خيبة الأمل في أوروبا

متظاهرون ضد قدوم زعيم الجبهة الوطنية الفرنسية، مارين لوبان، إلى بروكسل وضد صعود اليمين المتطرف في أوروبا


هيمن على انتخابات البرلمان الأوروبي الأخيرة شعور بخيبة الأمل واليأس. وقد كَلَّف 43% فقط من الناخبين الأوروبيين أنفسهم عناء الإدلاء بأصواتهم، وكثيرون منهم هجروا أحزاب المؤسسة للانضمام غالبا إلى أحزاب متطرفة مناهضة لأوروبا.

والواقع أن النتائج الرسمية لا تعبر بشكل كامل عن مدى الاستياء الشعبي، فالعديد ممن ظلوا على تأييدهم للأحزاب التقليدية فعلوا ذلك على مضض.

وهناك أسباب كثيرة لهذا الزلزال السياسي، ولكن الأسباب الأكبر هي التعاسة الدائمة المتمثلة في انخفاض مستويات المعيشة، ومعدلات البطالة المرتفعة للغاية، وتضاؤل الأمل في المستقبل.

والواقع أن أزمة أوروبا الهادرة هدمت الثقة في كفاءة ودوافع صناع السياسات، الذين فشلوا في منعها، وفشلوا في حلها حتى الآن، وأنقذوا البنوك ودائنيها في حين ألحقوا الأذى بالناخبين (ولكن ليس بأنفسهم).

هناك أسباب كثيرة للزلزال السياسي في أوروبا، ولكن الأسباب الأكبر هي التعاسة الدائمة المتمثلة في انخفاض مستويات المعيشة، ومعدلات البطالة المرتفعة للغاية، وتضاؤل الأمل في المستقبل

وقد دامت الأزمة لفترة طويلة حتى أن أغلب الأحزاب الحاكمة (والتكنوقراط) أثبتت افتقارها إلى الكفاءة. وفي منطقة اليورو، اضطرت الحكومات المتعاقبة من مختلف الانتماءات إلى تنفيذ السياسات المعيبة وغير العادلة التي طالبت بها حكومة ألمانيا وفرضتها المفوضية الأوروبية. ورغم أن المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل تعتبر هذه الطفرة في دعم المتطرفين "أمرا مؤسفا"، فإن إدارتها -ومؤسسات الاتحاد الأوروبي بشكل أكثر عموما- مسؤولة إلى حد كبير عنها.

ولنبدأ باليونان. لقد هددت ميركل، ومعها المفوضية الأوروبية والبنك المركزي الأوروبي، بحرمان اليونانيين من استخدام اليورو ما لم تقبل حكومتهم شروطا عقابية. وقد أرغِم اليونانيون على قبول تدابير التقشف الوحشية من أجل الاستمرار في خدمة أعباء الديون التي لا تطاق، وبالتالي الحد من خسائر البنوك الفرنسية والألمانية وخسائر دافعي الضرائب في منطقة اليورو الذين أنقذت قروضهم لليونان تلك البنوك.

ونتيجة لهذا، عانت اليونان من حالة من الركود أسوأ من تلك التي واجهتها ألمانيا في ثلاثينيات القرن العشرين. هل من المستغرب حقا إذن أن ينخفض التأييد الشعبي للأحزاب الحاكمة التي امتثلت لهذه الإملاءات من 69% في انتخابات البرلمان الأوروبي عام 2009 إلى 31% في عام 2014، وأن يتصدر تحالف أقصى اليسار -الذي يطالب بعدالة الديون- التصويت، وأن يحتل حزب الفجر الذهبي النازي الجديد المرتبة الثالثة؟

في إيرلندا والبرتغال وإسبانيا، كان الإقراض الرديء من قِبَل البنوك الألمانية والفرنسية في سنوات الفقاعة موجها في المقام الأول للبنوك المحلية وليس الحكومة. ولكن هنا أيضا، ابتز محور برلين بروكسل فرانكفورت دافعي الضرائب المحليين لإرغامهم على تحمل أخطاء بنوك أجنبية، فتكبد الإيرلنديون 64 مليار يورو (87 مليار دولار أميركي)، أي ما يقرب من 14 ألف يورو لكل شخص، عن ديون البنوك المعدومة، في حين فرضت عليهم تدابير التقشف القاسية.

وكان انهيار دعم أحزاب المؤسسة المذعنة مستحقا من 81% عام 2009 إلى 49% في 2014 في إسبانيا. ومن حسن الحظ أن ذكريات الدكتاتورية الفاشية ربما حَصَّنَت إسبانيا والبرتغال ضد فيروس اليمين المتطرف، في حين استفادت أحزاب اليسار المناهضة للتقشف. وفي إيرلندا تصدر أنصار الاستقلال التصويت.

كما أسهم الاعتقاد الخاطئ بأن دافعي الضرائب في شمال أوروبا يتكبدون تكاليف إنقاذ دافعي الضرائب الجنوبيين في التعجيل بردة فعل عنيفة في فنلندا، حيث فازت أحزاب أقصى اليمين بنحو 13% من الأصوات، وأيضا في ألمانيا، حيث فاز حزب البديل من أجل ألمانيا الجديد بنحو 7% من الأصوات.

