أبعد من تجنيد المسيحيين

المسيحيون يشكلون أقل من 1% من الفلسطينيين في الأراضي المحتلة عام 1967

تهجير وتطفيش
لماذا التجنيد؟
الرفض القاطع
المشروع الوطني

من المعروف أن دولة الاحتلال "الإسرائيلي" كانت ومازالت تبذل جهودا استثنائية للوصول إلى تطبيق التجنيد الإلزامي العام على أبناء الشعب العربي الفلسطيني من المُنتمين لمُختلف الطوائف المسيحية داخل حدود العام 1948.

فقد قررت هيئة الطاقة البشرية في "الجيش الإسرائيلي" قبل فترة قصيرة إرسال أوامر تجنيد لأعداد من الشبان العرب الفلسطينيين من أبناء الطوائف المسيحية داخل حدود العام 1948 تحت مُسمى "التطوع للجيش"، وهذه المرة الأولى التي يتم فيها إرسال أوامر تجنيد لمجموعات من الشبان من المواطنين الفلسطينيين من المسيحيين. فهل ستنجح "إسرائيل" في خطوتها هذه، أم أن الفشل سيكون نصيبها؟

تهجير و"تطفيش"
نبدأ القول بأن سياسات الاحتلال استهدفت المجموع العام للفلسطينيين منذ قيام الدولة العبرية على أنقاض الكيان الوطني للشعب الفلسطيني، فلم يَسلَم من سياساتها لا المسلم ولا المسيحي، بل وأدت سياساتها المعروفة نتائجها المباشرة بتهجير العدد الأكبر من مسيحيي فلسطين باتجاه دياسبورا المنافي والشتات، وحدوث تراجع مُضطرد في أعداد المسيحيين الفلسطينيين.

أصبحت نسبة المسيحيين اليوم في عموم أرض فلسطين التاريخية (أي في المناطق المحتلة عام 1948 + المناطق المحتلة عام 1967 بما فيها القدس) نحو (5%) فقط، بعد أن كانوا يُشكلون أكثر من (17%) من السكان

كما لوحظ هبوط حضورهم في المدينة المقدسة التي باتت سلطات الاحتلال تريدها مدينة بلا مؤمنين من أبنائها من المواطنين الفلسطينيين المسلمين والمسيحيين على حد سواء، لتصبح نسبتهم اليوم في عموم أرض فلسطين التاريخية (أي في المناطق المحتلة عام 1948 + المناطق المحتلة عام 1967 بما فيها القدس) نحو (5%) فقط من السكان بعد أن كانوا يُشكلون أكثر من (17%) من سكان أرض فلسطين التاريخية قبل قيام الكيان الصهيوني.

لقد بدأت دعوات حملة التجنيد إياها، مع تأسيس ما يسمى "منتدى تجنيد المسيحيين للخدمة العسكرية الإسرائيلية"، وذلك في أغسطس/آب 2012، حيث عقد المنتدى اجتماعا سريا في مدينة "عتيليت" جنوب حيفا في السادس عشر من أكتوبر/تشرين الأول 2012، تحت رعاية رئيس بلديتها، شمعون جابسو، وهو من أعضاء حزب الليكود، ومن أقطاب اليمين "الإسرائيلي"، وحضره حوالي تسعون شخصا، أبرزهم كاهن من الكنيسة الأرثوذكسية جبرائيل نداف، المنادي والمؤيد لتجنيد الشبان الفلسطينيين من الطوائف المسيحية بجيش الاحتلال، ومن هنا بدأت تتدحرج القضية، التي انطلق الوطنيون المسيحيون ومعهم سائر الأحزاب والقوى العربية يهاجمونها وأصحابها.

لماذا التجنيد؟
لقد وصلت الجهود "الإسرائيلية" نحو نقطة انعطاف كبرى حين بدأت منذ مارس/آذار 2014 باستدعاء مجموعات من الشبان العرب الفلسطينيين من الطوائف المسيحية للخدمة بـ "الجيش الإسرائيلي" وهو ما استتبع ردود فعل داخل عموم أبناء الطائفة لجهة رفض الخدمة، ورفض المساهمة بتزويد جيش الاحتلال بالطاقة البشرية. كما في رفض المساهمة بحصار وقتلِ أبناء شعبهم في الضفة الغربية والقدس وقطاع غزة.

