سلطة "النعجة دوللي"

قوات الأمن داخل احدى اللجان بمحافظة المنيا جنوب مصر

رئيس تخلى طريقه من السيارات تماما، ومع ذلك يظل خائفا من قطع الطريق، ويذهب إلى حلف اليمين مستقلا طائرة عسكرية، ثم يقيم لنفسه حفل تنصيب (توقفت إقامته منذ العهد الملكي) يُدعى إليه رعاته الأجانب ليجلسوه على "العرش"، لكنهم يخذلونه ويحضرون بتمثيل منخفض، كأنهم يقولون: تلك مكانتك عندنا، فقف عندها.

هذا هو "عبد الفتاح السيسي" كما تبدى مجردا من الزي العسكري ومغلفا بالذعر، مجرد شخص ينسب نفسه إلى سلطة، لم تفلح أكداس الأسلحة وأمتار البيارق الملونة، ولا بريق الأضواء والشاشات في أن تمنحها أية شرعية. سلطة تزداد "غموضا" وتزداد مواجهتها "وضوحا" بينما هي تمارس "الاستهلاك السريع" لمكوناتها، وهي مكونات تصعب استعاضتها جدا.

بتنصيب "السيسي" تنتهي مراحل "الخداع الإستراتيجي" الذي مارسه العسكر ضد الثورة المصرية، منذ اكتشفوا عجزهم عن المواجهة المباشرة معها، في أربعاء الجمل 2 فبراير/شباط 2011، فقرروا أن يستدرجوها إلى جدل طويل من المفاوضات والتنازلات، التي بدت متبادلة، مع أن الأمر كان واضحا منذ البداية، فصيغة: فاوضوا على الثورة مقابل قطعة من السلطة، تعني تنازلوا عن الثورة مطلقا، أولا لأن الثورة لا تفاوض، وإن فاوضت تموت، وأخيرا لأن السلطة لا تقتسم بين نقيضين.

بتنصيب "السيسي" تنتهي مراحل "الخداع الإستراتيجي" الذي مارسه العسكر ضد الثورة المصرية، منذ اكتشفوا عجزهم عن المواجهة المباشرة معها، في أربعاء الجمل، فقرروا استدراجها إلى جدل طويل من المفوضات

تنتهي مراحل الخداع الإستراتيجي -ولا تنتهي أدواته- فقائد الانقلاب في قصر الرئاسة (مكذبا ادعاءه أنه لا يريد الحكم، ومؤكدا ما قلناه منذ البداية من أن أحدا لا يقوم بانقلاب إلا لكي يحكم هو) وحوله رموز حكم العسكر وأدواته، في مشهد غاب عنه حتى من شارك في الانقلاب لتمريره، بعد أن انتهى دوره، والقاعدة أن قمة السلطة الضيقة تلفظ كل من لا يملك أدوات البقاء.

تنصيب "السيسي" يظهر حقيقة الصراع واضحة، ويكتشف المواطن المصري أنه ليس مطالبا بالاختيار بين "الإخوان" و"الجيش" كما "خدعوه فقالوا". ذلك أن "محمد مرسي" لم يصعد للرئاسة باعتباره ممثل جماعة الإخوان، بل ممثل جماعة الناخبين التي اختارته رئيسا للبلاد، ولو لم تفعل لما صعد، حتى لو كان مرشد الإخوان. كما أن "السيسي" ليس ممثل "الجيش" والمؤكد أنه لم يخض معركة واحدة في حياته، لكنه ممثل "حكم العسكر" أو قائد الانقلاب الذي قام به العسكر ليعيدوا إحكام قبضتهم على سلطة أوشكوا أن يفقدوها.

كما يكتشف هذا المواطن أن الثورة لم تهيمن -أبدا- على السلطة في مصر، وبالتالي فالصراع ليس على سلطة "ضائعة" الواقع أنها لم تكن موجودة لتضيع فالسلطة كانت وما زالت في يد "العسكر" والمناخ السياسي هو في خلاصته "بيئة العسكر" وكل ما جرى أن الشعب واجه هذه السلطة مع انطلاقة الثورة في يناير/كانون الثاني 2011، وكل ما نجح فيه هو "زعزعتها"، وكل ما رآه كان "مقدمات نصر" أضاعه "رماة أحد" لينقلب الأمر إلى هزيمة -لا شك فيها- لـ"الثورة" في مواجهة "السلطة" التي كمنت داخل مؤسسات "الدولة"، بالضبط كما كمن جيش مكة وراء غنائمه، حتى إذا نزل الرماة/الثوار لجمع الغنائم/المؤسسات فوجئوا بالكمين، وأخذوا على غرة.

