العلاقات التركية الإسرائيلية إلى أين؟
بعدما نوّه رئيس الوزراء أردوغان إلى تفاهم تم بين تركيا وإسرائيل سارع الحاقدون على تركيا إلى شن حملة إعلامية بأن تركيا قد تراجعت عن موقفها، وأن أردوغان قد أخفق أمام إسرائيل، فأخذت التعليقات والتحليلات التي تستهدف تشويه أردوغان تتردد في شاشات الفضائيات وتستفز الرأي العام العربي ضده.
هذه الانتهازية غير الأخلاقية تغاضت عن حقائق العلاقات التركية الإسرائيلية، فتركيا لم تتراجع عن مواقفها المتعلقة بمصالحها ومصالح فلسطين معا، وإنما عالجت هذه القضية بما يخدم القضية الفلسطينية والتركية وفق الشروط التركية.
إسرائيل اليوم تشهد أكبر أزماتها منذ تأسيسها، إذ فقدت حليفتها الإستراتيجية في الشرق الأوسط تركيا إثر اعتدائها الهمجي على أسطول مرمرة، بعد أن فقدت إيران حليفتها الأخرى في المنطقة منذ سنة 1979 |
إن إسرائيل وإن كانت صاحبة قوة عسكرية تمكنها من الاعتداء على غزة أو سوريا أو لبنان وقتما تشاء، فإنها بعد الموقف التركي الحاسم بعد هجومها على سفينة مرمرة أصبحت تحت حصار جغرافي ودبلوماسي واقتصادي يهدد أمنها واستقرارها، وذلك رغم دعم أميركا وأوروبا لها، لأن وقاحتها وغطرستها وصلت إلى حد غير محتمل إطلاقا، والدول الغربية لا تستطيع الدفاع عنها بسهولة كالسابق، حتى أميركا قالت أخيرا "إن الإسرائيليين تجاوزوا الخط الأحمر في تعاملهم معها جراء تهريب الأسرار الأميركية"!
أما التفاهم الذي تم بين الطرفين التركي والإسرائيلي ولم يتم التوقيع عليه بعد، فكان بإصرار مستمر من طرف إسرائيل للخروج من الحصار الذي تعيشه، وهو ما أدركته الحكومة التركية في توازن علاقاتها الدولية مع أميركا والاتحاد الأوروبي، ودور تركيا المستقبلي في السياسة الدولية بعد وصول رجب طيب أردوغان إلى سدة الرئاسة التركية.
فتركيا جمدت تعاونها الأمني والعسكري مع إسرائيل، وهذا ما جعل إسرائيل تشعر بحصار أمنى وعسكري لم تعهده من قبل، وكذلك أصبحت القوات الإسرائيلية معزولة عن المنطقة بعد سنة 2011، أي بعد إلغاء الاتفاقيات الموقعة مع تركيا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن المسؤولين العسكريين عن اعتداء أسطول مرمرة على وجه التحديد أصبحوا لا يستطيعون التحرك خارج إسرائيل بسبب الدعاوى القانونية التي تنظر في المحاكم ضدهم.
وإذا وجد من يدعي أن العلاقات العسكرية والأمنية بين تركيا وإسرائيل مستمرة مستدلا بالأخبار التي نشرت في السنة الماضية عن نقل قطع غيار عسكرية من إسرائيل إلى تركيا، فهو لا يعلم أن أن ما تم هو عملية إتمام لصفقة عسكرية سابقة كان على إسرائيل الوفاء بها بحسب الاتفاقيات السابقة، ولم تكن اتفاقية جديدة ولا مواصلة لأي اتفاقية تتعلق بالتعاون العسكري بينهما.
فما تم أشبه بالدين الذي كان على إسرائيل دفعه لتركيا، ومع ذلك وبعد أخذ تركيا حقها في تلك الصفقة لم تعمل على تمديد أي اتفاقية ثنائية بينهما، رغم سعي إسرائيل المتواصل من أجل ذلك، فالعلاقات العسكرية والأمنية بين تركيا وإسرائيل منقطعة انقطاعا تاما، وإسرائيل هي التي تشتكي من هذا الانقطاع وتسعى لإنهائه.
أما الحصار الأهم الذى تعيشه إسرائيل فهو الحصار الاقتصادي المتعلق بالصفقة الكبيرة التي تكلف مئات مليارات الدولارات حيال الغاز الطبيعي والنفط، فمن المعلوم أن رصيدا كبيرا قد عثر عليه من الغاز والنفط في المنطقة الاقتصادية الخالصة بالدولة الإسرائيلية في شرق البحر الأبيض المتوسط، ولا يمكن لإسرائيل تصديره إلى الغرب إلا عن طريق تركيا، وهذه صفقة تتعلق بمئات المليارات المالية، ولذلك تسعى إسرائيل إلى تطبيع العلاقات مع تركيا بهدف انفتاحها على الأسواق العالمية عبر تركيا، وهذا هو الدافع الحقيقي وراء سعي إسرائيل لتلبية كل المطالب والشروط التركية لإعادة العلاقات بينهما.
ولا شك في أن لتركيا مصالح اقتصادية وسياسية من إعادة العلاقات مع إسرائيل، ولكنها غير مضطرة للخضوع للمطالب الإسرائيلية، فتركيا مثلا تستفيد من صفقات النفط والغاز، ولكن السياسة الخارجية التركية في عهد حكومات حزب العدالة والتنمية ليست مبنية على المصالح التجارية فحسب، وإنما إلى جانب المصالح لا بد من مراعاة الحقوق الإنسانية، فتركيا تمارس سياستها الخارجية وهي تراعي الحقوق الإنسانية مع المصالح الأخرى، وفي مقدمة الحقوق الإنسانية التي تراعيها تركيا مع إسرائيل حقوق إخواننا الفلسطينيين في غزة والضفة معا.