وبناء على طلب ميركل وبتواطؤ البنك المركزي الأوروبي، الذي انتظر حتى يوليو/تموز 2012 لتهدئة الذعر في سوق السندات الذي اندلعت شرارته بسبب أخطاء ارتكبها صناع السياسات في منطقة اليورو، فرضت المفوضية أيضا تدابير التقشف على مستوى منطقة اليورو بالكامل، الأمر الذي أسفر عن خسائر متراكمة لما يقرب من 10% من الناتج المحلي الإجمالي في الفترة 2011-2013، وفقا لنموذج المفوضية الاقتصادي ذاته.

وبإغراق إيطاليا في ركود عميق (لم تتعاف منه بعد)، أغرقت تدابير التقشف تحالف رئيس الوزراء المؤقت ماريو مونتي العريض القاعدة، وعززت حركة النجوم الخمس المناهضة للمؤسسة واليورو بقيادة بيبي جريلو، والتي احتلت المرتبة الثانية في انتخابات البرلمان الأوروبي.

كما طالبت ميركل فرض قيود مالية خانقة وغير ديمقراطية على الاتحاد الأوروبي، والتي تفرضها المفوضية كما ينبغي. لذا فعندما يطرد الناخبون حكومة ما، يسارع مسؤول التنفيذ المالي أولي رِن إلى إعلان إصراره على التزام الإدارة الجديدة بسياسات الإدارة السابقة الفاشلة، فينفر هذا الناخبين من الاتحاد الأوروبي ويدفعهم نحو التطرف.

ولنتأمل هنا حالة فرنسا. بعد أن أصبح فرانسوا هولاند رئيسا للبلاد في عام 2012 على تعهد بإنهاء التقشف، فاز حزبه الاشتراكي بأغلبية كبيرة في الانتخابات البرلمانية. ولكن برلين عمدت إلى ترهيبه وحمله على فرض المزيد من تدابير التقشف. والآن -ومع فقدان يمين الوسط ويسار الوسط للمصداقية- حصل التياران معا على 35% فقط من الأصوات الشعبية تصدرت جبهة ماري لوبان الوطنية العنصرية التصويت على وعد بالتغيير الجذري.

وإلى جانب الأزمة الاقتصادية المزمنة، تواجه أوروبا الآن أزمة سياسية حادة، ورغم هذا فإن مؤسسة الاتحاد الأوروبي تبدو عازمة على متابعة العمل كالمعتاد. ففي البرلمان، من المرجح أن تنجح أقلية عالية الصوت رغم تفتتها من المنتقدين والمهووسين والمتعصبين في دفع جماعات يمين الوسط ويسار الوسط، التي لا تزال تتمتع مجتمعة بالأغلبية، إلى التكتل على نحو أوثق.

والواقع أن انخفاض معدلات الإقبال على التصويت وضعف أحزاب التيار الرئيسي يعطي المجلس الأوروبي -الزعماء الوطنيين للبلدان الأعضاء في الاتحاد الأوروبي- الذريعة للاستمرار في عقد الصفقات في الغرف المغلقة.

لعل الرجل الذي قد يغير مجرى الأمور في أوروبا هو رئيس وزراء إيطاليا النشط الذي يبلغ من العمر 39 عاما ماتيو رينزي، وقد شغل منصبه في فبراير/شباط، وكان فوزه مدويا

وسوف يكون البند الأول على القائمة اختيار الرئيس القادم للمفوضية الأوروبية. ويزعم الرئيس المنتهية ولايته خوسيه مانويل باروسو أن "القوى السياسية التي تولت قيادة ودعم استجابة الاتحاد المشتركة للأزمة فازت في العموم مرة أخرى". وتريد ميركل التمسك بالسياسات الحالية التي فشلت في تحقيق النمو وخلق فرص العمل.

ولعل الرجل الذي قد يغير مجرى الأمور هو رئيس وزراء إيطاليا النشط الذي يبلغ من العمر 39 عاما ماتيو رينزي. شغل رينزي منصبه في فبراير/شباط، وكان فوزه مدويا، حيث حصل على 41% من الأصوات، وهذا ضعف عدد الأصوات التي حصل عليها أقرب منافس، وبعد أن أعلن بالفعل التزامه بإصلاح رأسمالية المحسوبية في بلاده، فقد حصل الآن على التفويض اللازم لتحدي استجابة ميركل للأزمة.

والواقع أن التوقيت مثالي: فسوف تتولى إيطاليا الرئاسة الدورية للاتحاد الأوروبي في يوليو/تموز. وقد دعا رينزي بالفعل إلى دفعة للاستثمارات من قِبَل الاتحاد الأوروبي بقيمة 150 مليار يورو فضلا عن المزيد من المرونة المالية.

وبدلا من بقاء منطقة اليورو حبيسة مصالح ألمانيا الضيقة باعتبارها دائنا، فإن أوروبا تحتاج إلى اتحاد نقدي يعمل من أجل كل مواطنيه. ولا بد من إعادة هيكلة البنوك المصابة بالغيبوبة، وشطب الديون المفرطة (الخاصة والعامة)، وزيادة الاستثمار مع تنفيذ الإصلاحات الرامية إلى تعزيز الإنتاجية (وبالتالي الأجور).

ولا بد من إلغاء القيود المالية، مع السماح للحكومات التي تفرط في الاقتراض بالتخلف عن السداد. وفي نهاية المطاف، فإن منطقة اليورو الأكثر عدلا وحرية وثراء التي سوف تنشأ عن ذلك تصب في مصلحة ألمانيا أيضا.

يحتاج الأوروبيون أيضا إلى الاضطلاع بدور أكبر في توجيه الاتحاد الأوروبي والحق في تغيير المسار، فهم يحتاجون ربيعا أوروبيا من التجديد الاقتصادي والسياسي.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.