الحلقة الأخيرة في الصراع مع الثورة المضادة بليبيا
تُولد الثورة المضادة مع ميلاد ثورة التغيير والرغبة في الانتقال من العسف والظلم إلى التداول السلمي وإرجاع الحقوق للشعب، حدث ذلك بمصر عندما تولى المجلس العسكري مقاليد السلطة بعد إزاحة مبارك، ولم يتركها إلا على مضض ولمدة عام تقريبا حتى عاد من جديد في ديكور ديمقراطي.
فالانتخابات الرئاسية الأخيرة بين المشير السيسي والناصري حمدين صباحي كانت تنافسا بين عقلين عسكريين، أو كانت بالأحرى استفتاء للشعب المصري، هل ما قام به السيسي في الثالث من يوليو/تموز كان انقلابا عسكريا دمويا أم تصحيحا لمسار ثورة يناير الديمقراطي؟ وأظن أن إجابة المصريين كانت أنه انقلاب من خلال مقاطعة الانتخابات وإصرار المؤسسة العسكرية وآلاتها الإعلامية على تصوير الأمر على غير ما حدث.
جارتنا تونس حاولت الثورة المضادة وما زالت تحاول إجهاض مسارها وحلمها نحو الديمقراطية، ولا يغرنكم أن الجيش التونسي حافظ على حياده في صراع الثورة التونسية مع الثورة المضادة، القصة ببساطة أن المعارضة فشلت في تهييج الشارع وإنزاله رغم الهوس الإعلامي الذي مارسه إعلام بن علي وساندته أياد خليجية لا ترى الثورة أو التغيير ضرورتين عربيتين.
اللافت للانتباه في الآونة الأخيرة دخول مؤسسة القضاء الليبي على خط دعم الانقلاب عبر بيان أصدره رئيس المجلس الأعلى للقضاء يدعو فيه لتشكيل لجنة حوار لا تضم المؤتمر الوطني |
باليمن سارعت "بعض دول الخليج" إلى كسر رحى الثورة وإيقافها عن الدوران، في مبادرات انتهت إلى أن يكون فلول الأمس ومعارضو التغيير باليمن شركاء اليوم تحت مظلة ثورة سليمة بامتياز رغم إمكان عسكرتها بسهولة، كما ضغطت المشاكل المصطنعة والتي تم تغذيتها خارجيا على الثورة بشكل أفقدها زخمها، فالقاعدة من جهة والحوثيون من جهة أخرى ومحاولة "فدرلة" بلد بسبب الصراع الجنوبي الشمالي لا يملك أي مقوم اقتصادي يسهم في إنجاح تحول سياسي لا خبرة لقادة اليمن بكيفية إدارته.
أيضا ومرة أخرى تدخلت "بعض دول الخليج" لمنع ثورة البحرين تحت شعار الطائفية، وكأن شيعة البحرين لا يحق لهم أن يشاركوا في الحياة السياسية التي تسيطر عليها عائلة منذ أن خرجت البحرين من رحم الجغرافيا إلى عالم السياسة، وتم تصوير المحتجين على أنهم عملاء إيران، وفي حالة كهذه ستُسحق محاولة التغيير، وتدخلت قوات خليجية تدافع عن حكم دكتاتوري.
ليبيا ليست بأحسن حال من جارتها القريبة مصر أو البعيدة اليمن والبحرين، فلبعض دول الخليج دور في دعم الانقلابات الكرتونية التي قام بها اللواء المتقاعد خليفة حفتر في فبراير/شباط الماضي بطرابلس، أو ما أسماها حفتر بعملية الكرامة والتي انطلقت في بنغازي منتصف مايو/أيار الجاري.
لم تخف بعض صحف الخليج احتفاءها بمحاولة الانقلاب الأخيرة واعتبرتها أنها المخلص لليبيا من بؤر الإرهاب والجماعات المتشددة، كما أشارت تقارير إعلامية إلى إصابة محمد بن زايد بحالة إحباط جراء فشل حفتر في نسختي الانقلاب بطرابلس وبنغازي.
اللافت للانتباه في الآونة الأخيرة دخول مؤسسة القضاء الليبي على خط دعم الانقلاب عبر بيان أصدره رئيس المجلس الأعلى للقضاء بليبيا المستشار علي حفيظة يدعو فيه إلى تشكيل لجنة حوار وطني مشكلة من رئيس المجلس الانتقالي السابق مصطفى عبد الجليل، ورئيس هيئة الستين لكتابة الدستور علي الترهوني والذي رفض دعوة المجلس الأعلى للقضاء، ورئيس هيئة رابطة العلماء عمر مولود عبد الحميد، وهي هيئة كرتونية مدعومة من التيار الصوفي والسلفي بليبيا كجبهة معارضة لدار الإفتاء التي تتماهى مواقفها مع ثورة فبراير، ورئيس هيئة تقصي الحقائق والمصالحة، وهي هيئة يغلب على طابعها العمل الاجتماعي لا السياسي، ورئيس لجنة التشريعات والقوانين غيث الفاخري، ورئيس لجنة الحكماء والشورى، ورئيس لجنة فبراير الكوني عبودة.
