عن الإعلام والقضاء بالمغرب

صور لصحف ومجلات مغربية

بين الإعلام و"المؤسسة" القضائية بالمغرب أكثر من نقطة لقاء ووفاق: فهما فضاءان متساكنان، لا يكترث أحدهما بالآخر كثيرا، اللهم إلا إذا كان للأول أن يغطي ما يروج بين أروقة الثاني، وكان للثاني أن يفصل في نزاعات الأول.

وهما متعاطفان (أو هكذا يجب) في تطلعهما للاستقلالية عما سواهما من أجهزة وبنى ومؤسسات، مادية كانت أم رمزية. ثم هما متقاطعان في محاولة كل منهما التصدي للتجاوزات والعمل على تقويم السلوكيات.

وهما، فضلا عن كل ذلك، "ضميرا الأمة الحي"، لا يستقيم بنيانها إلا في سموهما، ولا تقوم قائمة للحرية أو للعدالة أو للديمقراطية، إلا إذا قامت لهما في الشكل كما في الجوهر.

يبدو الإعلام والقضاء، من هنا، ولكأنهما بالمحصلة النهائية، فضاءان متوازيان، متمايزان:

الإعلام يفضح التجاوزات، ويندد بانحراف السلوكيات، بل يطرحها بالفضاء العام للتشهير بها وفضح الثاوين خلفها، تماما كما يقضي القضاء بمواد القانون التي من شأنها معاقبة المتجاوزين وتقويم سيرة المنحرفين

– فالإعلام (مكتوبا كان أم مسموعا أم مقروءا) يحترم القضاء ويخضع لأحكامه، ويدفع بجهة استقلاليته واستقلالية القائمين عليه؛ والقضاء يحترم قدسية الرسالة الإعلامية ونبلها، ولا "يتطاول" على مهنييها إلا في إطار ما تنص عليه القوانين وتستلزمه اللوائح والتشريعات.

– والإعلام (بكل أشكاله وتلاوينه وحوامله) يعترف بمركزية القضاء في بناء الديمقراطية وإقامة دولة الحق والقانون، والقضاء بدوره لا ينكر على الإعلام الدور إياه، ولا ينتقص من مفعول إسهامه، وضرورات إشراكه في الزمن والمكان.

– والإعلام (بحكم فلسفته وغاياته الكبرى) يفضح التجاوزات، ويندد بانحراف السلوكيات، بل يطرحها بالفضاء العام للتشهير بها وفضح الثاوين خلفها، تماما كما يقضي القضاء بمواد القانون التي من شأنها معاقبة المتجاوزين وتقويم سيرة المنحرفين.

هما معا متموقعان "في خندق واحد" كما يقال، يدفعان بسيادة نفس القيم، وينحوان بجهة تكريس نفس المبادئ. وهما، فضلا عن كل ذلك، يعاضدان بعضهما البعض:

– فالإعلام لا يرى من سبيل للتنمية والحرية والعدالة إذا لم يكن الجهاز القضائي سليما، ناجعا، مستقلا وقائما على أسس من الاستقامة، تضمن للأفراد والجماعات مسالك الحركة والفعل والتنقل.

وهو (أي الإعلام) لا يشيع فقط الحقوق والواجبات من بين ظهراني الأفراد والجماعات، أو التي عليهم التمتع بها أو الامتثال لها، بل لا يتوانى في اعتبارها المدخل الأساس لإقامة منظومة العدالة، وضمان مقومات التنمية وسيادة مستلزمات الحرية.

لا ينتقص القضاء من دور الإعلام في تقويم سلوك المجتمع، والترويج لثنائية الحق والواجب في المجتمع كما في الاقتصاد والسياسة، بل يعتبره شاهد إثبات على درجة استقامة القضاء، ومستوى تساوي المتقاضين في تظلماتهم أمامه.

– والإعلام لا يدفع فقط بتمثل للقضاء يتساوى في ظله الخاص والعام، رئيس الدولة والمواطن المعدم، بل أيضا بتمثل أن ما قد يكون تجاوزا (في القضاء) هو، في الأصل، من تجاوز بعض القضاة من بين ظهرانيه، لا من تجاوز القضاء برمته، تماما كما لا يأخذ القضاء الإعلام، كل الإعلام، بجريرة بعض الإعلاميين من بينه. أي أن جانب القصور (في الحالتين) هو من تقصير بعض الفروع ضمنهما، لا من تقصير الأصل.

هناك، إذن بمحصلة أولية، تواز وتكامل في الآن نفسه، ليس فقط في الوظيفة بين الإعلام والقضاء، بل كذلك في الفلسفة العامة، في التصور القائم، وفي التطلع المنشود، أي في الغايات المراد إدراكها.

لا يبدو الأمر دائما في صورة التوافق والتكامل المقدمين أعلاه، إذ سبل التضاد قائمة، وعناصر التنابذ كائنة وثابتة. قد لا تكمن السبل تلك ولا العناصر هاته فقط في التشكيك المتبادل بين الإعلام والقضاء، بجهة درجة استقلالية كليهما عن إكراهات الجهاز التنفيذي، وضغوطات لوبيات المصالح السياسية والاقتصادية والمالية، ولا فقط بجانب التجاوز الوارد من بين ظهراني كل من طرفي المعادلة، ولكن أيضا وبالأساس بالقياس إلى الوتيرة المتباينة التي قد يسير بها الطرفان، أو يتمثلان بها دورهما وأدوات أدائهما.

