العشق" التي نشأت منذ عقدين ونصف حيال أميركا، حالة عشق يبدو أنها انتهت بقسوة.

ليست الدعوات الجديدة لـ "التصالح" مع الدولة الصهيونية والتنازل عن الجولان المحتل هي أول مظاهر تبعية تيار في المعارضة السورية. ربما كان الكلام الصريح والمباشر وفي الإعلام هو الجديد في الأمر، لكن كان ما يطرح الآن هو جزء من طرح وتناول تيار "عريض" كان "يثرثر" في كلام كثير كهذا.

ولتوضيح الأمر، لا بد من القول بأن "تيارا عريضا" في المعارضة كان يميل منذ البدء لتسليم الأمر للتدخل العسكري الأميركي من أجل إسقاط النظام. ولقد وضع كل سياساته انطلاقا من رفضه النظام، وكان يطرح ما يكمل ما قد بدأه النظام حين كان يدفع لانتصار الليبرالية الاقتصادية، التي كانت تعني الربط مع الرأسمالية العالمية بالضرورة، حيث إن سياسة الانفتاح الاقتصادي تعني التكيف مع العلاقات التي يفرضها السوق الرأسمالي العالمي.

وكان يظهر بشكل واضح أن سياسة تلك المعارضة مبنية على تبني سياسة معاكسة لسياسة السلطة، وطرح أفكار وتصورات معاكسة للخطاب الذي تطرحه السلطة. وليس من أي منظور آخر، ولا من أي "أيديولوجية" أخرى. ولا حتى نتيجة تمثّل ديمقراطي، و"اعتناق" القيم الغربية. فقد كانت هذه تتكرر في خطاب هؤلاء لكنها كانت كاذبة، وسطحية، ولم يظهر استيعاب لها.

هناك كتلة مهمة من النخب السياسية والثقافية باتت تعتبر أنها "جزء من أميركا" وأنها "الحليف الطبيعي" لها، والمردد لأفكارها والداعم لسياساتها، وتدعوها بشكل متكرر للتدخل العسكري لإسقاط النظام

لقد جاءت هذه السياسة كردّ فعل على ما اعتقد هؤلاء أنه خطاب النظام الحقيقي، وليس الخطاب "الأيديولوجي" الذي يهدف إلى التعمية، والذي كان يقول بمعاداة الإمبريالية والتحرر، وتحرير فلسطين والجولان، والقومية العربية، وقد كان هذا هو خطاب السلطة في مرحلة سنوات 1970- 2000، حيث كانت "الاشتراكية" هي الاسم المعطى لدور الدولة الاقتصادي، الذي كان يتعرض للنهب المريع.

وإذا كانت المعارضة وحتى سنة 1991 تركز على مسألة الديمقراطية، في إطار خطاب معاد للإمبريالية عموما، ولكنها انقسمت بعد هذا العام، بعد أن كانت السلطة قد سجنت خيرة كوادرها، ودمرت معظم أحزابها، وظهر من يعمل "كوبي بيست" (نسخ ولصق) بشكل مخالف لتوجهات السلطة، بمعنى تبني خطاب مناوئ لـ "القومية العربية" ومع "الوطنية السورية"، ومع أميركا والغرب عموما، ومع كل خطابه الأيديولوجي، وكل سياساته كذلك.

كان انهيار الاتحاد السوفياتي مفصلا في هذه النقلة التي بدأت مع الحرب الأولى على العراق سنة 1991، وجرى تحوّل كبير في صفوف اليسار، جعل كتلة مهمة منه تصبح "ليبرالية" و"غربية"، ومع العولمة التي أصبحت تطرح كقدر عالمي، وبالتالي مع كل سياساتها الاقتصادية (الانفتاح الكامل وإنهاء دور الدولة الاقتصادي)، وحتى العسكرية.

هذه المسألة الأخيرة هي التي جعلت التدخل العسكري "حاجة موضوعية" لهؤلاء، بالتالي وجدنا أن كتلة مهمة من النخب السياسية والثقافية قد باتت تعتبر أنها "جزء من أميركا"، و"الحليف الطبيعي" لها، والمردد لأفكارها والداعم لسياساتها، والذي يدعوها بشكل متكرر للتدخل العسكري ضد النظام لإسقاطه.

ولقد ركزت على شعار الديمقراطية واللبرلة، والانخراط في "التحالف الغربي"، وكانت ترى أن "القطاع العام" هو قاعدة الاستبداد، لهذا لا بد من الحرية الاقتصادية لكي تنجح الحرية السياسية.

ومسار الحرية الاقتصادية هو الذي تسارع بعد وصول بشار الأسد إلى السلطة، والذي انتصر نهائيا سنة 2007، في الوقت الذي كان جزء مهم من المعارضة يطالب بالتدخل العسكري الأميركي لتغيير النظام.

