الحياة المدنية في الشريعة الإسلامية

مسجد الملك المؤسس وسط العاصمة عمان - ارشيف


إن إحدى أهم المسارات التي تحتاجها مدرسة الوعي الإسلامي المعاصر لإعادة تأسيس الفكر والفقه الإسلامي بحسب منهج أهل السنة، هي علاقة الدين الإسلامي بالحياة المدنية للأفراد.

فمنهج أهل السنة الحقيقي -كما قدمنا سابقا- ممتلئ بهذه المعاني والتشريعات الإيجابية ليس كإطار طائفي بل مدرسة تفكير وتفقيه للتشريع المقاصدي الذي يعتمد على الأصول ويفتح أبواب الوصول لثقافة الدين والحياة ونهضة الإنسان فيهما، لكن الحاجب الأكبر كان اختطاف مصطلحه وتاريخه أو تكريس خطايا الفتاوى ونسبتها إليه.

ومع صعود فكرة التنظيم الدستوري للحياة المدنية في الدول المعاصرة، تاهت بعض الاجتهادات وتصادمت أخرى وضُيّق على اجتهادات أخرى من حيث عدم الوعي بهذا الفقه والمساحة التي يقدمها للحياة المدنية كمساحة أصلية، الأصل فيها الإباحة لا المنع، وبذلك تم افتراض أن كل ولادة جديدة لدولة -بحسب الجدل الفقهي- يحتاج إلى تشريعات تفصيلية قانونية لممارسة الحياة المدنية في عالمها الاجتماعي الضخم ونسبة ذلك إلى التشريع الذي لم يُقرر ذلك بل أعطى مدلولات لخلافه.

إن تصوير الحياة الأولى للمجتمع الإسلامي وعلاقة المرأة بالرجل وثراء مصادر التشريع الإسلامي وتعددها تؤكد التعامل الطبيعي مع مساحة الحياة المدنية وليس خنقها

وهنا نحتاج إلى توضيح حقائق مركزية كمقدمات لفهم هذا المعنى التشريعي ومساحة الإباحة فيه في الفقه الإسلامي، الأولى أن رسالة الوحي القرآني والنبوي تؤكد مصطلح الحياة الإسلامية الفاضلة والناجحة من حيث كسب طريق الدين الحق والدنيا، وشواهدها وأدلتها النصية تفيض بذلك، بمعنى أن الله عزّ وجل قد سمّى هذا المعنى وأكد عليه، فكيف يجحد أو ينكر؟

ولذلك القضية ليست في تبشير النص القرآني المُنزّل بهذه الحياة الإسلامية الفاضلة والذي لا سبيل لإنكاره لكل قارئ منصف، ولكن في معنى مفهوم النجاة في هذه الحياة ووصوله إلى الرحلة الغيبية، ومن تشمل هذه النجاة وكيف تمارس شروطها العبادية والسلوكية، وهل مساحة الطباع واللباس والشراكة الاجتماعية المتعددة الصور، هي نموذج حدي ملزم تقرره بعض الأفهام الدينية فتُضفي النجاة على من يطبقه وتنزعه عن الآخر؟

والجواب هنا أن مدلولات النصوص والاجتهادات فيها والسلوك العملي لمجتمعات المسلمين منذ عصر النبوة وحتّى في عصر الاستبداد السياسي وما تخلله من ثراء فقهي ووجود تكتل لعلماء شريعة لا تؤيّد هذا المعنى الذي استُنسخ اليوم من فكرة دينية وعُمم على المسلمين بأن من يقوم بهذه السلوكيات وطريقة التعامل في الحياة الاجتماعية هو الدين وما خالفه معصية وخطيئة.

إن تصوير الحياة الأولى للمجتمع الإسلامي وعلاقة المرأة بالرجل وثراء مصادر التشريع الإسلامي وتعددها تؤكد التعامل الطبيعي مع مساحة الحياة المدنية وليس خنقها، وهذا ممتد بين أقاليم المسلمين الكبرى ويتضح جليا في دراسة تاريخهم الاجتماعي مع وجود قامات علمية كبرى بينهم من الحجاز حتى ما وراء النهر، وبالتالي فإن الفقه الذي لم يعتمد على قطعيات الإسلام ومقاصده وغلب عليه طبع اجتماعي لا يُمثّل إطارا يقاس عليه موقف الإسلام من الحياة المدنية ولا تحديد المساحة الحرة التي فسحها الشارع للخلق، هذه هي المقدمة الأولى.