إن الدولة العبرية الصهيونية تسعى من خلال تطبيق "التجنيد الإلزامي" على المواطنين الفلسطينيين من أبناء الطوائف المسيحية داخل حدود العام 1948 لتحقيق عدة أغراض دفعة واحدة، أولها، شرذمة صفوف فلسطينيي الداخل الفلسطينيين على أساس طائفي ودق الأسافين بين أبناء الشعب الواحد، وتحقيق المزيد من التشرذم والتفتيت للمجتمع الفلسطيني داخل الدولة العبرية، تطبيقا لمبدأ "فرق تسد"، والمساهمة في فسخ وحدة المجتمع العربي وفتح أبواب الفتنة الداخلية بين عموم فلسطينيي الداخل.

ثانيا، الفرض التدريجي للتجنيد في "الجيش الإسرائيلي" وتطبيقه وجعله أمرا عاديا في حياة المواطنين الفلسطينيين داخل "إسرائيل" وتعميمه في المراحل التالية حال نجاحه على جميع الفلسطينيين داخل الدولة العبرية بما في ذلك كافة المسلمين، فالمسألة هنا أبعد من تجنيد المواطنين الفلسطينيين من أبناء الطوائف المسيحية وحدهم.

رغم كل المساعي "الإسرائيلية" لدفع المسيحيين نحو قبول التجنيد، فإن المناخ العام عند مسيحيي الداخل من أبناء الشعب الفلسطيني قاطع في رفضه للمسعى "الإسرائيلي"

وثالثها، إحداث شرخ داخل الطوائف المسيحية ذاتها، خصوصا عندما تتصاعد بعض الأصوات التي تتكلم بطريقة نافرة، ومنها ما صرح به لشبكة فوكس نيوز الأميركية جبرائيل نداف الكاهن الذي يروج لحملة تجنيد المسيحيين العرب قائلا "أؤمن بالمصير المشترك للجماعة المسيحية والدولة اليهودية".

رابعها، إعادة إحياء مشاريع "الأسرلة" التي فشلت طوال عقود النكبة، وذلك من أجل توليد ما أسمته المصادر الإسرائيلية المختلفة بـ "وعي قومي واحد، إسرائيلي صهيوني". فالخدمة في الجيش من الوجهة "الإسرائيلية" وسيلة فعّالة لتنمية "أسرلة" المواطنين العرب في الداخل، بحيث يصبح العرب عامة والعرب المسيحيون خاصة يرون هويتهم من خلال انتمائهم لـ "إسرائيل"، وليس لمجتمعهم العربي الفلسطيني.

الرفض القاطع
لكن، وبالرغم من كل المساعي "الإسرائيلية" فإن المناخ العام عند مسيحيي الداخل من أبناء الشعب الفلسطيني قاطع في رفضه للمسعى "الإسرائيلي".

فالمسيحيون الفلسطينيون يعتبرون أنفسهم جزءا أصيلا من الشعب الفلسطيني، ويعتبرون الخدمة في "الجيش الإسرائيلي" من المحظورات وعارا ما بعده عار. وقد أدانوا سلوك الكاهن جبرائيل نداف من الناصرة المتواطئ مع بعض الجهات الرسمية صاحبة القرار في الدولة العبرية. بل وأعلن الأب عيسى مصلح الناطق باسم الكنيسة الأرثوذكسية في فلسطين يوم الثامن من مايو/أيار 2014 الجاري أن "المجمع المقدس والمحكمة الكنسية الأرثوذكسية جردا الكاهن جبرائيل نداف من صلاحياته الكنسية والرعوية".