إذا كانت الديمقراطية كمطلب تطرح في مواجهة نظام مستبد شمولي، فقد كان مسار نخب السلطة (رجال الأعمال الجدد)، وهذه المعارضة يسيران في الاتجاه ذاته: التعلق بـ "الغرب". فاللبرلة تفرض التشابك مع الاقتصاد العالمي المسيطر عليه من قبل الطغم الإمبريالية، وهذا ما كان يدفع السلطة الجديدة بعد موت حافظ الأسد إلى "فتح خطوط" مع أميركا، ومحاولة ترتيب العلاقة معها، وتحقيق الشراكة الاقتصادية مع الرأسمال الخليجي، ومن ثم التركي (أكثر من الإيراني).

ولا شك في أن "الطموح الأميركي" الأبعد من تحقيق تشابك هو الذي فرض القطيعة مع النظام السوري (بين 2005 و2009). فقد كانت سياسة أميركا تقوم على تغيير النظام لترتيب نظام "طائفي"، تحت مسمى تمثيل الأغلبية (المنظور لها دينيا)، وليكون أساس "نظام ديمقراطي طوائفي".

هذه الصيغة بالضبط هي التي اصطدمت بوجود النظام الذي على ضوئها يجب أن يرحل.
ولكن هذه الصيغة هي التي أصبحت مطلب تلك المعارضة، والصيغة التي تسعى إليها. حيث بدأت في تعلُّم وتكرار المصطلحات التي أدخلها الاحتلال الأميركي إلى النظام السياسي والمجتمع العراقيين (مثل المكونات، والتكوين الطوائفي، والفيدرالية…..). وباتت تنتظر لحظة التدخل العسكري الأميركي، خصوصا بعد اغتيال رفيق الحريري أوائل سنة 2005.

هناك "رجال أعمال" ينتظرون تغيير النظام لكي يتحصلوا على مشاريع إعادة الإعمار، وليكونوا جزءا من السلطة. ويصاغ الائتلاف لكي يمثل هؤلاء بالتحديد، عبر تدخلات خارجية وصراع بين فئات مختلفة

وإذا كانت لم تثق لحظة بإمكانية الشعب السوري للثورة، وكانت تنظر إليه من منظار تحقيري، في الوقت الذي قد أصبحت تعرف أنها عاجزة، وأن كل القدرات الداخلية عاجزة، عن إسقاط النظام. وبالتالي كانت تعاني من عقدة "نقص" تحتاج تحليلا نفسيا.

وقد دفعتها الثورة غير المتوقعة للشعب إلى الركض لرسم سيناريو "التدخل الخارجي"، خصوصا بعد أن حدث ذلك في ليبيا خلال فترة نشوب الثورة السورية. وعلى هذا الأساس تشكلت معارضة الخارج، التي تبلورت في أوائل شهر أكتوبر/تشرين الأول سنة 2011 في المجلس الوطني السوري، واحتضنها الغرب، وتحركت انطلاقا من حضنه واعتمادا على التبعية له، وكان همّها هو استجرار التدخل العسكري، وهو ما بنت على أساسه خطابها "السياسي" (الذي قام على شتم السلطة، والندب على القتلى واستجداء التدخل).

وبالتالي فإن الدعوة الراهنة لـ "التحالف" مع الكيان الصهيوني هي استمرار لهذا السياق، الذي يريد أن يستجلب القوى الإمبريالية نكاية بالسلطة القائمة، وشعورا بالعجز المفرط عن إسقاطها. لكن إذا كان هناك من ينطلقون من "النكاية" فقط، وأسسوا كل تصوراتهم انطلاقا من رفض خطاب متقادم، وسياسات متقادمة للسلطة، فإن هناك "مافيات" تريد الاستفادة من الثورة للقفز إلى السلطة لكي تنهب هي بدل آل الأسد وآل مخلوف وغيرهم.

هناك "رجال أعمال" ينتظرون تغيير النظام لكي يتحصلوا على مشاريع إعادة الإعمار، وليكونوا جزءا من السلطة. ويصاغ الائتلاف لكي يمثل هؤلاء بالتحديد، عبر تدخلات خارجية وصراع بين فئات مختلفة، كما أنه أيضا يمثل "الغرب"، ويُطرح كحليف له (مقابل السلطة التي تبدو كحليف لروسيا).