يُلاحظ أولا أن بيان المجلس الأعلى للقضاء الداعي إلى الحوار بين الفرقاء السياسيين لا يعترف بطريقة غير مباشرة بالمؤتمر الوطني كممثل شرعي منتخب، باستبعاده من لجنة الحوار، وهو في هذا الإنكار للمؤتمر الوطني يتفق بطريقة مباشرة مع كل الدعاوى الانقلابية بدءا من حركة لا للتمديد وحتى محاولة حفتر العسكرية، إذ كل الأطراف الانقلابية تتفق في هدف أسمى لها وهو إسقاط المؤتمر الوطني العام الذي جاء وليد أول تجربة ديمقراطية حقيقية في ليبيا، كما أُسقط محمد مرسي أول رئيس مصري مدني منتخب.
كما يُلاحظ أن المجلس الأعلى للقضاء يستخدم مؤسسات الدولة في الترويج للانقلاب على الشرعية، إذ إنه في نهاية البيان كلف "وزارة العدل بتوفير كافة الإمكانيات اللازمة لتمكين اللجنة من أداء مهامها".
والمعروف أن لا علاقة تبعية أو إدارية بين المجلس ووزارة العدل مما يوحي بأن ثمة اتفاقا مسبقا بين علي حفيظة -رئيس المجلس الأعلى للقضاء- ووزير العدل صلاح المرغني لإكمال صورة المشهد الانقلابي.
أيضا من المهم ملاحظة أن بيان المجلس الأعلى للقضاء يحاول محو كل الحواجز النفسية بين استقلالية القضاء والتدخل في العمل السياسي، خاصة وأن رئيس المحكمة العليا كمال بشير دهان سبق وأن رفض دعوات مماثلة لتولي السلطة التشريعية في ليبيا قدمتها عدة حركات مناهضة لشرعية استمرار المؤتمر الوطني.
جاء رفض هيئة الستين لكتابة الدستور لدعوة المجلس الأعلى للقضاء متسقا مع الإعلان الدستوري الذي فصل بين السلطات الثلاث التشريعية، والقضائية، والتنفيذية، ومتسقا أيضا مع قوانين القضاء الليبي التي تحرم على الهيئات القضائية التدخل في الشأن السياسي أو الانحياز لأحد أطرافه.
تحاول الثورة المضادة بليبيا تسخير موارد ومؤسسات الدولة الليبية الهشة في صالحها، فاللواء المتقاعد حفتر استخدم مطارا عسكريا تابعا للدولة وطائرات حربية أيضا ملكا للدولة في ضرب مواقع ببنغازي يتهمها بأنها معاقل للمتشددين والإرهابيين.
تحاول الثورة المضادة بليبيا تسخير موارد ومؤسسات الدولة الليبية الهشة في صالحها، فاللواء حفتر استخدم مطارا عسكريا تابعا للدولة وطائرات حربية أيضا ملكا للدولة في ضرب مواقع ببنغازي |
إلا أن المثير للدهشة هو جرأة المستشار علي حفيظة -رئيس المجلس الأعلى للقضاء- على توقيع بيان كهذا والظهور الإعلامي العلني، وهو المقدمة ضده شكوى للنائب العام تتهمه بارتكاب جرائم إبان ثورة فبراير، وهو الأمر الذي قد يعرضه لرفع الحصانة عنه وتقديمه للمحاكمة الجنائية، إلا أن المستشار حفيظة يبدو أنه رآها فرصة سانحة للالتحاق بركب الثورة المضادة كطوق نجاة له حال نجاحها.
تحاول أذرع الثورة المضادة بليبيا الداخلية والخارجية قطع الطريق على الانتقال السلمي السلس للسلطة ودعم المؤسسات الديمقراطية بليبيا، فرغم الإعلان عن تنظيم انتخابات برلمانية نهاية يونيو/حزيران وانتقال سلطة التشريع من المؤتمر الوطني إلى مجلس النواب القادم، إلا أن الثورة المضادة رفضت الاعتراف بذلك، وهي أيضا أعلنت عن تنظيم انتخابات برلمانية يشرف عليها مجلس رئاسي يرشحه المجلس الأعلى للقضاء في استنساخ قبيح لتجربة السيسي الانقلابية.
بقي التنويه إلى أن الصراع الحالي بين حكومة أحمد معيتيق المنتخبة وحكومة الثني التي هي امتداد لفساد حكومة زيدان ليس صراعا دستوريا قانونيا حول مسألة شرعية تنصيب الأولى من عدمه، بل هو صراع بين مؤسسة فساد كاملة تمثلها جهات ومدن ومليشيات وبعض الوزراء ورجال الأعمال للمحافظة على عقود الفساد التي تحصلوا عليها إبان حكومة الهارب علي زيدان، خاصة بعد أن رفض مصرف ليبيا المركزي صرف وتنفيذ هذه العقود بعد أوامر صدرت من رئاسة المؤتمر للمركزي الليبي بإيقاف توقيعات وزراء حكومة الثني.
فمثلا أشارت مصادر من داخل الحكومة إلى أن أحد قادة مليشيات الزنتان يضغط على أحمد معيتيق لتنفيذ عقد توريد مع وزارة الدفاع بقيمة 350 مليون دينار ليبي تحصل عليه من رئيس الوزراء الهارب علي زيدان، ورفض معيتيق منطق المساومات لدعمه.
أعتقد أن هذا هو الفصل الأخير في الصراع بين الثورة المضادة المدعومة من أطراف سياسية ليبية كمحمود جبريل وعبد الرحمن شلقم، وخارجيا من بعض دول الخليج بالإضافة إلى مصر والولايات المتحدة الأميركية، وبين ثورة فبراير ممثلة بكل الليبيين الحالمين بالتغيير نحو الأفضل.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.