ستبقى علاقة الإعلام بالقضاء علاقة ممانعة وتضاد وتشكيك، طالما لم يتم تفكيك الارتباط "العضوي" بين الجهاز التنفيذي ولوبيات المصالح من جهة، وبين المؤسسة القضائية من جهة أخرى

فالقضاء لا يطاله دائما ما يطال الحقل الإعلامي من تحولات وتجديدات، والإعلام لا ينظر للأحداث والوقائع، الجاري منها كما القار، نظرة القضاء لها، والأخير لا تهمه كثيرا طقوس اشتغال الأول، وهكذا.

لهذه الأسباب ولغيرها، ترى القضاء "يضيق" ذرعا بالإعلام في أكثر من مرة ويذهب لحد التضييق عليه، وترى الإعلام يشكو من القضاء عدم مسايرته وعدم قدرته على مواكبة وتيرته في الاشتغال، تماما كما ترى القضاء في المحك من ممارساته، عندما لا تبدو قراراته للإعلام مسوغة، أو ذات مسحة لا تمت كثيرا للوائح والتشريعات القائمة.

ومعنى هذا أنه بقدر ما يؤاخذ الإعلام على القضاء انصياعه للسياسي (أو للوبيات المتنفذة، أو لمجموعات المصالح "العميقة") في إصدار بعض من أحكامه، بقدر ما يؤاخذ القضاء على الإعلام تجاوزاته (أو بعضا منها)، و"الحكم" على الأفراد والجماعات من منطلق الشبهات أو الاحتكام إلى الشائعات، دونما إعمال لقرينة البراءة، أو احتكام إلى دلائل وحجج لا تقبل الطعن أو المزايدة.

قد لا يختلف الأمر كثيرا في ذهننا، لو استقرأنا ما سبق من حديث على واقع الحال بالمغرب، إذ التطلع للاستقلالية هو مطلب الإعلام كما القضاء، وتطلع كليهما لبناء الديمقراطية ودولة الحق والقانون قائم، ودفعهما بقيم العدالة والمساواة أمر مشترك… وهكذا. لكن نقط التضاد والتصادم بينهما غالبا ما تضع سبل التكامل و"الاحترام" على المحك.

هناك، فيما نتصور، ثلاث حقائق كبرى تجعل العلاقة بين الإعلام والقضاء في المغرب أقرب إلى التصادم والممانعة منها إلى التكامل في الأدوار والوظائف:

– الحقيقة الأولى: أن المؤسسة القضائية بالمغرب، ولربما بكل مستوياتها وتراتبياتها، لا تتمتع بالاستقلالية الكاملة التي قد يكون من شأنها ضمان حقوق الأفراد والجماعات، وضمان امتثالهم للواجبات القائمة في المجتمع. إذ الحاصل أننا بإزاء ارتهان حقيقي للمستوى القضائي من لدن الجهاز التنفيذي، لدرجة قد يتعذر على المرء في أحايين كثيرة، التمييز بين المستويين.

وهو أمر جلي وواضح، والأمثلة على ذلك كثيرة، ليس فقط فيما يخص العديد من الحالات التي كان للجهاز التنفيذي الريادة في "إقبارها" قضائيا بتوجيهات مباشرة أو "محسوسة" من هذه الجهة أو تلك، ولكن أيضا فيما يتعلق بحالات لم "يسمح" للقضاء بإزائها أن ينصف المستوى الإعلامي، كحالات المنع التي يلجأ إليها المستوى التنفيذي مباشرة، وبأمر منه، دونما اللجوء للقضاء، أو حالات التضييق التي تطال بعض المنابر وتكون حائلا أساسيا دون استمرارها.

ولهذا السبب، فنادرا ما ينصف القضاء مثلا، إعلاميا أمام وزير أو أمام محافظ أو بوجه مدير مؤسسة عمومية كبرى -دع عنك محيط الحاكم المباشر- وإن تمَّ له ذلك بالصدفة، فغالبا ما يتم التحايل على المسطرة القانونية، المعقدة أصلا، بجهة إبقاء القضية بين أروقة المحاكم لسنين طويلة، قد لا يكون للإنصاف المحتمل بعدها، أي أثر مادي أو رمزي على الإعلامي المتضرر، أو على المنبر المستقصد.

نحن إذن، بهذه الحالة، إنما بإزاء استصدار حقيقي لسلطة القضاء وارتهان لهويته (لا بل لاستقلاليته) من لدن "مسؤولين" (أو هكذا يبدون للعامة منا) غالبا ما يروج أنهم "فوق القانون"، أو لا يعيرون هذا الأخير أدنى مكانة، اللهم إلا إذا تحركت ضدهم المسطرة القضائية بأمر من السلطات العليا، كما هو الشأن في الحالات القصوى (حالات فساد لا يمكن التغاضي عنها، أو يكون من شأنها التأثير على صورة الحاكم)، أو تدخل رئيس الدولة لإنصافهم مباشرة (في حالة صدور عقوبات حبسية على إعلاميين لهم وزنهم، أو ثبت أنهم كانوا مجرد كبش فداء).

