قراءة في أبعاد الخلاف بين الظواهري والبغدادي

8 عناصر من جبهة النصرة والدولة الاسلامية في العراق والشام في جمع موحد لتاكيد على وحدة الهدف والمصير

إرث.. ومراجعات
تكريس الانقسام

لم تفلح رسالة الظواهري "شهادة لحقن دماء المجاهدين في الشام" (بداية مايو/أيار 2014) في رأب الصدع داخل شبكة القاعدة، ولا في حقن الدماء في سوريا بين أشقاء الأمس وأعداء اليوم، تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام بقيادة الملقب بأبي بكر البغدادي، وجبهة النصرة بقيادة الملقب بالفاتح أبي محمد الجولاني.

استمر القتال وارتفعت وتيرة الحرب النفسية والإعلامية بين الطرفين، فبعد أن ردّت جبهة النصرة بالالتزام بأوامر البغدادي (نظريا)، وجّه تنظيم الدولة ضربة أخرى للظواهري عبر المتحدث باسمه أبي محمد العدناني (في رسالة عذرا أمير القاعدة)، إذ تحدّث بلغة قاسية وحادّة مع الظواهري، مما استفزّ جبهة النصرة فردّت بدورها على العدناني في رسالة أبي ماريا القحطاني، المسؤول الشرعي، وأعلنت استمرار المعارك مع تنظيم الدولة الذي لم يُظهر احتراما للظواهري وندائه!

لم تقف خطوط الاختلاف والتباين عند حدود المشهد السوري، إذ بدأت عرى التيارات المنتمية للتيار السلفي الجهادي تتفسّخ وتنقسم ما بين مؤيد للظواهري ومعه النصرة أو موالٍ للبغدادي وتنظيم الدولة

لم تقف خطوط الاختلاف والتباين عند حدود المشهد السوري، إذ بدأت عرى التيارات والتنظيمات التي تنتمي إلى التيار السلفي الجهادي تتفسّخ وتنقسم ما بين مؤيد للظواهري ومعه النصرة أو موالٍ للبغدادي وتنظيم الدولة، وظهر ذلك الاستقطاب جليّا في انقسام أبناء هذا التيار في كلّ من الأردن والمغرب العربي.

فقد وقف كلّ من أبي محمد المقدسي وأبي قتادة الفلسطيني ومعهم مفاتيح التيار في الأردن مع النصرة بينما وقف تيار آخر مع تنظيم الدولة، وانقسم المهاجرون من الأردن إلى سوريا بين التنظيمين، فيما أعلن حسن الكتاني، أحد أبرز القيادات الجهادية في المغرب، وقوفه إلى جانب النصرة في مقابل داعش (تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام).

تلك التحولات والتطورات المتسارعة على أرض الواقع من الضروري أن تطرح أسئلة جوهرية عن المعالم الأساسية للخلاف بين الطرفين؟ وفيما إذا كان طارئا فعلا مع المشهد السوري أم أنّ هنالك إرهاصات ومقدمات سابقة على ذلك؟ وما هي النتائج والسيناريوهات المتوقعة المترتبة على ما يحدث اليوم؟

إرث.. ومراجعات
بالرغم من أنّ الخلافات الراهنة انفجرت مع المشهد السوري إلاّ أنّ جذورها تعود إلى مرحلة سابقة، وتحديدا لحظة انضمام أبي مصعب الزرقاوي إلى القاعدة ومبايعته أسامة بن لادن (في العام 2004)، إذ اتسم منهج الزرقاوي بأنّه يقع في أغلب تفاصيله على يمين القاعدة، من زاوية التشدد الديني والمواقف السياسية الصلبة.

تطوّر اتجاه الزرقاوي، لاحقا، في المشهد العراقي، وانتقل إلى تسويغ الدخول في صدام مع القوى والفصائل الإسلامية الأخرى مثل كتائب ثورة العشرين والجيش الإسلامي.

ولم يؤدِّ مقتل الزرقاوي في العام 2006 إلى تراجع منهجه، إذ التزمت أولا القيادات الجديدة، مثل أبي حمزة المهاجر وأبي عمر البغدادي بالمنهج نفسه، وبقيت أمينة على ميراث الزرقاوي، كما هي حال أبي بكر البغدادي اليوم، وثانيا بدأ هذا المنهج يجد له أنصارا ومؤيدين ومتأثرين في أنحاء مختلفة من العالم، إذ ارتبط بالهالة التي أحاطت بنجاح الزرقاوي السريع في العراق.

