ضجة الاحتفال.. هل تنقذ "الفرعون" الجديد؟

تحديات كثيرة تنتظر السيسي

الشرعية المقلوبة
ترتيبات لتمرير الانقلاب
عناصر التأزيم
الاعتماد على السيسي

ما زالت محاولات تثبيت أقدام الانقلاب في مصر تترى، مدعومة بسطوة الدولة وأجهزتها في الداخل والعون الإقليمي والدولي في الخارج، وأهم ما تنم عنه هذه المحاولات هو أن المعركة ما زالت محتدمة وعلى أشدها بين دولة العسكر وأعوانها وبين أنصار الدولة المدنية المسلحة بأبجديات الاستقلال الوطني والعدالة الاجتماعية والحرية مصبوغةً بصبغة إسلامية ظاهرة.

الشرعية المقلوبة
بعد الفشل الواضح في توظيف الانتخابات الأخيرة لتلميع وجه النظام، وإكسابه شرعية ما ترفع الحرج عن المؤيدين الدوليين، وتنسخ الشرعية الأولى التي صنعها الاختيار الشعبي الحر لممثليه ودستوره، بل بعد تحول هذه الانتخابات إلى "فضيحة دولية مدوية"، استدار النظام إلى احتفالات الفوز "المزعوم" لرئيس الانقلاب، وعمد إلى تحويلها إلى "زفة" شعبية محلية ودولية يملؤها الضجيج والصخب الإعلامي، حتى يتحقق هدف اكتساب الشرعية التي ما زال النظام محروما منها.

ولا يخفى أن تزامن الاحتفالات الشعبية منذ البداية مع كم رسائل التهنئة الكبير الذي جادت به قرائح الحكومات العربية والغربية بهذه المناسبة، زاد من تلبيد المشهد حتى اشتبهت الرؤية على الناظرين، وبدا الزعيم القادم بقوة الدبابة -من خلال الإخراج السينمائي للمشهد الاحتفالي- على أنه "مستقبل مصر" الطالع وشمسها الشارقة، وأن الإجماع عليه -إلا من "طائفة مارقة"- قد جاوز حدود الوطن إلى دنيا العرب، بل إلى العالم الواسع.

ليس المقصود بالضجيج المصاحب للاحتفال تشويه الوعي عند طوائف الجماهير المصرية فقط، بل المستهدَف قبلها هو معنويات المناوئين للانقلاب، وإشعارهم بأنه لا فائدة من التظاهر والاحتجاج أو أي لون من ألوان المقاومة

وليس المقصود بهذا الضجيج المصاحب للاحتفال تشويه الوعي عند طوائف الجماهير المصرية فقط، بل المستهدَف قبلها هو معنويات المناوئين للانقلاب، وإشعارهم بأنه لا فائدة من التظاهر والاحتجاج أو أي لون من ألوان المقاومة بعد أن بارك العالم في "قداس سياسي" كبير زعيم مصر وفرعونها الجديد، ومنحه شرعية من نوع خاص.

ولو تحقق هدف الانقلاب وأعوانه من هذه الإجراءات -وهو ما أستبعده لأسباب تأتي في خلال هذه السطور- فسنعود إلى القوانين المقلوبة لمنح الشرعية، فبدلا من أن تنبع شرعية الحاكم من الجماهير الحرة الزاحفة والمتراصة أمام صناديق الانتخاب، سنصبح أمام شرعية مجلوبة من الخارج بظهير دولي وإقليمي يصر على بقاء الانقلاب، مهما عاكس هذا مبادئَ الديمقراطية، ومهما انتُهكت على يده حقوق الإنسان.

وحين ننظر في القوانين المقلوبة التي تمنح الانقلابات شرعية مصطنعة وقادمة من الخارج، فسنجد حقيقة مؤسفة، وهي أن تطبيقها في التاريخ المعاصر هو القاعدة والأصل في التعاطي الدولي مع الانقلابات منذ عقود طويلة، فما من انقلاب عسكري أو مدني سكنت المقاومة الداخلية له، واطمأن الخارج إلى استقراره، إلا وجد أطرافا خارجية تنتهز فرصة حاجته إلى تثبيت أقدامه مقابل مكاسب تجارية أو سياسية أو تلاقٍ ما في المصالح، حتى تزول غربة الانقلاب تماما.

ترتيبات لتمرير الانقلاب
وبالعودة إلى الاحتفال و"التنصيب" في الحدث المصري الحالي، سنجد سعارا في المساعي الداخلية والخارجية لاكتساب هذه الشرعية بكل طريقة، فالانقلاب ينظر وراءه فيجد أن اسمه الذي وُلد به في رأي طائفة كبيرة من أبناء الشعب المصري يبلغ تعدادها الملايين هو: "انقلاب"، ويصيبه القلق من أن يظل اسمه هذا يطارده على أنه ليس أكثر من لقيط سياسي.