بالتالي، فستبقى علاقة الإعلام بالقضاء، على هذا المستوى، علاقة ممانعة وتضاد وتشكيك، طالما لم يعمد إلى تفكيك الارتباط "العضوي" بين الجهاز التنفيذي ولوبيات المصالح من جهة، وبين المؤسسة القضائية من جهة أخرى.

– الحقيقة الثانية: وتتمثل في الاعتقاد (اعتقادنا الخاص على الأقل) بأن المؤسسة القضائية بالمغرب مستصدرة القرار، ليس فقط من لدن الجهاز التنفيذي المباشر، بل كذلك من لدن مستويات رمزية يعتبر الاقتراب منها أمرا محذورا، لا على الإعلام فحسب، ولكن أيضا من لدن الأفراد والجماعات.

لا ينحصر الأمر هنا في الحظر الذي يطال الحديث في وعن المؤسسة العسكرية (والذي اعتقل بشأن الاقتراب منها -مجرد الاقتراب- أكثر من إعلامي)، ولا في فتح بعض وسائل الإعلام لبعض الملفات من تاريخ المغرب الشائكة أو الغامضة أو المسكوت عنها أو المعتم عليها، بل تعداه إلى الدفع بالقضاء دفعا لـ"صياغة" حكم بالسجن على إعلامي (ومن ثمة منع أسبوعيته) "لجهله" بأن من الأحجار في المغرب ما قد يدخل صاحبه السجن، في حيثية مباشرة لـ"زعم" ذات الإعلامي أن أحد القصور الملكية قد يعرض للبيع بالمزاد.. فتابعه القضاء، شكلا وفي مضمون الحكم، على خلفية تعرضه لمقدس يحرم على "الجماعة" الاقتراب منه بهذا الشكل أو ذاك.

القضاء هو مكمن العدل، والعدل هو أساس الملك، ولكن الإعلام أيضا هو عين القضاء، بجهة البصر كما بجهة البصيرة. فكيف له يا ترى، أن يعدم ذات البصر والبصيرة في تحامله على الإعلام والإعلاميين؟

قد لا يجوز، في هذه الواقعة كما في العديد غيرها، أخذ القضاء بجريرة بعض من قضاته المنفذين، المؤتمرين بأمر السلطان أو حاشيته المباشرة، لكن الواقعة إياها تشي في حد ذاتها بـ"اجتهاد قضائي" خرج صاحبه (القاضي) بموجبه عن منطوق النص القانوني وروحه، على خلفية من إكراهات رمزية ضاغطة، لم يكن له لربما إلا أن يستسلم لها ويخضع، وإلا ففي عدم مجاراته للتوجيهات، معاقبته أو محاسبته، أو التأثير على مستقبله ومساره المهني.

بالتالي، فطالما عمدت المؤسسة القضائية إلى إعمال مبدأ "الاجتهاد" في توسيع فضاء المقدس بالمغرب، وتمطيطه قسرا أو طواعية، فإن المستوى الإعلامي سيبقى تحت رحمة ذات الاجتهاد، إما صراحة، أي بإعمال "الجرم المشهود"، أو في الضمن المستتر، والذي غالبا ما نجده في التأويل القضائي الفج، الذي قد يصل في بعض الحالات، حد لي عنق النص ليتساوق والنازلة المعروضة أمام هيئة الحكم.

– الحقيقة الثالثة: لو كان "للمؤسسة القضائية" (تشريعات وجهازا قضائيا) أن تسلم من استصدار الجهاز التنفيذي لسلطتها وهويتها، وارتهان قدرتها من لدن المرجعية الرمزية التي تلازمها أو تفرض عليها فرضا من عل، فإنها لن تستطيع، بأي حال من الأحوال، النأي بنفسها عن لوبيات المصالح، التي غالبا ما تستهجن العمل الإعلامي في تعرضه لبعض مكامن الفساد التي تثوي ذات اللوبيات خلفها، أو تتستر عليها، أو تحميها بهذا الشكل أو ذاك.

صحيح أنه ليس من صلاحيات القضاء البت في غير ما هو معروض أمامه، ولا التحقيق في غير الشكاوى المقدمة إليه، لكنه يبقى سجين الفرع هذا دونما إمكانية النفوذ إلى الأصل. بالتالي، فطالما ظل القضاء "رهينة" اللوبيات أولئك، فإن علاقته بالإعلام ستبقى حتما متوترة، وإلى حد بعيد غير منصفة.

إن القصد مما سبق إنما قول المختصر التالي: صحيح أن القضاء هو مكمن العدل، وأن العدل هو أساس الملك، كما يقال ويروج. لكن الصحيح أيضا أن الإعلام هو عين القضاء، بجهة البصر كما بجهة البصيرة. فكيف له يا ترى، أن يعدم ذات البصر والبصيرة في تحامله على الإعلام والإعلاميين؟

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.