ولقد وضع ذاته هنا لأن منطقه كان يجعله هنا، و"هوسه" الغربي هو الذي جعله يركض لكي يستعين بـ "الغرب"، دون أن يفهم الواقع العالمي (التحولات العالمية التي كانت تضعف هذا الغرب)، وأن يفهم بأن هذا الغرب كما "الشرق" (روسيا والصين) لا ينظر بارتياح للثورات، وهو يدعوه لدعم ثورة في الأخير. ولهذا بات مجال مساومات بين إمبرياليات، أميركا وروسيا، وربما يصبح جزءا من حل تفرضه هي. وهو حل بالضرورة ضد الثورة، وضد التغيير الذي يطلبه الشعب.

لقد أضرت سياسة المعارضة بالثورة منذ بدايتها لأنها أخافت من "وضع عراقي" في سوريا، أي أخافت قطاعات مجتمعية (و"أقليات") من تدخل عسكري يقود إلى حرب طائفية وقتل وفوضى، هذا قبل أن يعمم النظام عنفه وقتله. وهو ما أخّر توسع الثورة بالضرورة، وبالتالي إعطاء السلطة زمنا مهما لكي تحافظ على تماسكها، وخصوصا أن الدعوة إلى التدخل ارتبطت بخطاب طائفي كان يعني سيطرة قوة طائفية معينة (الإخوان المسلمون) للمجتمع ثارات معها.

وإذا تجاوزنا هذا الأمر مؤقتا فإن هذا الضرر الذي حققته لم يغط بتدخل خارجي يسقط السلطة، فقد ظهر بوضوح شديد أن فهم هذه المعارضة للعالم وظروفه الراهنة خاطئ ومبني على تحليل بات متقادما بعد الأزمة المالية العظمى التي تعرضت لها الولايات المتحدة سنة 2008. وبالتالي بات يتحكم في العالم عنصران، الأول هو الضعف الأميركي، ومن ثم العجز عن التدخل (وأوروبا وحدها عاجزة عن التدخل)، والثاني أننا في وضع ثورات شعبية كبيرة، وفي هذه الوضعية تخاف الرأسمالية من الثورات أكثر مما تخاف من نظم مافياوية تختلف معها (مثل النظام السوري)، لهذا كان الأمر يتعلق بتدمير الثورات وليس بانتصارها.

الثورة تريد قلع كل ما بني من ارتباط وتبعية في العقود الماضية، انطلاقا من فرض نمط اقتصادي ريعي، وهؤلاء يريدون تكريس السيطرة الرأسمالية الإمبريالية، والاقتصاد الريعي

كل هذه أوهام انساقت خلفها معارضة الخارج، اكتملت بالمراهنة على دور الكيان الصهيوني، الكيان الذي كان مرتاحا لاستمرار سلطة نظام الأسد، ومقتنعا بأنه يستحيل أن تأتي الأخطار من جبهة الجولان مع وجوده.

كما أن هذا الكيان لا يريد راهنا الفوضى في سوريا، ويعرف بأن المعارضة عاجزة عن توفير "الأمن"، وعن تشكيل سلطة قادرة على الحكم. وبات يريد سلطة قادرة على الحكم باستمرار الأسد أو بدونه، وهي في كل الأحوال غير قادرة على لعب دور دون موافقة أميركية (إلى الآن على الأقل). لكن طرح مسألة التخلي عن الجولان كانت تظهر إلى أي مدى أوغل بعض المعارضين في "بيع الوطن"، وفي السعي للوصول إلى السلطة.

المسألة هنا ليست وطنية بالمعنى الساذج أو السطحي، أو الذي ينحكم لمنظور "وطني ضيق"، بل إنها تتعلق بخيار معاكس للثورات أصلا، فالثورة تريد تغييرا عميقا في النمط الاقتصادي من أجل حل مشكلات البطالة (وقد كانت في سوريا 30%) والفقر الشديد، والأجر المتدني، وكل ذلك يستلزم تجاوز اللبرلة التي أوجدتها. وتجاوز اللبرلة يفرض الصراع مع الرأسماليات بالضرورة التي تكرسها، والصراع مع الكيان الصهيوني الذي لا يريد التطور لسوريا ولمجمل المنطقة.

الثورة تريد قلع كل ما بني من ارتباط وتبعية في العقود الماضية، انطلاقا من فرض نمط اقتصادي ريعي، وهؤلاء يريدون تكريس السيطرة الرأسمالية الإمبريالية، والاقتصاد الريعي. بالتالي نجد أن هؤلاء يستعينون بـ "الغرب" لفرض اقتصادهم ضد الشعب الذي ثار من أجل تغيير الاقتصاد الذي أسّس للارتباط بالرأسمالية.

إن التيار "الغربي" هو ذاك الذي يريد أن يكرس ارتباط الاقتصاد بالرأسمالية، ويكرس التبعية، على الضد من الثورات التي لا تنتصر دون تغيير كلية النمط الاقتصادي.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.