وعليه، فقد أعلن مسيحيو فلسطين داخل مناطق العام 1948 رفضهم القاطع لخدمة أبناء الطائفة في الجيش الذي يحتل الأرض الفلسطينية ويضطهد الشعب الفلسطيني، وذلك بلسان لجنة المبادرة المسيحية الفلسطينية كايروس فلسطين، التي اعتبرت أن موقف البعض القليل من المنادين بالتجنيد "استفزازي ويسيء للكنائس المسيحية ولكافة المسيحيين وللقضية الوطنية".

ولذلك دعتهم "للعودة إلى رشدهم وأن يتوبوا عن هذا الخطأ الجسيم الذي يسيء لجميع المسيحيين"، وأن هؤلاء المنادين بتجنيد المسيحيين "لا يمثلون المسيحيين من أبناء الشعب الفلسطيني، ولا يُمثّلون الكنائس المسيحية ولا يتحدثون باسم المسيحيين".

غالبية قادة الحركة الوطنية الفلسطينية في الداخل المحتل عام 1948 وفي السنوات الأولى من عمر النكبة كانوا من المسيحيين الفلسطينيين، الذين قادوا معارك البقاء والتحدي داخل كيان الدولة العبرية الصهيونية

وذهب النائب العربي المسيحي باسل غطاس أبعد من ذلك حين اعتبر أن أوامر التجنيد "تُشكّلُ تحديا لكل الجماهير العربية وكل الشعب الفلسطيني"، ودعا لـ "حرق أوامر التجنيد علنا" في طقوس تُعبّر عن حالة الرفض الشعبي ضد تجنيد المواطنين الفلسطينيين من الطوائف المسيحية، مشيرا إلى ضرورة قيام الحركة الوطنية الفلسطينية في الداخل بـ "العمل بوتيرة واستنفار عاليين لرفض وإفشال المشروع، واستخدام وسائل غير عادية من إضراب شامل ومفتوح، كمقدمة لعصيان مدني مُحتمل".

المشروع الوطني
هنا، لابد من الإشارة إلى الدور الريادي للمسيحيين الفلسطينيين في المشروع الوطني الفلسطيني، حيث يتكامل الدور الوطني للمسيحيين الفلسطينيين مع إخوانهم المسلمين، فبرز من بين صفوفهم قادة تركوا بصماتهم في مسار الكفاح الفلسطيني والثورة الفلسطينية المعاصرة، يتقدمهم الدكتور جورج حبش مؤسس الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وأحد أركان الحركة الوطنية الفلسطينية المعاصرة الذي حمل لقب (ضمير فلسطين وحكيم الثورة)، ومنهم من لقي ربه كالفقيد إدوار سعيد، والشهيد الدكتور وديع حداد مسؤول فرع العمليات الخارجية في الجبهة الشعبية ونائب رئيس المجلس الوطني الفلسطيني في السنوات الأولى لتأسيس منظمة التحرير الفلسطينية.

ولا ننسى أيضا، أن غالبية قادة الحركة الوطنية الفلسطينية في الداخل المحتل عام 1948 وفي السنوات الأولى من عمر النكبة كانوا من المسيحيين الفلسطينيين، الذين قادوا معارك البقاء والتحدي داخل كيان الدولة العبرية الصهيونية، وساهموا بشكل كبير في تصعيد الكفاح الفلسطيني والثبات فوق الأرض.

ونذكر من بينهم الحيفاوي توفيق طوبي، والأديب أميل حبيبي، والمؤرخ أميل توما، والقس شحادة شحادة رئيس لجنة الدفاع عن الأراضي، ومحامي الأرض حنا نقارة، والكاتب والشاعر حنا إبراهيم، والمفكر إلياس شوفاني (انتمى لحركة فتح)، وقادة (حركة الأرض) التي قامت في الجليل في ستينيات القرن الماضي وواجهت بطش الاحتلال وسياساته وكان منهم : منصور كردوش، وبولس فرح، وحبيب قهوجي (عضو اللجنة التنفيذية في منظمة التحرير سابقا)، وصبري جريس (مدير مركز الأبحاث الأسبق في المنظمة)، وبولس فرح.. وهكذا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.