عن المفاوضات وعوامل القوة

عن المفاوضات وعوامل القوة - عزت الرشق
undefined

مسار مفاوضات
ما قبل خطة "كيري"
لماذا الرفض؟
ماذا بعد؟ وإلى أين؟

سؤال: الأحداث العربية متسارعة عاصفة، فهل الوقت مناسب للحديث عن مسار ومآلات المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية اليوم؟

جواب: نعم.
ولعلّ أبسط الأسباب الموجبة للحديث عن المفاوضات الآن، هو أن "إطار كيري" المنتظر وبمنطق الفكر السياسي لن يولد في بيئة نموذجية هادئة، بل يحتاج حتى يمر ظروفا استثنائية للغاية تجبر الطرف الفلسطيني -الأضعف- على التفكير ألف مرة قبل أن يقول "لا"، وتوسّع رقعة الضغط على الدول التي من المتوقع أن ترفض الاتفاق، وتوجّه أكثر تلك القوى المؤيّدة له، وتستغلّ كل الظروف اللاإنسانية التي يعيشها الفلسطيني من غزة المحاصرة جنوبا إلى مخيم اليرموك شمالا، لخلق حاضنة شعبية لاتفاق كارثي جديد.

مسار مفاوضات
منذ أن انطلقت المفاوضات بين السلطة الفلسطينية والاحتلال الصهيوني في أكتوبر/تشرين الأول 1991 بمدريد وبعدها في سبتمبر/أيلول 1993 بأوسلو، ومسلسل التنازلات عن الحقوق والثوابت الوطنية في تصاعد خطير.

منذ أن انطلقت المفاوضات بين السلطة الفلسطينية والاحتلال الصهيوني عام 1991 في مدريد وبعدها عام 1993 في أوسلو، ومسلسل التنازلات عن الحقوق والثوابت الوطنية في تصاعد خطير

ومع مرور الوقت وتعثّر هذا المسار بين الفينة والأخرى، يمضي الاحتلال في تنفيذ مخططاته على الأرض في تسارع محموم غير مكترث باتفاقيات ولا مواثيق دولية، مستغلا في ذلك انحياز الوسيط والراعي الأميركي والصمت الدولي وتخلّي المفاوض الفلسطيني عن مكامن القوة وعناصر الضغط.

وفي كل مسار من مسارات التفاوض مع الاحتلال التي تتم تحت مسمّيات وعناوين شتى، ومضمون واحد هو تصفية القضية الفلسطينية، بدءا من أوسلو واتفاقيتي القاهرة وطابا، فاتفاقيتي واي ريفر1 و2، مرورا بتقرير ميتشل وخارطة الطريق ومؤتمر أنابوليس، وصولا إلى خطة الإطار التي يعدّها جون كيري، ففي كل هذه المحطات التفاوضية كانت السّمة الغالبة فيها:

1- قبول المفاوض الفلسطيني العودة إلى المفاوضات مع استمرار الاستيطان والتهويد وجرائم الاحتلال في تهجير شعبنا وحصاره وانتهاكاته ضد الأسرى.

2- استغلال الاحتلال مسار المفاوضات لتسريع وتيرة الاستيلاء على الأراضي الفلسطينية وتنفيذ المزيد من المشاريع لفرض أمر واقع.

3- استمرار التنسيق الأمني مع الاحتلال والتزام الجانب الفلسطيني بواجباته في حماية أمن الكيان الصهيوني ومحاربة المقاومة وملاحقة رجالاتها.

4- الراعي الأميركي للمفاوضات غير نزيه ومنحاز إلى الاحتلال وأجنداته مما يشكّل عامل ضغط أكبر على المفاوض الفلسطيني.

5- ازدواجية المعايير لدى الإدارة الأميركية والمجتمع الدولي في التسوية بين الضحية والجلاد، وعدم ممارستهم الضغط اللازم على الاحتلال الصهيوني الذي يعدُّ نفسه خارج إطار المحاسبة والمعاقبة.

6- وصول المفاوضات في كلّ محطاتها إلى طريق مسدود وفشل ذريع، وعدم تحقيق المفاوض الفلسطيني أيّ تقدّم يُذكر يلبّي فيه أدنى طموحات شعبه، وفي المقابل يرفع الاحتلال من وتيرة مطالباته ويصعّد من ضغوطه وفي الوقت نفسه يحقق المكاسب على الأرض.