والواقع أن "الهزيمة" في حد ذاتها تظل واردة دائما، ولعلها كانت الاحتمال الأقرب في مواجهة الثورة للسلطة في مصر، لكن النقد الذي يوجه دائما -وبحق- لمن أداروا معركة الثورة هو أنهم خذلوها بتخليهم عن أدواتها، وركونهم إلى الدولة/السلطة.

وهنا دعونا نتذكر ما عرف بـ"وثيقة المبادئ فوق الدستورية" أو "وثيقة السلمي" -نسبة للدكتور علي السلمي الذي قيل إنه أعدها- هذه الوثيقة التي حاولت مصادرة الثورة، دفعة واحدة ومن دون انقلاب، لكن الشعب أسقطها باحتجاجات دامية، ليفاجأ بكثير من بنودها وقد أطلت برأسها من دستور 2012، الذي كنت -وما زلت- أعتقد أنه أكثر تكريسا لسلطة العسكر من دستور 1971، وإن كنت أراه المرجعية الدستورية الوحيدة، احتراما للأغلبية التي صوتت لصالحه في استفتاء حر.
تنصيب السيسي "يقشر" سلطته الانقلابية من آخر طلاء كانت تستتر به، فهو -باعتباره مندوب العسكر- يمثل وحده 97% ومن ظنوا أنهم شركاؤه -كلهم- لا يساوون أكثر من 3%.

وفي البرلمان سيهيمن منفردا على 85% يعين 5% و80% عليهم الخضوع له وإلا فمن المستحيل أن ينجحوا على المقاعد الفردية في دوائر شاسعة، ويدخل شريكا مع الأحزاب -أو بقاياها- في الـ15% الباقية. وباستثناء هذا لا جديد، قائد الانقلاب يحكم البلاد، فما الجديد في الأمر؟

ماذا حين يتأكد الشعب كله أنه عاد لاستكمال "شيخوخة مبارك" من حيث توقف بالضبط، فالجنيه يواصل التدهور، والحريات تزداد حصارا. وفي التفاصيل تزداد كل السلبيات: كالبطالة والغلاء وانهيار المرافق والخدمات

ما الجديد؟ سؤال لعله يؤرق "السيسي ومن حوله أكثر مما يؤرق غيرهم. ها قد أصبح "السيسي" رئيسا فماذا في جعبته؟

الإجابة لدى المؤيدين أسوأ من "سلبية" فهي "مبهمة" ما يعني أن الرجل الذي صنعوا منه "فقاعة زعيم" ليس أكثر من "شبح" باهت، وأن أزمته تتجاوز افتقاره إلى "البلاغة" وافتقاده "الرؤية" إلى أنه -في الواقع- ليس أكثر من "نقطة" توضع في ختام "سطر" الرئيس الأسبق "مبارك" الذي يمثل السيسي -في إطار "حكم العسكر" وبيئته- مجرد استنساخ منه، وفي الاستنساخ تكون النسخة مجرد تكرار، لا يمكنه التميز عن الأصل لا في الملامح ولا في السلوك، ومن حيث العمر تكون مجرد استكمال لعمر الأصل، ودعونا نتذكر ما جرى للنعجة "دوللي".

في 14 فبراير/شباط 2003، أعلن معهد "روزلين" الإسكتلندي للأبحاث وفاة "النعجة دوللي"، وأنه اضطر إلى إعدامها بأسلوب "القتل الرحيم" بعد إصابتها بمرض صدري لا يرجى شفاؤه، استكمل منظومة أمراض الشيخوخة التي أصابتها، لتموت وعمرها ست سنوات ونصف السنة تقريبا، بأمراض تصيب النعاج -عادة- في سن العاشرة.

