عن عودة الحرب الباردة

عن عودة الحرب الباردة.سلامة كيلة

استحوذ الصراع في أوكرانيا على اهتمام كبير من منظور أنه يشير إلى عودة الحرب الباردة، وعودة انقسام العالم إلى قطبين. خصوصا وأن روسيا قد ضمت شبه جزيرة القرم، وتعمل على تفكيك أوكرانيا للسيطرة على شرقها، واندفعت أميركا لاتخاذ عقوبات اقتصادية ضدها.

وإذا كانت روسيا تظهر وحيدة في هذا الصراع فإن أميركا في تآلف مع أوروبا لدعم "الحكم الجديد" في أوكرانيا، ووقف الاعتداءات الروسية على هذا البلد.

هل هي، بالتالي، عودة للحرب الباردة؟ أم هو صراع على النفوذ في سياق تقاسم العالم وفق ميزان القوى الجديد؟

لا بد من أن نشير أولا إلى أن روسيا تمارس سياسة القضم والضم والتفكيك من أجل السيطرة في أوكرانيا، حيث ضمت شبه جزيرة القرم، وها هي تدفع شرق أوكرانيا للاستقلال، أو تطالب بأن يعطى استقلالية في إطار دولة فدرالية.

لا شك في أهمية القرم حيث يشكل القاعدة الأساسية للبحرية الروسية، التي لا يمكن الاستغناء عنها، خصوصا وأن روسيا تسعى لتوسيع وجودها البحري في العالم من البحر المتوسط إلى أميركا اللاتينية

ولا شك في أهمية القرم حيث تشكل القاعدة الأساسية للبحرية الروسية، التي لا يمكن الاستغناء عنها، خصوصا وأن روسيا تسعى لتوسيع وجودها البحري في العالم من البحر المتوسط حيث لها قاعدة بحرية "صغيرة" في طرطوس السورية، وتطرح إقامة قاعدة أخرى في قبرص وثالثة في مصر، وصولا إلى فيتنام وحتى تايلند، إلى أميركا اللاتينية (فنزويلا).

وفي هذه الوضعية العالمية تصبح أهمية القرم أعلى، فهي المركز لكل هذا النشاط البحري. كما أن أوكرانيا مهمة لروسيا لأنها طريق الوصول إلى أوروبا، وضمن ذلك تأتي أهمية أنابيب الغاز الضرورية لروسيا، لكن كذلك لأوروبا. وهي "جزء تاريخي" لا يمكن الاستغناء عنه لتطور روسيا ذاته. وما يساعد على ذلك وجود جالية روسية كبيرة، إضافة إلى ميل الشرق لروسيا، عكس الغرب الذي يميل للارتباط بأوروبا.

روسيا بالتالي تفرض مصالحها بالقوة على أوكرانيا، وتعمل على إجهاض تطلعات الشعب الأوكراني الذي ترى في غالبيته أن مستقبل الشعب مرتبط بالعلاقة مع أوروبا، رغم أن هذا الطموح سيبدو وهما لأن أوروبا لا تفعل سوى النهب كما مارست في أوروبا الشرقية التي لم يصبح وضعها أفضل بعد الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي أو الشراكة مع أوروبا.

وهو الوضع الذي سيفرض حتما التمرد على أوروبا، واتخاذ طريق مختلف. لكن ليس من خيار سوى تجريب هذا الوهم، لأن الشعب لم يتوصل إلى خيار بديل، ككل شعوب أوروبا الشرقية.

المشكلة الأسوأ هي أن مطامح الشعب الأوكراني ستخضع للتقاسم العالمي الذي يجري الآن بين الإمبرياليات كما كان في القرن التاسع عشر والقرن العشرين، حيث إن الوضع العالمي الراهن يشجّع روسيا على التمادي، والسعي لفرض شروطها، التي ستُقبل في الأخير.

