في شرعية الإجراءات الانقلابية
تكتسب تصرفاتنا الإدارية الاقتصادية وجودها وشرعيتها والاعتراف بها من موافقتها للقانون والعرف والأخلاق.
وينطبق هذا على أقل التصرفات شأنا من قبيل اختيارنا للوقت الذي نرسل فيه تهانئنا إلى معارفنا، فلا يُعقل مثلا أن نبعث بتهنئة عيد ميلاد لصديق في ذكرى يوم ميلاد جده ونتعلل بأن جده هو السبب في وجود أبيه، ومن ثم في وجوده هو، إذ يصبح الأمر عندئذ مدعاة للسخرية لا التعجب فحسب.
ليس من حق أي إنسان كائنا من كان، وليس من حق كيان كائنا ما كان أن يفرض سلطته في إجراء انتخابات مبكرة أو مبتكرة، أو مؤخرة أو متأخرة، وإنما يناط الأمر بسلطة محددة |
من هذا المثل البسيط نستطيع أن نفهم الفارق الجوهري بين المشروعية والشرعية وارتباطهما ببعض، فليس من حق أي إنسان كائنا من كان، وليس من حق كيان كائنا ما كان أن يفرض سلطته في إجراء انتخابات مبكرة أو مبتكرة، أو مؤخرة أو متأخرة، وإنما يناط الأمر حتى في إنفاذ الانتخابات في موعدها القانوني المقرر بسلطة محددة تتولى الدعوة إلى الانتخابات وربط مواعيدها ومقارها.
ويحدد القانون السلطة المنوط بها إجراء هذه الخطوات بحيث لا يصبح الأمر مشاعا، وتحرص الديمقراطيات المحترمة على هذا التحديد حرصا شديدا في كل ما يتعلق بالنشاط الإنساني، حتى أن القانون المصري يجعل المسؤولية عن انتخابات النقابات في عنق وزراء محددين بمناصبهم.
فوزير الأشغال مثلا هو المسؤول عن انتخابات المهندسين على سبيل الحصر، ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن يتصدى وزير الإسكان لهذه المسؤولية تحت أية دعوى منطقية من قبيل أن عدد المهندسين النقابيين العاملين في وزارته يفوق العدد الذي في وزارة الأشغال، فذلك أمر لا علاقة له بالقانون إلا أن يتغير نص القانون لينقل هذه المسؤولية إليه حتى وإن لم يكن عدد مرؤوسيه من النقابيين أكبر من عدد نظرائهم في وزارة الأشغال.
ينطبق هذا بالطبع على الانتخابات الرئاسية التي تمضي خطواتها الشكلية في مصر على نحو كوميدي يسر العدو ويؤذي أبناء الوطن في مشاعرهم، حين يكتشفون أن كتب التاريخ ستكتب أن قائد جيشهم راودته فكرة الترقي من وزير إلى رئيس جمهورية، ولأنه يعلم افتقاده إلى الصفات المؤهلة لترشحه في الانتخابات القادمة بعد سنوات ثلاث، فقد قرر أن يستولي على المنصب بالقوة وأن يستغل الجنود الخاضعين لأوامره في تقييد حرية الرئيس الشرعي وحركته، وأن يتظاهر بأنه لا يرغب في سلطة، وأن يمضي بعض الوقت وهو يدير الأمور من وراء ستار حتي يقتنع الناس أو يتعودوا على غياب الرئيس والشرعية وعلى وجوده هو في موقع الأمر والنهي، ومن ثم تكتسب شرعيته قيمتها ومشروعيتها من مشروعية الاضطرار إلى الأمر الواقع المقيت.
وهو أمر واقع ضعيف يفرض نفسه بمعونة الدبابة وسطوتها، ولا يمانع أن يكون هذا الفرض عن طريق القتل والسحل والحرق والحبس والاضطهاد والتآمر والاغتصاب والانتهاك دون ضابط من قانون أو خلق أو دين أو تقاليد أو أعراف أو تاريخ.
ومن العجيب أن هذا الانقلاب العسكري الذي تعيشه مصر اليوم لم يكن أول انقلاب دستوري تمتحن به البلاد، وإنما سبقته علي سبيل المثال ثلاثة انقلابات دستورية في عهد الملك فؤاد حدثت على التوالي أعوام ١٩٢٥ و١٩٢٨ و١٩٣٠ ونحي فيها الدستور جانبا، وجاءت إرادة القمع وإدارته تحاولان تأسيس مشروعية للقوة الغاشمة المتغطرسة دون جدوى أو نجاح.
وقد حدث هذا في عصر لم يعرف ثورة معرفية، ولا انتشار وسائل التواصل الاجتماعي، ومع هذا نجح الشعب الأعزل في فرض إرادته واستعادة شرعيته وإضفاء مشروعيته وإجراء انتخابات شرعية أعوام ١٩٢٦ و١٩٢٩ و١٩٣٠ انهت الانقلابات وأعادت الشرعية إلى مسارها الطبيعي مرة أخرى.
ومن الإنصاف أن نشير إلى أن المواطن البسيط يفهم معنى الديمقراطية بأفضل كثيرا جدا مما فهمه من يطلقون على أنفسهم الألقاب الموحية بالمعرفة أو الخبرة من أولئك الذين وجدوا أن مكسبهم يكمن للأسف في الكفر بما يدعون إليه، وفي تحريف الكلم عن مواضعه.
وقد وصل بهم الضلال في هذا المقام إلى أن قالوا إن الديمقراطية ليست صندوق انتخابات وإن الشعب ليس مصدر السلطات وإن إرادة المشير فوق إرادة صاحب الشأن.
الانقلاب العسكري الذي تعيشه مصر اليوم لم يكن أول انقلاب دستوري تمتحن به البلاد، وإنما سبقته ثلاثة انقلابات دستورية في عهد الملك فؤاد |
وقد تعددت الدوافع وراء انتهاج هؤلاء لهذا المسلك ما بين منفعة مادية مباشرة أو الخوف على مصلحة مادية قائمة أو كراهية للإسلام أو الدين أو الإخوان أو كراهية الشعب أو الجماهير أو الأصوات أو الخوف من إذاعة فضيحة مسجلة أو موثقة أو إظهار صورة نقيضة للصورة التي يعيش صاحبها عليها من قبيل فجور الشيخ أو شبق القسيس أو شذوذ المسترجل أو بغاء الناشطة. وهو أسلوب لا يزال يصب في مصلحة أجهزة قديمة بعث الانقلاب الروح فيها.
أما ما حدث في الانقلاب العسكري فهو شبيه تماما بأن أطلب من سائق التاكسي أن يوصلني إلى هدف معين فيقف بالتاكسي في مكانه ويشير بعد دقائق إلى نقطة على الخريطة، وبعد دقائق أخرى من الوقوف في نفس المكان يشير إلى موقع تال، وهكذا إلى أن يصل في نهاية توقفه ووقفته الكوميدية إلى النقطة التي ترمز للهدف ويقول: وهذه هي نهاية الطريق، وينتزع أجره مضاعفا على هذا النصب المكشوف.
فما بالنا إذا كنت أنا الشعب لم أطلب هذه التوصيلة ولم أوافق على هذا الاحتجاز القسري في هذا التاكسي المتوقف، وما بالنا إذا كنت أنا الشعب قد بذلت ما في وسعي لمقاومة هذا الانقلاب وفقدت كثيرا من أبنائي الأعزاء في هذه المقاومة المشروعة.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.