مصر والتأسيس لربيع العرب الثاني

مصر والتأسيس لربيع العرب الثاني - خالد الطراولي

مكامن فشل الربيع
الربيع الثاني المنتظر
دور الإسلام السياسي

هل تكون أرض الكنانة موطن التجديد والتأسيس، هل تكون موطن الحماية والدفاع والمتراس الأخير؟ هل يبني اليوم أهل مصر ملحمة الإنقاذ والبناء السليم؟

ثورة 25 يناير كانت ضربة لازب وتأكيد الروحة الثورية التي انطلقت مدوية في تونس وفي أكناف تونس، ولولا مصر لما كتب لمسار الربيع العربي أن يثبت وأن يتقدم ويتركز شرقا وغربا.

الربيع العربي يبقى مدينا لأهل مصر، الربيع العربي لم ينطلق من بلاد الفسطاط ولكن مصر وطنت له وركزت أسسه وفتحت الآمال أمامه ورفعت سقف الأحلام عند كل الشعوب العربية وسطرت له عنوانا بارزا في التاريخ.

ساهم الإخوان في خراب بيتهم ووقعوا في أخطاء نرجعها ولا شك إلى عدم الكفاءة والمراهقة السياسية وقراءة واقع التحديات قراءة سليمة، ولكن لدى البعض أيضا قلة وعي ولخبطة ومزيج من الانتهازية والتوظيف

وتتواصل الأيام.. انطلقت الثورة المصرية، دفع الشعب ثمنا باهظا بدمائه وجراحاته، لم يجد العسكر ولا الداخل والخارج إلا القبول بانتفاضة شعب نال الويلات طيلة أكثر من نصف قرن، ووصلت في مصر أول انتخابات ديمقراطية منذ نشأتها، رئاسيات وتشريعية ودستور، حكم مدني، مجلس مدني، رئيس مدني، ثم وقع المحظور!

مكامن فشل الربيع
لن نقف كثيرا في هذه الورقة على تفسير الأسباب، ولكن لن نقف موقف المتفرج ونستظل التفسير التآمري، لنجعل كل المصيبة على الغير، ولن تبني الجديد إذا لم تستوعب اللحظة وما جاورها.

ساهم الإخوان في خراب بيتهم ووقعوا في أخطاء نرجعها ولا شك إلى عدم الكفاءة والمراهقة السياسية وقراءة واقع التحديات قراءة سليمة وإستراتيجية، ولكن لن نخفي أيضا عين الشمس بالغربال، فهناك قلة وعي ولخبطة ومزيج عند البعض بين الانتهازية والتوظيف.. أخطاء جسيمة ساهمت ولاشك في زعزعة كل البناء وفتح الباب على مصراعيه لمن يركن في الخفاء ويضع معول الهدم في انتظار لحظة الهدم والتحطيم.

التقت على التجربة المصرية أربع واجهات، منظومة الحكم البائد، العسكر وما أدراك ما الجيش المصري مصالح وامتيازات وثروات، المعسكر الأيديولوجي الليبرالي منه واليساري، ثم وهو الأعجب، وفي ظني الأكثر إيلاما وأثرا هو النسيج السلفي وخاصة حزب النور.

سوف يكتب التاريخ بكل أناة وغرابة مدى قوة الحملة الإعلامية التشهيرية والدعائية ضد الشرعية، التقى الدولار بالجنيه تحت وسادة بقايا الحكم البائد، فالتقى الفن والهزل، والخبر والشائعة، والخبير المتحامل والرديء المستكبر والرياضي والسياسي والفنان وغيرهم كثير في صعيد واحد لضرب الأمل وتنغيص الحلم، وبلغ التشويه سقفه المأمول بأن اعتقد الكثير من شعب مصر بهول المصيبة وظلمة الحاضر والمستقبل وأن الخيبة والفشل هما العنوان وأن الطريق إلى الجنة قد انتهى إلى الجمر.

كان للعسكر نظرة الإستراتيجي الواعي بقانون اللعبة، لغة المصالح في قمتها، خسارة بسقوط العهد البائد وعدم ارتياح بالموجود، راقب وحرك قطعك في وسط الإطار، ظاهرا حماية للملك وفي الخفاء ضربا له وتوسيع طرق الوصول إليه، ثم أعلن المفاجأة كش مات!!

أما عن معسكر المعارضة ورغم شتات إطاره الأيديولوجي فإن التقاء اليسار واليمين، الليبرالي بالماركسي أو القومي في وحدة غريبة عجيبة نسيت الخلافات الجوهرية وعصبت أعينها عنها من أجل الإطاحة بخصم سياسي يناقضها مرجعيا ولو كان ذلك تحت حذاء العسكر، وضربا لمبادئ وأطروحات أوجعوا رؤوسنا من ذكرها.