مع الإشارة إلى ضرورة التفريق بين العلاقات الخاصة للشركات التركية والإسرائيلية والعلاقات التجارية الرسمية بين الدولتين، فحجم التجارة المستمرة مع القطاع الخاص الإسرائيلي الذى يبلغ 4 مليارات دولار لم يتأثر بسوء العلاقات الدبلوماسية بين الدولتين، لأنها ضمن العلاقات الاقتصادية الحرة وليست ضمن العلاقات الحكومية، ولأن تركيا تميز بين العلاقات الحكومية والعلاقات التجارية بين الشركات المدنية.
وعندما تقطع تركيا علاقاتها مع إسرائيل سواء قطعتها سياسيا أو دبلوماسيا أو عسكريا وما شابه ذلك من علاقات حكومية فهي لا تربط معها العلاقات القائمة بين الشركات الخاصة، فالعلاقات الخاصة تتعلق بمصالح الناس والشركات الخاصة وبحقوق الإنسان، وعندما تعاقب الحكومة التركية إسرائيل فإنها تعاقب الحكومة الإسرائيلية ولا تعاقب الشركات التركية ولا الإسرائيلية وما بينهما من عقود مبرمة، وهذا التصرف ليس خاصا بالشركات الإسرائيلية بل هو جار على كل الشركات التجارية التي تتعامل مع الشركات التركية، ومثال ذلك الحال مع الشركات المصرية، فهي لم تنقطع ومتواصلة رغم العلاقات المتوترة بين الحكومة التركية والانقلابيين في مصر.
وهناك من يلوم تركيا على أنها هي الدولة الأولى ذات الشعب المسلم الكبير التي اعترفت بالدولة العبرية، ونحن نقول إن هذا العتاب صحيح وفي محله، بل نحن أيضا نلوم ونعاتب المسؤولين الذين اعترفوا بإسرائيل سنة 1949 في عهد الحزب الواحد (حزب الشعب الجمهوري).
فقد كانت الحكومة التركية وقتذاك تعادي المبادئ الاسلامية، وقد صنعت ثقافة وطنية للشعب التركي المسلم يعادي فيها دينه وحضارته وتاريخه، بل كانت تمنع أبسط العبادات، وعلى سبيل المثال كانت تمنع قراءة القران وتمنع رفع الأذان باللغة العربية، وكانت الحكومة تلتزم بالعلمانية المتشددة، وتحاول تغريب الشعب المسلم و تمنع أبسط المظاهر الإسلامية من الحجاب إلى العمامة إلى الصلاة إلى الحج وغيرها.
ما تم من تفاهم جديد مع إسرائيل لم يكن مطلبا تركيا أولا، بل كان بإصرار إسرائيلي، وتركيا تعلم ذلك وهي واثقة بنفسها ثانيا، ولن توافق على عودة العلاقات بين البلدين إلا بعد تنفيذ إسرائيل للشروط التركية كاملة ثالثا |
لقد كانت تصرفات الحكومات التركية السابقة وضغوطها على الشعب المسلم أثقل وأشد من ضغوط الاحتلال الغربي، فتلك الحكومات هي التي اعترفت بإسرائيل، وهي التي طورت العلاقات مع إسرائيل في الفترة الاستثنائية، فعهد الحكومات العلمانية المتشددة أساء إلى الشعب التركي قبل أن يسيء إلى غيره من الشعوب المسلمة، خاصة في فترة 28 فبراير/شباط فقد عانى المتدينون الأتراك وتعرضوا لضغوط ومضايقات شديدة إلى حد طرد آلاف الموظفين من عملهم وإغلاق مدارس الائمة والخطباء وما إلى ذلك من أنواع الحظر على الإسلام، وكل ما يمت إليه بصلة.
وبعدما بدأت الانتخابات الحرة وفازت الأحزاب اليمينية، اتخذت تلك الأحزاب التركية مواقف إيجابية لصالح الفلسطينيين وقطعت العلاقات مع إسرائيل ثلاث مرات (1956 و1980 و2010)، وذلك رد فعل على التصرفات الهمجية الإسرائيلية ضد الفلسطينيين والعرب.
وخلاصة القول أن ما تم من تفاهم جديد مع إسرائيل لم يكن مطلبا تركيا أولا، بل كان بإصرار إسرائيلي، نظرا لحاجتها إلى تركيا، وتركيا تعلم ذلك وهي واثقة بنفسها ثانيا، ولن توافق على عودة العلاقات بين البلدين إلا بعد تنفيذ إسرائيل للشروط التركية كاملة ثالثا، وإلا فلن يحصل تقارب إطلاقا.
لقد خضعت إسرائيل للمطلب التركي الأول، وهو تقديم الاعتذار وفي ذلك اعتراف من الدولة الإسرائيلية بأنها هي المعتدية، ولذلك ألزمت بدفع تعويضات مالية كبيرة لأسر الشهداء وفق القانون الدولي، ومع ذلك نعتقد أن هذه العلاقات لن تعود إلى سابق عهدها ما دام حزب العدالة والتنمية في الحكم، وأنها لن تعود إلى سابق عهدها ما دام أردوغان قائد السفينة التركية.
إن تركيا التي يديرها أردوغان تأخذ في عين الاعتبار المصالح التركية إلى جانب المصالح الفلسطينية في علاقتها مع إسرائيل، ومن المتوقع أن يتوج أردوغان شروطه على إسرائيل بزيارة له إلى قطاع غزة، وذلك بعد إبرام التفاهم ليقول للفلسطينيين إنه لم يخنهم وإنه معهم!
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.