ففي أوروبا نجد ألمانيا تقيم "علاقة متينة" مع روسيا، وهي معنية باستمرار هذه العلاقة التي تخدم مصالح شركاتها. وألمانيا هي المركز المؤثر في أوروبا، ربما تحاول فرنسا العمل على تحقيق شيء آخر نتيجة مصالحها في أوكرانيا، لكنها لن تستطيع مقاومة الموقف الألماني. وهذا يفتح الباب على المفاوضات والبحث عن "حلٍّ مقبول".

ورغم حماس أميركا لـ"فرض عقوبات اقتصادية" على روسيا، والتهديد "الفارغ" الذي بات يتكرر من قبل باراك أوباما، فإن أميركا ليست في وارد تصعيد الصراع ضد روسيا، على العكس نجد في إطار الوضع العالمي الراهن أنها تريد "علاقة وثيقة" مع روسيا. ولهذا سوف تعمل على التوصل إلى حل مرضٍ، هو ما تريده روسيا. أي أن يبقى القرم بيد روسيا، وتصبح أوكرانيا فدرالية بين شرق وغرب، وتتشكل حكومة تميل إلى "الحيادية"، أو إلى تحقيق التوازن في علاقاتها بين أوروبا وروسيا، وبالتالي تكون جسر وصل، وليس سد قطيعة.

ولا شك أن هذا لا يلبي طموحات القسم الأعظم من الشعب، ويؤسس لدولة هشة ومسيطر عليها من كل من روسيا وأوروبا، دون أن يتحقق ما يطالب به الشعب من تغيير في الوضع الاقتصادي لتحسين معيشته بعد الانهيار الاقتصادي الذي باتت تعيشه، والذي فرض حدوث أكثر من ثورة.

رغم حماس أميركا لفرض عقوبات على روسيا، والتهديد "الفارغ" الذي بات يكرره أوباما، فإن أميركا ليست في وارد تصعيد الصراع مع روسيا، بل تريد "علاقة وثيقة" معها

إذا كانت روسيا قد باتت دولة رأسمالية (وهي بالتالي إمبريالية بالطبع)، وبات اقتصادها متشابكا في إطار النمط الرأسمالي، وبالتالي باتت تتأثر بكل مشكلاته، وفي كل الآليات الاقتصادية التي تحكمه، فقد غدت تريد أسواقا، وسيطرة على مواقع إستراتيجية ككل الإمبرياليات. هذه النظرة هي التي تحكم علاقتها بأوكرانيا، وربما باتت تفكّر في التهامها.

ولقد ظهرت نزعة "الندم" على تفكيك الاتحاد السوفياتي في خضم البحث عن "السوق الواسعة"، والمراكز الإستراتيجية (التي أشرنا إليها من قبلُ فيما يخص أوكرانيا)، أي في خضم البحث عن التوسع الإمبريالي. لكن تشابكها الاقتصادي في إطار النمط الرأسمالي يفرض عليها كذلك "اللعب ضمن الحدود الممكنة"، ولا شك أنها تعرف هذه الحدود التي باتت تميل لمصلحتها.

فليست ألمانيا بحاجة إلى روسيا فقط، بل إن أميركا كذلك هي بحاجة إلى روسيا. وهذا الأمر يوضّح المدى الذي يجري فيه التحوّل في ميزان القوى العالمي، وفي إعادة ترتيب العالم وفق وضع القوى الإمبريالية ذاتها (إلى الآن، حيث سينقلب ذلك في الفترة القادمة نتيجة تفاقم الصراعات ضد الدول الإمبريالية ذاتها من قبل الشعوب).