المقدمة الثانية أن هذه الرسالة الإسلامية الجامعة لا يجوز أن يُنظر إليها بمنظور التهذيب وفقا لنظريات أو قوانين العلمانية المطلقة بحيث يَبقى الباحث يبحث عن زوايا أو تهذيب لأصل هذه الشرائع وفلسفتها فيعتسف النّص ليتطابق مع القوانين العلمانية المطلقة حتى يُقنع المنظومة الفكرية الغربية ومريديها أو المصدومين من تطبيقات دينية منحرفة يوسم بها الإسلام.

وهنا سنتحدث في بُعدٍ فلسفيٍ وتشريعي لمصالح الإنسانية، حيث إن تأويل ورفض كل معنى تشريعي إسلامي أصلي لمجرد عدم موافقته للتعليمات العلمانية الحدية هو خطيئة من جانبين، الأوّل أن هذا ليس استنتاجا علميا بل تجاوزا لمدلول النص الواضح لإرضاء الباحث الخاضع أو المهزوم أمام المنظور العلماني المطلق.

والثاني هو أن هذه النزعة تفترض دون دليل أن كل مفهوم إسلامي للحياة لا يتطابق مع العلمانية الحدية هو قاصر إنسانيا.. وهنا المأزق الكبير.

هناك العديد من التشريعات العلمانية والحياة المعاصرة معها لم تضمن سلامة الفرد ولا استقرار وجدانه ولا حتى ضمان العدالة الاجتماعية بمفهومها الشامل واستقرار البعد التربوي المتوازن للفرد وتساوي الحقوق، والحياة الأخلاقية، ولا يوجد أي دليل جازم بذلك. سواء كانت تلك التشريعات سلوكية تتعلق بتعاطي المخدرات أو الخمور أو جنائية رادعة لفشو الجريمة، أو تشريعية تكافلية، أو متعلقة بالانضباط القيمي المحتشم الذي يُساهم في استقرار الفضيلة كحاجة إنسانية للمجتمع يرتاح بها ويستقر.

تحل الكارثة حين يُحوّل جزء من الخلاف الفقهي وتقدير الفتوى إلى أحكام قطعية عند البعض، يتم فرضها كقانون يتدخل في كل صغيرة وكبيرة من الحياة المدنية، ثم يقال إن هذه هي الشريعة

وعليه فإن نزعة الهروب من مفهوم النص وأثره الإيجابي لاستقرار الحياة اجتماعيا عبر تشريعه وفلسفته لا يوجد لها نص عقلي يجزم بها هذا المفكر أو المثقف العلماني الحدي ليعلن بأن الإنسان من صالحه نبذ الفقه الإسلامي والسؤال قائم له.. أين الدليل؟

هنا نُذكّر دائما بإشكالية الصورة المطبوعة في الثقافة المعاصرة عن صور التطبيق الديني المنحرفة التي تمارسها مجتزأة ومشوهة دول أو جماعات، ويبقى هذا الفرد رهينة لذلك النموذج من الاعتساف أو الاعتساف المقابل، فيما نحن نطرح منظورا يقوم على أصل الفكرة الإسلامية وتطبيقاتها المنهجية.

كما أن هذا المبحث لا يعني عدم قبول الفكر الإسلامي بمفهوم الشراكة المتدرج وتوسيع دائرة فقه حلف الفضول من الحروب إلى دساتير الحقوق وأن عدم النص على تطبيق الشريعة لا يعني مناوأتها ولا رفضها بل العمل بسنن الله ومنهجية السيرة وفقه التأسيس في مجتمعات المسلمين.

هنا سنصل إلى المدخل الكبير في قضية الحياة المدنية المعاصرة وفقه الشريعة، حيث سنلاحظ أن الشرائع مقسّمة إلى حقوق دستورية (نصوص العدالة والمساواة) وقانون جنايات، وإرشاد أخلاقي، وتوجيه تربوي وبناء الوجدان وضمير المحاسبة الذاتي، كل هذه الأقسام لها مدلولات مختلفة من حيث التطبيق لا تعني أن تُشمل كلها -كما يعتقد البعض- بقانون جنايات فيُلحق أيّ تقصيرٍ في نظره وفقهه بها، وهكذا تُخلط تعاليم الإسلام المتعددة التوجيه بنظام قانوني مزعوم لم يشرعه الإسلام، وتحل الكارثة حين يُحوّل جزء من الخلاف الفقهي وتقدير الفتوى إلى أحكام قطعية عند البعض، ويتم فرضها كقانون يتدخل في كل صغيرة وكبيرة من الحياة المدنية، ثم يقال إن هذه هي الشريعة.

