القوميون العرب وأسئلة العمق الديمقراطي (2)

القوميون العرب وأسئلة العمق الديمقراطي (2) - مهنا الحبيل

العهد الجمهوري القومي
صراع مع الرسالة
الطائفة لا الرسالة

إن إعادة مراجعة التاريخ العربي المعاصر للبحث عن أصول الأزمة الحالية في التجربة القومية وإشكالية إيمانها التنفيذي بالديمقراطية تعطي دلالات مهمة جدا لا يمكن لأي باحث أن يُغفلها.

العهد الجمهوري القومي
إن نشأة الفكر القومي العربي الحديث جاءت في صراع مع الدولة العثمانية ومقابلة للطورانية التركية أي القومية التركية المتشددة، لكنها استقت من تجربتها بعض التطبيقات المباشرة وتأثرت بها، وهنا لا بد أن نعرض للجموح الثقافي الذي تعرضت له كلتا القوميتين وهيمنة فكرة البناء الجمهوري لدى القوميين العرب مقابل القوميين الأتراك.

والمقصود هنا أن العهد الجمهوري القومي ولو تحدث أو تناقل فكرة الحداثة الديمقراطية، لكن كانت تهيمن عليه نزعة النظام الجمهوري الحامي للولادة الجديدة لصناعة أمة منفصلة عن أمة الرسالة الإسلامية، وبالتالي هيمنت نزعة النظام الجمهوري الاستبدادي لا الديمقراطي على التجربتين، اللتين تعرضتا في القسم التركي والعربي لمخاض واسع.

في التجربة القومية العربية سادت فكرة النظام الجمهوري الذي يصنع ثورة قومية ويتحصّل بعدها على حصانة تُلزَم بها الشعوب، ولم تخضع هذه التجربة للتداول السلمي للسلطة ولم تقبل بها أصلا، بحجة أنها راعية المصالح ومقاومة الاستعمار

وهنا في التجربة القومية العربية سادت فكرة النظام الجمهوري الذي يصنع ثورة قومية ويتحصل بعدها على حصانة تلزم بها الشعوب، ولم تخضع هذه التجربة للتداول السلمي للسلطة ولم تقبل بها أصلا، إذ تحولت إلى عقيدة قومية تبنتها تجارب الحكم، بحجة أن الدولة القومية هي راعية المصالح ومقاومة الاستعمار، في حين أن من ينافسها يضع ذاته في دائرة العمل غير الوطني.

إن الكلمة التاريخية للرئيس جمال عبد الناصر في تبريره لرفض تدشين العهد الديمقراطي للثورة بعد ثورة يوليو/تموز 1952 ومقاومته للنزعة الديمقراطية لدى الرئيس محمد نجيب تعطي تفصيلا مهما لهذا المعنى.

لقد قال الرئيس عبد الناصر لمحاوريه من الإخوان قبل صراعه معهم ومع الشيوعيين "أريد برلمانا أضغط على الزرار يقوم وأضغط على الزرار يقعد".

أي برلمانا يخضع لفكرة العهد الثوري وتعطل فيه أبجديات الديمقراطية، وهي حالة استمرت في ذات العهود التي استقت التجربة ودشنت مشروعها باسم القومية العربية، في ليبيا والعراق وسوريا.

لقد شارك القوميون بفعالية في نقض محاولات بعض الشخصيات الوطنية ذات التوجه الإسلامي والعروبي أو الليبرالي، لتأسيس خطوات صناعة البرلمان الوطني الحر بُعيد الاستقلال.

ومع أن مشروع مقاومة الاستعمار كان له ما يبرره وكان حاضرا للهيمنة على مقدرات الأمة، إلا أن مشاريع القوميين انتهت إلى إضعاف القوة الشعبية في القرار الديمقراطي ثم صناعة الفرد المستبد المطلق، وهو ما عزز تمكين الاستعمار السياسي.

ومن غير المقبول أن تُسقط تلك التجارب من تقييم الحياة السياسية العربية، بحجة أن أخطاء الرئيس عبد الناصر ثم حكم القذافي ثم البعث في سوريا والعراق والقوميين في اليمن شركاء أو أصلاء، لا يجوز أن يُستدل بها لعدم تمثيلهم الكلي للقوميين بما فيهم اليسار القومي، فهي مسافة مهمة من هذا التاريخ الأيديولوجي للحركة.

وهذه العناصر ضمن التجربة القومية، وما جرى من استدعاء حديث لها، له علاقة بذات الفكرة رغم كثافة ترديد وتنظير الفكرة الديمقراطية لدى "صوالين" ووعاظ القوميين العرب.