وإذا كانت أميركا هي القوة المضادة للاتحاد السوفياتي زمن الحرب الباردة، في تكافؤ ظاهر كان لا يسمح بهزيمة طرف لطرف آخر، لهذا تعايشا في ظل سياسة "التعايش السلمي" التي بدأت مع خروتشوف واستمرت مع بريجينيف إلى فترة انهيار الاتحاد السوفياتي. وإذ أرادت أن تقلب الوضع العالمي لمصلحتها النهائية بعد انهيار الاتحاد السوفياتي عام 1991، عن طريق فرض ذاتها قوة عالمية وحيدة، مهيمنة ومسيطرة، ومحتكرة، فقد ظهر عليها "الإعياء" بعد أن حاولت تجاوز أزماتها من خلال السيطرة على العالم طيلة عقدي التسعينيات وما بعده.

حيث لم تفض السيطرة الواسعة التي قامت بها، ونشر قواتها في مناطق واسعة من العالم، إلى منع الأزمة الاقتصادية من الانفجار.

هذه الأزمة هي التي قادت لنجاح باراك أوباما لأنه كان يطرح سياسة التركيز على حل الأزمة الاقتصادية داخليا، وهي التي أوصلته بعد سنتين من حكمه إلى أنْ لا حل للأزمة المالية، ومن ثم يجب إدارتها والتكيف معها فقط.

ولقد أظهرت الأزمة أنه يجب تقليص ميزانية الجيش وعدده، وتقليص الدور العسكري في العالم. وهذه النتيجة فرضت بالضرورة إعادة تموضع أميركا عالميا من خلال تحديد الأخطار وبناء التحالفات على الأسس الجديدة.

فقد ظهر واضحا عجزها عن خوض الحروب العديدة، ونشر قواتها في العالم، وباتت قدرتها على تقديم "المساعدات" الاقتصادية أضعف. وهو الأمر الذي جعل باراك أوباما يصدر بداية سنة 2012 الإستراتيجية الدفاعية الجديدة، التي انطلقت من أن الأولوية انتقلت إلى آسيا والمحيط الهادئ، نتيجة الاستنتاج بأن الصين باتت هي الخطر الرئيسي.

أميركا ليست في وضع الهجوم، بل في وضع التراجع.. وهذا ما سمح لروسيا بأن تحاول التقدم، وأن تتشدد في أوكرانيا، وأن تطمح للتقدم في "الشرق الأوسط" والتوسع في مناطق كثيرة من العالم

ولهذا جرى السعي لإعادة بناء التحالفات على ضوء ذلك، الأمر الذي جعل الحاجة إلى روسيا أمرا لا بد منه، من جهة لكسر كل إمكانية لتحالف روسي صيني، ومن جهة ثانية لفرض الحصار حول الصين.

ولأن لروسيا مطامح بعد أن عملت أميركا على عزلها وتهميشها منذ انهيار الاتحاد السوفياتي إلى سنة 2010، فقد بات على أميركا أن تتنازل لها في مناطق عديدة تريدها.. سوريا كانت المكان الأول الذي قررت أميركا أن تدعم السيطرة الروسية عليه. وربما تقبل بتوسعها في الشرق الأوسط غير النفطي (أي دون الخليج العربي).

لكن كان وضع أوكرانيا مريحا لروسيا، حيث كان يسيطر يانوكوفيش. الثورة التي حدثت هي التي أوجدت الإشكالية الراهنة، حيث سعت بعض بلدان أوروبا لاستغلالها من أجل "سحب" أوكرانيا وإخضاعها، بينما تصرفت روسيا كقوة إمبريالية من خلال السيطرة على القرم، والدفع نحو تفكيك أوكرانيا. ولأن أميركا و"ألمانيا" كذلك تريدان التحالف مع روسيا فإن الأمور سوف تسير نحو التفاهم، وفق المنظور الروسي.

أميركا ليست في وضع الهجوم، بل باتت في وضع التراجع.. وهذا ما سمح لروسيا أن تحاول التقدم، وأن تتشدد في أوكرانيا، وتطمح لأن تتقدم في "الشرق الأوسط"، وتتوسع في مناطق كثيرة من العالم.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.