وتأتي احتفالات الفوز في هذا السياق، باعتبارها الفرصة الأخيرة الكبيرة لانتزاع نوع من الشرعية، فكيف تم ترتيب المشهد ليؤدي إلى هذه النتيجة التي يسعون إليها بكل قوتهم؟

نعرف ما للمناصب السياسية من هيبة في نفوس الجماهير، فإذا كنت تتحدث عن أعلى منصب في الدولة، وكنت تتحدث عن جماهير مصر التي عرفت الدولة المركزية منذ دهور طويلة، فالهيبة تكون أكبر، والإجلال أعظم، خاصة إن كان "الدجالون" قد ملؤوا آذان الجماهير بحكمة الجالس على الكرسي وشجاعته وتفرده دون العالمين.

وقد ظهر خلال الانتخابات المصرية المتتابعة عقب ثورة 25 يناير، أن اختيار الرئيس كان من بينها الأكثر إبهارا للشعب المصري واستحواذا على اهتمامه. وقد يرجع شيء من هذا إلى الموقع القانوني الخطير لمنصب الرئيس وفقا للدستور المصري، ولكنه أيضًا يعتمد على نفسية الجماهير التي ترى للمنصب المتفرد هيبة كبيرة.

ومن هنا، فإن مظاهر الاهتمام العربي والدولي التي نراها تصاحب الاحتفال بالفوز وإجراءات التنصيب، لا شك تسعى إلى الاستفادة من هذه النقطة في صناعة شرعية للانقلاب وتحويله بجراحة سياسية دولية وعربية من "شرذمة سطت على الحكم" إلى "نظام حاكم" شرعي ومقبول دوليا، ولا بد للداخل أن يخضع لهذا المنطق الغالب.

مظاهر الاهتمام العربي والدولي التي تصاحب الاحتفالات تسعى إلى الاستفادة منها في صناعة شرعية للانقلاب وتحويله بجراحة سياسية من "شرذمة سطت على الحكم" إلى "نظام حاكم" شرعي ومقبول دوليا

إلا أن الأمر ليس بهذا اليسر كما قد يُظَن، إذ داخل المواقف المؤيدة من الخارج تفاصيل حرجة للأطراف الدولية والعربية، بل حرجة للانقلاب نفسه، وتدور كلها حول استمرار انتفاضة المصريين، وفقدان الاستقرار الداخلي، وبالتالي احتدام الأزمة الاقتصادية أكثر، وهو أمر يشاهده العالم، وتراه الشعوب بالصوت والصورة، خاصة من خلال النافذة السحرية للحقيقة: "الجزيرة" بأصواتها العربية والإنجليزية المكتوبة والمسموعة والمرئية.

وحتى لو توقعنا أن يبدأ رئيس الانقلاب عهده بالتصعيد دمويا ضد الجماهير المعارضة للانقلاب، فإن عناصر التأزيم تبقى قائمة بالنسبة له هو نفسه وبالنسبة للأطراف الدولية والعربية المساندة له، لأن الشعب الثائر في مصر يشعر أنه قدم كثيرا من التضحيات، ونجح طوال عام كامل في عرقلة عملية التمرير الدولي والإقليمي للانقلاب برغم الدموية الشديدة التي وُوجه بها، ونتيجة لهذا، فمن الصعب أن يتراجع الثوار عن أهدافهم بعد كل هذا، مهما تكن الهمجية المتوقعة من الانقلاب في أيامه القادمة، والتي ربما تدفع الثوار إلى تطوير إستراتيجية الإسقاط أكثر مما تضطرهم إلى التراجع عن أهدافهم المشروعة في كل الأعراف والقوانين العاقلة.

عناصر التأزيم
من الواضح أن الأنظمة العربية المساندة للانقلاب لا تهتم برأي شعوبها في إجراءاتها الداعمة لآلة القتل الانقلابية في مصر، وكأن هذه الأنظمة تعمل في أرض فضاء، أو تحكم دولا بلا شعوب.

وهذه المواقف لا يمكن أن تصدر عن أصحابها إلا إن اعتقدوا أنهم يمتلكون آلات قمع كافية لإسكات المعارضين، أو كانوا واثقين من نجاح الانقلاب المصري، ويومها لن يكون لأحد في طول العالم العربي وعرضه وجه للاعتراض على حاكمه مهما فعل، بعد أن آل أمر أكبر الأقطار العربية إلى فشل المطالبين بالحرية في انتزاعها من أنياب العسكر القوية.

وأما الأميركيون والأوربيون، فأحسب أن عنصر التأزيم الأساسي في مواقفهم هي الجماهير أيضا، فإن الحكومات الغربية تعمل حساب الناخب الغربي الذي قد يتردد في تأييد حزب ما بسبب موقف زاعق وقفه؛ كالموقف المتواطئ مع الانقلاب في مصر.

لكن يبدو أن واشنطن والعواصم الأوروبية اعتمدت على أن تأثير السياسة الخارجية في الناخبين الغربيين لا يكون ضخما في العادة، إلا إذا وجد سندا من أخطاء فادحة تُرتَكَب في السياسة الداخلية، أو سندا إعلاميا مضادا وقويا، أو حتى حين يكون الإعلام الموالي ضعيفا وهزيلا، والدليل هو أن كارثة غزو بوش الابن لأفغانستان والعراق في فترة حكمه الأولى لم تمنع مجيئه من جديد إلى سدة الحكم في واشنطن عام 2004.