وهنا نؤكد على أن التنظير الذي يتمسك به صاحبه هو حراك ثقافي مهم لتجديد وتصحيح موقف القوميين العرب من الديمقراطية، لكن يجب أن يُتساءل لماذا لم تُغير هذه الثقافات من موقف القوميين في نقض الربيع العربي، ولنا عودة إلى ملف التنظير الديمقراطي.

إن فكرة أن القومية العربية لا بد لها من حضور امتيازي يفوق الآخرين في أول تجارب الربيع العربي وأن فكرة التداول مع الإسلاميين ليست مقبولة لها علاقة بهذا المفصل، فإيمان القوميين بالعهد الجمهوري القومي جزءٌ من تربية قديمة، فهي تصارع عندهم سلوك القبول الديمقراطي التعددي حتى ولو نادت بعض شخصياتهم به، وهنا تبرز من جديد مواقف القوميين في مصر من نقض الربيع العربي.

لا يزال القوميون في صراع وعقدة مع حقيقة أن العرب لا أمة لهم دون الرسالة، وأن تجميع قبائلهم لصناعة تراث يؤسس للحركة القومية العربية، فضاء فارغ لا يصمد أمام أي تصور اجتماعي منطقي للتاريخ العربي القديم والمعاصر

ويبرز لنا عدم القبول بالعهد الديمقراطي مقابل الهيمنة للعهد القومي الجمهوري كأحد مفاصل الأزمة في الفكر والتجربة القومية حين تخضع للاختبار العملي.

صراع مع الرسالة
لا تزال فكرة الصراع أو القلق أو الخوف القومي من الرسالة الإسلامية وليس الإسلاميين فقط، إحدى مفاصل هذا التمنع أو التمرد القومي ضد الديمقراطية التعددية التي ستجمعهم في أي مساحة حرية في الوطن العربي مع نظرائهم الإسلاميين وستطرح قضية حسم الصندوق الانتخابي الحر.

وهنا نؤكد أن الإشكالية ليست مع فوضى الشعار والتطبيق أو قمعية بعض السلوك الديني لدى بعض الإسلاميين، لكنه من جذور الموقف الذي يشعر دائما بحالة صدام تاريخية مع الفكرة الإسلامية حين تجتمع معه.

إن العودة إلى جذور تشكل الفكر القومي العربي يعطي دلالة مهمة لأسباب هذه النفرة، فهنا انطلقت الفكرة القومية العربية على تجميع أقطار العرب في مصالح مشتركة ضد الاستعمار، لكنها من أصل فكرتها تحمل عزلا قسريا لعرب الرسالة الإسلامية الذين هم أصول الامتداد البشري الحالي منذ عصر النبوة.

ولا يزال القوميون في صراع وعقدة مع حقيقة أن العرب لا أمة لهم دون الرسالة، وأن تجميع قبائلهم لصناعة تراث يؤسس للحركة القومية العربية، فضاء فارغ لا يصمد أمام أي تصور اجتماعي منطقي للتاريخ العربي القديم والمعاصر، ولم تنجح فكرة القوميين بأن الإسلام ليس رابطا ولا صانعا لحضارة، وليس خالقا لأمة وإنما هو جزء تراثي بسيط أو ثقافي فرعي.

هذا المأزق لدى القوميين يعود كلما عادت المشاركة أو الصراع السياسي، خاصة أن التجربة القومية لم تحمل ولم تلد أي إرث اقتصادي بل استدعته من الاشتراكية العالمية ولم تولد سلوك حريات وإنما استقته مجتزا أو موسعا من الفكر الليبرالي الغربي.

وعليه فإن قضية طرح مشروع قومي يفصل العرب عن الرسالة يتكرر ويُشعر القوميين بالفشل، وهو ما يُعزز نظرية الاستبداد الجمهوري الذي يتكئ على صراعٍ مع الاستعمار، حتى لا يخضع للموازين الديمقراطية لتقييم مآلات مشروعه وسلوكه المعاصر.

إن خروج شخصيات عديدة من التيار القومي إلى الفكرة الإسلامية أو الإعلان بأنهم عروبيون لا قوميون يعود لهذه المسألة، وهي أن القومية لا تستطيع أن تكمل الصور المنفصلة في لوحة كاملة، وتقدم مشروعا عروبيا واضح المعالم يؤسس للعهد الديمقراطي للأوطان الحديثة، لأن الفكر الإسلامي أصيلٌ مع العروبة وليس مع الإسلاميين أو تصنيفات المتدينين من صحويين وغيرهم فقط.