ولعل التاريخ سيكتب لاحقا سواء في التجربة التونسية أو المصرية أن نهاية اليسار أو الليبرالية قد خطت خطواتها الأولى وسقطاتها الحاسمة إبان الربيع العربي، ولعل من إفرازات هذا الربيع هذه التعرية والفضح الذي ما كان أن يقع بمثل هذا الوضوح والبيان لولا هذه الثورات!

المصريون اليوم يحملون بوصلة الاتجاه الحقيقي وعنوان الصمود، والتحدي شعاره، إما أن تكون الثورة قوسين، يغلق بابها انقلاب ظاهر أو ناعم، أو هو الربيع العربي الحقيقي الدائم والمنتظر

ولعلنا لن ننسى حزب النور وما قام به من سحب البساط من تجربة الإخوان، ولو راجعنا قليلا المشهد لوجدنا أن الكثير من أحوال التردد وحتى الفشل الذي صاحب هذه التجربة كان نتيجة السقوف العالية والمناورات غير المقبولة لهذا الحزب.

وسيكتب التاريخ كذلك أن التجربة التونسية والمصرية في الحكم قد طعنها وساهم في "فشلها" بوعي أو قلة وعي أناس يحتمون بنفس المرجعية ولكنهم أخطأوا القراءة نتيجة تدين منقوص ووعي مغشوش.

إن ترشح المشير السيسي لرئاسة مصر يمثل الخطأ الكبير والسقطة الصارمة التي ضربت كل الإستراتيجية الناجحة للعسكر، لقد غلب حب الكرسي على الإستراتيجية كليا وأطاح بها وضربها في مقتل حيث زعزع كل البناء العقلي والنقلي، كل الوجدان والعاطفة والوعي .. واكتملت مسرحية الانقلاب.. يريدون أن يقنعونا أن الديمقراطية يمكن أن تأتي على ظهر دبابة وأن الصندوق يمكن أن تحفظه ثكنة عسكرية!!

 
هذه هي المحطة الأخيرة لمسلسل إنهاء عهد الثورات والعودة إلى الوراء واسترجاع كل مفاتيح المنظومة السابقة واعتبار الربيع العربي قوسين أُغلقا في مسار تاريخي قديم يتواصل.
 
هذه رؤوس أقلام قصة الربيع العربي المسحول في مصر، ولكن القصة لم تنته، بل لعل القصة الحقيقية لهذا الربيع قد بدأت ولعل التأسيس الحقيقي لها قد بدأ.

الربيع الثاني المنتظر
أزعم أن الموجة الأولى من الربيع العربي كانت أقرب إلى الخريف وقد لفتها كما ذكرنا سالفا التقاء أخطاء ذاتية وموضوعية فانهار البناء، في هذه الأيام العصيبة قتلت صحفية في مصر، اليوم تتواصل المظاهرات السلمية وقوافل الجرحى والمعتقلين، هي أيام حاسمة، الربيع العربي الحقيقي يكتب ملحمته السلمية في بلاد الكنانة، إما مشوار ثوري سلمي حقيقي يتواصل، أو انتكاسة وعودة إلى الوراء.

المصريون اليوم يحملون بوصلة الاتجاه الحقيقي وعنوان الصمود، والتحدي شعاره، إما أن تكون الثورة قوسين، يغلق بابها انقلاب ظاهر أو انقلاب ناعم، أو هو الربيع العربي الحقيقي الدائم والمنتظر.

إن هذه الأمواج العاتية ليس لها من حل إلا الصمود والمقاومة السلمية وتوجيه المشهد النضالي على مستويات ثلاثة، وحدة الصف ووحدة الهدف وتلازم فكرة الفضح والتعرية لانقلاب اليوم والتحضير لبناء لدولة الغد.

إن الثورة الثانية يجب أن تكون مؤسساتية وغير عفوية تحمل عناوينها رموز تصنعها بنفسها وتبجلها وتحتفي بها وتعود إلى أحضانها.

إن نهاية الفرز الأيديولوجي هي إحدى إيجابيات الثورة الأولى حيث عرت وفضحت وميزت قوى الرفض عن قوى القبول والردة، فالتقت ضفتان متقابلتان لا يجمع مكوناتهما غير البعد الثوري من عدمه، وسقط الفصل الأيديولوجي، فتجد كل العائلات الفكرية في الضفتين من إسلامي وليبرالي وقومي ويساري، وقسمت بلوى الثورة بين من يرفع شعارها ويتبنى مضامينها وبين ثورة مضادة تسحب الشرعية وتبني على الفرعنة.