وهذا الإشكال عزّز خوف بعض الشعوب المسلمة من هذه النماذج لا رفضا للإسلام الحق لكن خشيتها من خنقه، كما أنها عززت اختراق المجتمعات المسلمة بعواصف من الصناعة الدعائية والإعلامية لا تعترف بفضيلة ولا قيم، وتتداخل فيها أطماع الأرباح التجارية واللعبة السياسية وصراع التيارات وقاعدة الغرب في ربط المجتمعات الشرقية بنمطه الثقافي، حيث لم يجد هذا الإنسان طريقا ثالثا بين الغلو والغلو المضاد.

إن مفهوم الحسبة الأخلاقي له رديف سياسي واقتصادي كما كان يفعل عمر بن الخطاب وكما فعل غيره من خلفاء عهد الرشد الإسلامي، كما أن تنفيذ أحكام الجنايات لم يتحول ليشمل من خالف توجيها أخلاقيا أو تربويا، وإن وجود الفنون والموسيقى في عهود متقدمة لم يكن يمنع الحوار والخلاف الفقهي فيها، لكن لم تُسن تشريعات لمطاردتها، نعم هناك فرق بين الفن الذي تحول لحفل عام يكتنفه المجون وبين موسيقى وأشعار، لكن بالجملة لم تشرع أحكام تطاردهم أو حتى تتجسس عليهم.

وبقيت مساحة يُعبّر فيها الفقيه عن رأيه وقوله في بعض السلوك الذي يصاحب المجتمع وقد يُعنف على بعضهم، ولكن لم تتحول إلى أنظمة وتقسيم مجتمعي يطارد الناس على مساحة ما يرونه حلالا أو حراما، وكل ذلك في إطار حياة فقهية نشطة في القرون الأولى، بل ولم تُعتبر هذه السلوكيات المطاردة لمخالفيها بأنها تطبيق للشريعة بل كان هناك اشتغال من الصدر الأول للعلماء كأبي حنيفة والشافعي على تصحيح الحكم بالعدالة ونبذ الاستبداد ورأوا ذلك من أصل الدين.

إن تحوّل الفقه الديني لبعض المدارس إلى قلب القاعدة من أن الأصل في الأشياء الإباحة إلى أن يكون الأصل هو الحرمة عقّد الحياة الاجتماعية وصادم المساحة التي كفلها الإسلام للحياة المدنية فيما يحبه أو يكرهه

وهذا لا يعني ألا يُقيم المجتمع حدودا للحشمة والفضيلة وعدم التعدي على الذوق العام واحترام استقرار المجتمع، لكنه لا يحوّل الدين وتطبيق الشريعة لمنظومة مطاردات أو فرض سلوك طبائعي على الناس وبينهم، وصولا إلى قضية علاقة المرأة بالرجل من حيث التوازن المحتشم والشراكة في شؤون الحياة وليس العزل القسري للأنثى وكأنها كائنٌ طارئ وهو ما يخالف كليا عهود الرشد الإسلامي، وتم خلط نصوص الفضيلة لدى البعض بسلوك الحصار والعزل للأنثى حتى نشأت نظريات نفسية مضطربة في تعامل الرجل مع المرأة من الطفولة حتى الكِبر.

إن العودة إلى الحياة المدنية في العهود الأولى وأولها عهد النبي صلى الله عليه وسلم يُعطي إرشادات لحالة المجتمع وتعامله مع نصوص التحذير من العلاقة غير الأخلاقية في ذات الوقت الذي تستمر مساحات التواصل والشراكة قائمة في المجتمع بمزاج إنساني معتدل للضمير المسلم.

إن تحوّل الفقه الديني لبعض المدارس إلى قلب القاعدة من أن الأصل في الشيء هو الإباحة إلى أن يكون الأصل هو الحرمة عقّد الحياة الاجتماعية وصادم المساحة التي كفلها الإسلام للحياة المدنية فيما يحبه أو يكرهه لكن لم يجعل عليه سبيلا لقهره، ولذلك فإن من الضروري لمنهج أهل السنة المعاصر إعادة تأسيس هذا الوعي وتوازن الفضيلة مع الحريات الشخصية للحياة المدنية المعاصرة وتخصيص الضبط القانوني بمساحته دون أن يطغى على المجتمع ويحوّله إلى ساحة محاكمة ومطاردة لم يأمر الله بها.

بل إن هذا الغلو وسّع دائرة الغلو الآخر والهروب من سياق الفضيلة المعتدل، كردة فعل على محاكمة ومطاردة سلوك النّاس وحياتهم المدنية وطبائع أقوامهم وبلدانهم، إنها ثلاثة مسارات للعودة إلى هذا المنهج ليفقه الناس رسالة الإسلام الرشيد لحرية الإنسان والأوطان خاصة في هذا الزمن الذي اختلطت فيه عواصف الخريف وحديث الأباطيل بدماء شهداء الربيع.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.