غير أننا يمكن أن نلاحظ أن الموقفين الأميركي والأوروبي هذه المرة قد آثرا الاختباء خلف المنظمات الدولية والقارية في "أفراح" القاهرة، والوقوف في منطقة وسط بين الاعتراف المحرج والتبري الحاسم من الانقلاب، انتظارا لحسم أحد الفريقين "المعركة الكبيرة" في صالحه.

الاعتماد على السيسي
لكن، هل هذا الذي يبحثون له عن شرعية يمكن الاعتماد عليه في إعادة مصر إلى "الحظيرة"؟

أظن أننا لا نحتاج إلى أدلة كثيرة لنفهم طبيعة المواقف التي يقع عليها اختيار الرجل، فمواقفه تقوم على الحيلة والمداهنة إن كان تابعا، وعلى العنف إن كان متمكنًا، وكلتا الحالين لا تنبئان عن سياسي يمكن أن ينجح في الظروف الطبيعية في قيادة دولة محورية -في إقليمها الجغرافي على الأقل- مثل مصر، فما بالنا والأزمات تحيط بالدولة من كل جهة، والجماهير الثائرة الرافضة لمجرد بقاء السيسي على قيد الحياة ليست أقل من ملايين.

وإن حلا لأحد أن يقارن السيسي بمبارك، وأن الأخير بدأ عهده بلا خبرة سياسية، ثم أدار الدولة حوالي ثلاثة عقود، فلا بد من أن نلاحظ في المقارنة الأشياء المهمة التالية:

مواقف السيسي لا تكشف عن سياسي يمكن أن ينجح في الظروف الطبيعية في قيادة دولة محورية مثل مصر، فما بالنا والأزمات تحيط بالدولة من كل جهة، والجماهير الثائرة الرافضة لمجرد بقاء السيسي على قيد الحياة ليست أقل من ملايين

– مارس مبارك العمل السياسي سنوات إلى جانب السادات نائبا له، مما أكسبه ولو المبادئ الأولى المطلوبة لإدارة دولة. وأما السيسي فقد خرج من الجيش إلى الحكم مباشرة بلا خبرة حتى في المبادئ المذكورة، وقد جرّ هذا على مصر كوارث لم تعهدها خلال العام المنصرم.

– حين قدم مبارك إلى كرسي الحكم لم يكن له أي رصيد سيئ عند الشعب المصري، فهو من القيادات الوسطى لحرب أكتوبر، ولم يشتهر عنه قبل الرئاسة الاشتراك في أعمال فساد شخصية. وأما السيسي، فهو المسؤول عند أنصاره وخصومه عن قلب نظام الحكم السابق، وعن فض الاعتصامات ومواجهة المتظاهرين بأسلحة الموت.

– كانت مشكلات مصر السياسية والاقتصادية بعد اغتيال السادات أهون بكثير مما تعانيه الآن، فقد أنهكت أحداث الكر والفر منذ يناير/كانون الثاني 2011 بين الثورة الشعبية والثورة المضادة أركان الدولة، وأجهضت اقتصادها، ووتّرت الموقف السياسي فيها إلى أقصى درجة، مما يعني أن شخصية مثل السيسي يصعب جدا أن تنجح في قيادة الدولة إلى بر الأمان.

– أما الحديث عن أن مبارك لم يكن يدير الدولة إلا من خلال فريق مصغر مكوَّن من سياسيين مخضرمين (صفوت الشريف وزكريا عزمي وفتحي سرور خاصة)، وأن السيسي يمكن أن يفعل هذا. فهو أمر تحقق لمبارك تراكميا مع الزمن، فقد تحكم في الدولة وهو مستريح من خلال هذا الفريق بعد أن مضى عليه في الحكم حوالي عقد ونصف من الزمان، وهو ما ليس متاحا للسيسي، لأن الأزمات المستحكمة لا تمهل صاحبها، فإما أن يصرعها أو تصرعه، كما أنه لم يبق من دولة مبارك من فيه رمق يمكن الاعتماد عليه في انتشال دولة يحكمها السيسي حالها كما سبق وصفه.

– أضف إلى ذلك أن فريق مبارك السياسي الذي اعتمد عليه في إدارة الدولة وهو وادع مستريح في منتجعات شرم الشيخ، هو نفسه الذي ورط الدولة في سياسات أدت إلى الاحتقان الكبير في صفوف المواطنين، بعد تصاعد الأزمات السياسية والاقتصادية والتضييق على الحريات إلى مستوى لا يحتمل.

ومهما يكن، فإن ضجة الاحتفال بمقدم زعيم الانقلاب إلى سدة الحكم، قد تؤثر شيئا ما، لكنها لن تؤثر في الغالب بحيث تغير في عناصر المعادلة كثيرا، والجزء الجماهيري الذي يحرصون على إقناعه بأن الانتخابات شرعية وأن "الفرعون الجديد" شرعي، هو نفسه الشراذم الجماهيرية التي دعت السيسي من قبل إلى القفز إلى سدة الحكم بلا انتخابات أصلا!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.