تكشف الوثائق التي أفرجت عنها السلطات الأميركية بعد مقتل أسامة بن لادن (في أبريل/نيسان 2011)، وكانت قد حصلت عليها من وثائقه الشخصية عن وجود تذمّر وعدم ارتياح لديه ومعه القيادة المركزية من أداء أبي مصعب الزرقاوي وتنظيمه في العراق، وهو ما دفع بن لادن إلى فتح باب النقاش في المراجعات مع مفاتيح فكرية وفقهية في القاعدة على نطاق ضيّق، منذ نهاية 2006 (أي غداة مقتل الزرقاوي) إلى الأيام الأخيرة عشية مقتل بن لادن في 2011.

بالرغم من الشعور بالقلق لدى قيادة القاعدة فقد كان جليّا أنّها تجنبت تماما إظهار أي نوع من الاختلاف والخلاف مع الزرقاوي، واكتفت بالنصائح والوساطات في القنوات السريّة الضيّقة، وتجنّبت إبداء أي موقف عندما وجّه أبو محمد المقدسي (الشيخ الروحي للزرقاوي) رسالة نقدية واضحة لسلوك الأخير ومنهجه، وعنونها بـ"الزرقاوي: مناصحة ومناصرة"، مما أثار غضب أتباع الزرقاوي وأدى إلى انقسام التيار في الأردن بين مؤيدي المقدسي ومن أُطلق عليهم إعلاميا مصطلح "الزرقاويون الجدد".

جذور الخلافات الراهنة تعود إلى  لحظة انضمام أبي مصعب الزرقاوي إلى القاعدة ومبايعته أسامة بن لادن، إذ اتسم منهج الزرقاوي بالوقوع في يمين القاعدة تشددا دينيا ومواقف سياسية صلبة

بقيت الخلافات بين القاعدة المركزية والزرقاوي مسكوتا عنها في أروقة القاعدة وأوساط التيار الجهادي، فمن الواضح أنّ الزعيم السابق للقاعدة تجنّب الاصطدام بالزرقاوي، حينما كان نجم الأخير صاعدا، فيما تعرضت القاعدة المركزية لحرب أمنية عالمية قاسية، دفعت بقياداتها إلى الاختفاء واحترازات أمنية مشددة.

خلال الثورة السورية، بدا واضحا أنّ التنظيم الجديد المرتبط بالقاعدة (جبهة النصرة) ينمو بهدوء وراء الأضواء، ويتجنب الإعلان عن انتمائه للقاعدة ولا يصطدم بالفصائل المسلّحة الأخرى، ويمثّل نموذجا مختلفا عن التنظيم الذي ولدت فكرته في أحشائه، أي تنظيم الدولة الإسلامية في العراق، ولم يعلن الجولاني عن بيعته للظواهري إلاّ في أبريل/نيسان 2013، بعدما كشف أمير الدولة، أبو بكر البغدادي، عن فكرة الجبهة وتاريخها، وضمّها لتنظيمه، وهو الأمر الذي رفضته واستبدلته بالالتزام بالولاء للتنظيم الأم، أي القاعدة المركزية.

تطوّرت الخلافات وانحاز الظواهري إلى الجولاني، وتحوّلت السجالات الإعلامية والفكرية وعملية الاستقطاب في أوساط السلفية الجهادية إلى عداوة شديدة بين الفرقاء، وصلت إلى معارك طاحنة في سوريا، واغتيال للقيادات، واتهامات عميقة تكشف بأنّ حجم الفجوة بين الطرفين أصبح كبيرا، فلم تنجح أغلب الوساطات من الشخصيات المحسوبة على التيار والمقرّبة منه في ردمه!

يمكن اختزال هذه الخلافات بالقول إنّنا أصبحنا أمام منهجين ومدرستين: الأولى تمثلها جبهة النصرة، التي تعكس منهج القاعدة بعد المراجعات الأخيرة، ما يختصره الدكتور إياد القنيبي، أحد أبرز المنظّرين في هذه الأوساط، بوصفه الجبهة بـ"التيار التجديدي داخل القاعدة"، بينما تنظيم الدولة الإسلامية هو امتداد للزرقاوي ومنهجه الأيديولوجي بما يمثّله من مرحلة جديدة في القاعدة نفسها، لكنّه يقف على الطرف الأيمن (الأكثر تشددا وأدلجة) من القيادة المركزية.

كما يعكس صعوده طبيعة التحولات لدى الجيل السلفي الجهادي الجديد، الذي أصبح أكثر تشددا وعنفا في تبني رؤيته ومحاولة فرض هيمنته وسيطرته والتمادي في العداء مع كل المخالفين، حتى ممن يتبنون الرؤية الإسلامية.