فيما الفكرة والأيديولوجية القومية تبدو قالب صراع مع العروبة المؤمنة بالرسالة ومع التاريخ الحضاري القديم ومع ثقافة الفرد المسلم في الوطن العربي، وإيمان العرب بإخوتهم مع الأعاجم المسلمين لم تكن عائقا لتدعيم الوثاق العروبي الذي يؤمن بالرسالة والحداثة الإسلامية ومعالمها الديمقراطية، فيما قصة القوميين تعود من جديد للبحث عن مخرج صراعي مع هذه الفكرة والأمة.

الطائفة لا الرسالة
إن أحد أهم التبريرات التي تطرحها القومية العربية القديمة والمعاصرة وأنتجت ترسانة مواقف دعمت مشروع نقض الربيع العربي، أن مفاهيم الرسالة الإسلامية لا تُعطي مساحة حقوق ولا حريات للطوائف الدينية، وبالتالي يعود رفض المعيار الديمقراطي مع الإسلاميين لضمان هذه الحريات، وهناك مساران للإجابة على هذا التساؤل.

لكن قبل ذلك هذا المعطى يؤكد الإشكالية التي طرحناها أن هناك مأزقا لدى القوميين من الاعتراف بالرسالة الإسلامية رسالة دين حق يحفظ حقوق الأقليات ووحدة الأمة وينظم الدستور الديمقراطي للأفراد والشعوب، ومسألة المرجعية الإسلامية فيه لا تغير من هذه النتائج حين يفتح باب الحوار على مصادر التشريع للفهم والتقنين حسب المقاصد المتفقة مع النصوص، بل إن الحريات الفكرية تُثري هذه الاستدلالات وتتجاوز مأزق تفكير بعض الجماعات الدينية وتُفكك نظريات قطعياتهم الوهمية.

لكن الحركة القومية العربية لم تساهم في مشروع تثبيت الثورة وحرياتها الدستورية حين وصلت ثورات الربيع للحكم بل تخندقت ضدها، وإن كان بعض القوميين شركاء اليوم في صناعة المخرج الدستوري والثقافة الحقوقية مع الإسلاميين في دول أخرى في المشرق أو المغرب العربي، لكن تأييدهم لنقض الربيع العربي في دول الثورات أعاد التساؤلات من جديد عن فكر حلف الفضول في العقلية القومية العربية.

لم تساهم الحركة القومية العربية في مشروع تثبيت الثورة وحرياتها الدستورية حين وصلت ثورات الربيع للحكم بل تخندقت ضدها، وساهمت في نقض تجربة الربيع

إن رفع شعار الإطار الوحدوي لدى القوميين يتصادم مع الإصرار على نشر ثقافة الكوتا للطوائف واستدعائهم للأقليات وصراعها وخلق بديل خارج الإجماع والتكافل الدستوري الموحد لكل فرد مهما كان مذهبه وعرقه، وهو ما يصنع أيضا مأزقا آخر.

فلماذا يُصر القوميون على استدعاء التجزئة والتقسيم؟
إنه ذات السبب للهروب من دائرة الاعتراف بالرسالة الإسلامية وتجنب مصادمة المجتمع العربي المؤمن بها، في حين اللجوء إلى قوالب الطوائف للتترس بها وليس لإقرار العدالة الدستورية الجامعة يُعطي مساحة للمناورة السياسية ورفض المعيار الديمقراطي، إن هذا الإصرار على الهروب من وعي وتقدير الرسالة الإسلامية وأنها هي المكون الأصلي لأمة العرب المعاصرة كما القديمة لن يفيد الحركة القومية العربية.

وهذا لا يعني أن يسلم للجماعات الإسلامية أو المجموعات الدينية في أخطائهم وجعل مواقفهم نصوصا قطعية، لكن المقصود رفع هذه القطيعة والقلق من إيمان الشعوب بالفكر الإسلامي ومنتجه الحضاري القادر اليوم على صناعة الدستور والحقوق المدنية بفضيلة القيم الإسلامية وأحكامها التي تملك في تربية الروح ونهضة النفس ما لا تملكه التجربة الغربية.

ولعل التساؤل من جديد ماذا عن التأسيس التنظيري للديمقراطية والمصالحة مع الإسلاميين التي طرحها مفكرو الاعتدال القومي كالدكتور عزمي بشارة.. هل تُلغى من حسابات النقد والسجل الإيجابي، بالطبع لا.

وهو ما سنعرض له في الحلقة القادمة وكيف تعبر إلى الواقع الديمقراطي تنفيذيا وفي ذهنية المثقف القومي ولماذا تعثّر التعاطي معها إسلاميا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.