دور الإسلام السياسي
إن الإسلام السياسي وما يمثله عنصر الإخوان خاصة يعتبر ولا شك رأس الحربة، وهذه الريادة ليست تشريفا في مثل هذا المقام ولكن هي تكليف وخدمة وطنية بامتياز تتطلب مراجعة نظرية تحوم حول إعادة تأسيس المفهوم ذاته وطرح الأسئلة المصيرية، من نحن وماذا نريد وعلى أي أرض نقف؟؟

إن الثورة الثانية يجب أن تكون مؤسساتية وغير عفوية تحمل عناوينها رموز تصنعها بنفسها وتبجلها وتحتفي بها وتعود إلى أحضانها

وعلى ضوء مضامين الإجابة يتشكل كل الحراك الآني والبَعدي، سواء في معارضة اليوم أو سلطة الغد.

وإذا أراد الإسلام السياسي أن يكون رقما في معادلة السلطة مجددا، يجب أن يجتمع حراكه وتتألف مضامينه حول أساسيات أربعة:

– الجوهر الأخلاقي: بما يعنيه خاصة من نظافة يد وحزم وحسم في مستوى علوية القانون وجعل السياسة موطن خدمة وتفانٍ وليس وجهة كراسي وامتيازات. ولا تعيش كذلك عرسا -ولو كان مسيارا- مع المنظومة القديمة، ولكنه حذر ومحاسبة وقضاء مستقل.

– البعد الثوري: بما يعنيه في جعل الثورة مسارا وليست عملية منتهية بفراغ ساحات التحرير وضمور الهتافات، ولكن ديمومة فعل ونظر، شعارها الفقير أولا، المظلوم أولا، المسكين أولا، الضعيف أولا، العاطل أولا، المعذب في الأرض أولا!

– البعد الوطني: بما يعنيه من التفاف أولي حول الوطن وعدم الانبتات عنه، فليس بعد الأمة نقيض للوطن ولا في مواجهته، ولكن الوطن مكون أساسي للأمة في امتدادها الزماني والمكاني، تصلح وتبدع حين يصلح المكون ويتميز.

– البرنامج والمخطط العملي: لقد بينت فترة الحكم الأولى سوء الأداء وضعفه، وكانت المراهقة السياسية واضحة في مستوى أخذ القرار وتنزيله، فعهد الشعارات المعسولة والجذابة قد ولى وانحسر، ونداء البطن يفوق أحيانا نداء الحرية، وكرامة المرء تبنى في جزئها الأكبر من توفر الدقيق في مخبزة الحي.

إن وجود البرنامج والمخطط النابع من وجود الكفاءة قبل الموالاة على قاعدة القوي الأمين هو مربط الفرس في كل إضافة نوعية يمثلها مشروع واقعي ومدروس وكفء.

ربيع العرب الثاني يجب أن يتواصل سلميا رقراقا وألا يجر إلى صراع الرصاص، وهي مسؤولية كبيرة ومفصلية يحملها خاصة الإسلام السياسي ممثلا في الإخوان

إن الربيع العربي الثاني والمنشود يجب أن يتواصل سلميا رقراقا وألا يجر إلى صراع الرصاص، وهي مسؤولية كبيرة ومفصلية يحملها خاصة الإسلام السياسي ممثلا في الإخوان. فغاندية هذا الربيع هي البوصلة والإخوان يحملون نظرا وفعلا مميزا في هذا الجانب.

كما أن ديمقراطية المشروع المنشود من وراء هذا الحراك الربيعي هي الرافعة لنجاحه في تسويقه داخليا، وخارجيا خاصة حتى ينال اطمئنان المتحرج أو المتوجس أو الماكث على الربوة في الانتظار.

إن الربيع العربي الحقيقي والمنتظر تُنسج خيوطه حاليا في أزقة مصر وساحاتها وجامعاتها، وتُبنى آفاقه على لقاء الساعد والفكر، لقاء النخبة الواعية بالجماهير، بعناوين ويافطات تحوم حول الحوار والمُنجَز المشترك، بعيدا عن الإقصاء والتهميش.

لم يكن هذا الربيع في نسخته الأولى سواء تجربة مع المجهول، كانت لحظة انطلاقة، لحظة استرجاع للذات في كرامتها ودورها المسؤول في الحياة.

تغيرت اللحظة ولم يتغير مضمونها، ولكن تغيرت التجربة وأصبحت مكسبا نحو الآفاق نحو ثورة ثانية، نحو تأسيس لربيع جديد لعله يثبت للعالم أن الإنسان مهما شرّقت أو غرّبت سفينته يسعى سعيا أبديا وفطريا للانعتاق، ولأن يكون تحت الشمس، شمس الحرية والكرامة وحقوق الإنسان.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.