بالضرورة ثمّة معالم رئيسة للاختلاف بين الاتجاهين أو التيارين الجهاديين اليوم، فالقاعدة بعد المراجعات أصبحت أكثر حرصا على عدم الاصطدام بالمجتمع المحلي وعدم التوسّع في التكفير مع المخالفين، والتركيز على الصيغة العالمية للصراع مع العدو القريب المتزاوج بالعدو البعيد (أي ضد تحالف الأنظمة العربية بالولايات المتحدة الأميركية)، بينما تنظيم الدولة الإسلامية يرى ضرورة فرض سيطرته وهيمنته على المناطق التي يسيطر عليها.

وقد بدا أكثر صرامة وحسما في الصدام مع المخالفين، حتى من الإسلاميين، تحت وطأة تجربته مع "الصحوات في العراق"، والأهم من هذا وذاك الإغراق في البعد الطائفي من الصدام والصراع مع إيران والقوى الشيعية.

تكريس الانقسام
يقف عاملان رئيسان وراء انفجار الخلافات الأخيرة في القاعدة، وما يمكن أن ينجم عنها مستقبلا:
العامل الأول يتمثل بمقتل القيادات الكارزمية والمؤثّرة، فغياب شخصية بحجم أسامة بن لادن، ترك فراغا كبيرا، وبالرغم من أنّ الظواهري يمتلك حضورا كبيرا في أوساط القاعدة، إلاّ أنّه لا يحظى بالمستوى العالي من التوافق والقبول، الذي كان يميز سلفه الأول.

غياب الزرقاوي، أيضا، فاقم الصراع، إذ بالرغم من وجود إرهاصات وجذور للتباين بين منهجه ورؤية بن لادن، إلاّ أنّ ذلك بقي محدودا ومسكوتا عنه، ولم يخرج إلى السطح إلاّ بعدما رحل الاثنان بن لادن والزرقاوي، ومعهما قُتلت أيضا قيادات مهمة وفاعلة كانت تلعب دورا وسيطا بين القيادة المركزية والفروع، مثل أبي يحيى الليبي وجمال المصراتي (الملقب بعطية الله) خلال السنوات الماضية.

طالما بقيت القيادة المركزية للتنظيم ملاحقة ومحدودة الحركة فإنّ ذلك سيفتح بابا واسعا للاختلافات في المستقبل، وسيوسّع المسافة بين المركز والفروع من جهة والفروع نفسها من جهة أخرى

أمّا العامل الثاني فيكمن في التحوّل في طبيعة تنظيم القاعدة نفسه، وانتقاله من الصيغة التنظيمية الصلبة والعلاقة الهرمية في تصميم العمليات وتنفيذها قبل 11 سبتمبر/أيلول إلى الصيغة الشبكية الفضفاضة، وإعادة هيكلة العلاقة بين القاعدة والمجموعات الجديدة التي بدأت تظهر منذ ذلك الحين، لتصبح القاعدة نفسها أشبه بـ"رسالة سياسية" مثل العلامات التجارية، تعتمد على الفكرة والأهداف لا التنظيم.

وقد أدّى ذلك أيضا إلى تزايد كبير في الاعتماد على شبكة الإنترنت والعالم الافتراضي في التجنيد والتواصل، وبدأ يظهر ما نسميّه "الجيل الثالث" من القاعدة في السنوات الماضية، الذي لعبت الإنترنت دورا حيويا ومهما في صعوده.

بالرغم من هذه النقلة النوعية في عمل القاعدة وتوسّعها وانتشارها إلاّ أنّ الصيغة الجديدة لم تكن لتمرّ من دون ثمن باهظ أيضا، وهو ضعف المركز وقوة الأطراف، وبروز الخلافات بين الاتجاهات والجماعات والتصوّرات المختلفة لدى الفروع من جهة والمركز من جهة أخرى، طالما أنّ الحلقة المركزية الصلبة في حالة من الضعف والحصار.

صحيح أنّ هنالك رسالة مركزية واحدة إلاّ أنّ هنالك، أيضا، خلافات وتباينات فكرية وشخصية بين القواعد المتعددة، وطالما أنّ القيادة المركزية لن تتخلص من حالة الحصار الراهن، وستبقى ملاحقة ومحدودة الحركة، فإنّ ذلك سيفتح بابا واسعا للاختلافات في المستقبل وسيوسّع المسافة بين المركز والفروع من جهة، والفروع نفسها من جهة أخرى، وفي حال خرج الظواهري من المشهد فإنّ ذلك سيدفع إلى مزيد من التراجع في دور القيادة المركزية ويعزّز من الانقسامات والخلافات الراهنة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.