وفي تفسير شيخوخة "دوللي" المبكرة قال الباحثون إن خلايا النعجة، المستنسخة، كانت تواصل عمر الخلية الأصلية التي استنسخت منها، أي إن عمر "دوللي" لم يبدأ من الصفر، والشيخوخة التي أصابتها لم تكن مبكرة، بل جاءت في وقتها، وذلك بإضافة عمر الخلية الأصلية إلى عمر "دوللي".

القاعدة نفسها تنطبق على "السيسي" الذي لا يملك -مبدئيا- إلا أن يكون "مبارك" بالضبط كما أن "دوللي" لم تملك إلا أن تكون "نعجة" مطابقة لأصلها. ولا يملك "السيسي" عمرا مستقلا، فهو مجرد استكمال لعمر نظام "مبارك" لا من حيث إنه سيستكمل دورته فحسب، لكن -وهو الأكثر أهمية- من حيث إن "السيسي" وُلِّدَ محملا بديون "مبارك" ومكبلا باستحقاقات عداواته وصداقاته، واستحقاقات إخفاقاته.

يقول "ابن خلدون" إن حياة الدولة تشبه حياة الإنسان، وإنها تمر بأطوار الطفولة، والشباب والكهولة، والشيخوخة. ويؤكد أن الهرم إذا نزل بالدولة لا يرتفع، وقد يأتي البعض من الأبناء أو حاشية الملك فيسعى لتلافي السقوط، ظنا منه أنه يعالج الداء، لكن هيهات فإن الهرم لا علاج له أبدا.

هذا "الهرم" يعني -ببساطة- أن الدولة -وبعد أن تعيش مدة طويلة- لا يبقى لديها ما تجتذب به الأعوان، فالمناصب وزعت، والأموال احتكرت. "اللقمة ضاقت" كما يقول التعبير العامي المصري، وفي ضيقها تعجز -أولا- عن تقديم ما يجذب أعوانا جددا، ثم تعجز عن تغطية الخدم والأتباع، ثم تقصر عن حاجة الأبناء أنفسهم.

المواجهة بين الثورة وحكم العسكرمستمرة ومفتوحة، وما جرى مجرد "تفاصيل" على طريق هذه المواجهة. أما النتيجة النهائية فمحكومة -بعد مشيئة الله- بما يبذله أطرافها من جهد، وما يبدونه من حنكة

ولا شك في أن "مبارك" وسلطة "السيسي" نسخة من سلطته، كان قد عجز عن تغطية أتباعه وخدمه، ما دفعه للتخلص من كثير منهم، كما رأينا في برلمان 2010، وأكثر هؤلاء هم من عادوا للتحلق حول "السيسي" ممنين النفس بأنهم سيكونون جزءا من سلطته، فماذا حين يقال لهم "اللقمة ضاقت"؟

بل ماذا حين يتأكد الشعب كله أنه عاد لاستكمال "شيخوخة مبارك" من حيث توقف بالضبط، فالجنيه يواصل التدهور، والحريات تزداد حصارا. وفي التفاصيل تزداد كل السلبيات: كالبطالة والغلاء وانهيار المرافق والخدمات، ويزداد اليأس من تحقيق أي تقدم إيجابي في ظل "الإصلاح"؟

حين ييأس الناس من "الإصلاح" لا يكون أمامهم إلا "الثورة" (لاحظ أن الثورة والإصلاح ليسا بديلين لكنهما نقيضان) لكن الإجابة على هذا النحو تبدو "متعجلة" بقدر ما تبدو "نظرية" إذ قد يؤدي اليأس من الإصلاح إلى اليأس من المحاولة برمتها والركون إلى الاستسلام، ونهاية حياة "نسخة" من "حكم العسكر" لا يفضي -بالضرورة- إلى الديمقراطية، لكنه قد يعني بداية حياة نسخة أخرى أشد سوءا، وهو ما رأيناه يتكرر كثيرا خلال القرنين الماضيين.

والخلاصة أن المواجهة بين الثورة وحكم العسكر مستمرة ومفتوحة، وكل ما جرى مجرد "تفاصيل" على طريق هذه المواجهة. أما النتيجة النهائية فمحكومة -بعد مشيئة الله- بما يبذله أطرافها من جهد، وما يبدونه من حنكة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.