7- غياب الإجماع الوطني الحاضن والداعم لخيار المفاوضات مع الاحتلال ممّا يجعلها تغريدا خارج السرب وعملا مرفوضا ولا تلزم نتائجه وما تتمخَّض عنه جماهير شعبنا الفلسطيني وقواه الحيّة.

ما قبل خطة "كيري"
تعدّ "خطة الإطار" التي يحملها وزير الخارجية الأميركي آخر إبداعات الإدارة الأميركية في رعاية وإدارة المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية، وفي حقيقتها لا تعدو كونها بقايا مخلّفات خطط من سبقوه من وزراء الخارجية، تمّ البناء عليها أو إعادة تدويرها وصياغتها لا أكثر، ولا تحمل في مضمونها شيئا جديدا سوى المزيد من تكريس الانحياز إلى مخططات الاحتلال وأهدافه التوسعية وفرض أمر الواقع والضغط على الطرف الفلسطيني للقبول به.

ولعل المشهد الأبرز لهذه الخطة بعد أن شارفت مهلة الأشهر التسعة على الانقضاء، والتي قلنا وقتها: "لن يكون مآلها إلاّ الإجهاض أو مولودا غير شرعيّ يرفضه شعبنا… وهذا مصيرٌ حتميٌّ لكل مشروع يُؤسَّس خارج الإجماع الوطني".. هذا المشهد تختصره المواقف التالية:

– فشل المفاوضات يعني أن الولايات المتحدة ستسحب يدها من الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، هكذا يلمح كيري.

– الاعتراف بيهودية الدولة ثم نناقش ما تريدون، هذا هو الخط الأحمر الإسرائيلي.

الإطار سيكون مقبولا للجانبين، عبارات فضفاضة، ومصطلحات حمّالة أوجه، لذلك سيكون سهلا على الطرفين القبول بها، وفي المرحلة التالية سيبدأ تنفيذ الالتزامات، وهنا تفرض كل التفاصيل الشيطانية نفسها
– لا بديل عن المفاوضات إلا المفاوضات، يقول الطرف الفلسطيني!

نطلُّ على المنشور من أفكار كيري ما سرّب منها ويتداول إعلاميا، فحتى اللحظة ينفي الطرف الفلسطيني تسلّم المبادرة مكتوبة رسميا، فنشعر من خلال التسمية "إطار" أنَّ الكلام يدور عن بحث قضايا الحل النهائي، وتأجيل الحديث في تفاصيلها إلى وقت لاحق.

كيري عرف أن الشيطان يكمن في التفاصيل فقرَّر تأجيل التفاصيل، إلى ما بعد الاتفاق على الإطار!

 
الإطار سيكون مقبولا لدى الجانبين، عبارات فضفاضة، ومصطلحات حمّالة أوجه، لذلك سيكون سهلا على الطرفين القبول بها، وفي المرحلة التالية سيبدأ تنفيذ الالتزامات، وهنا تفرض كل التفاصيل الشيطانية نفسها، وسنّة التاريخ لا تسمح للطرف الأضعف -بالمعطيات المادية- أن يفسر المُبهم بما يتناسب مع مصلحته.

إسرائيل آنذاك ستفرض التفسيرات التي تريدها واقعا دون ضغوط من الراعي الأميركي المنحاز الذي لم ولن يثق به الشعب الفلسطيني بعد أن جرّبه راعيا للمفاوضات على مدار أكثر من عشرين عاما مضت، ولم يجنِ غير الإحباط وخيبة الأمل، وهو يرى غول الاستيطان يلتهم أرضه وآلة القتل الإسرائيلية مسلطة عليه، ومقدساته تُنهب، وشبابه في المعتقلات، ومقاومته مهدّدة، وقدسه تهوّد.

دولة الاحتلال الإسرائيلي دخلت لقاءات الإطار وخطّها الأحمر هو ضرورة الاعتراف الفلسطيني بيهودية إسرائيل، ما يعني مصيرا أسود ينتظر الفلسطينيين من أبناء الأرض المحتلة عام 1948، ويعني أنَّ المقامرة التي شملت الفلسطينيين في دول الشتات اتّسعت لتشمل فلسطينيي 48، وستعزّز وجود الكيان الصهيوني كدولة دينية احتلّت الأرض وسلبت المقدسات، ثمَّ مارست التطهير العرقي، وفي الختام حصلت على صكّ الغفران من أصحاب الأرض السليبة!

لماذا الرّفض؟
يسألونك: لماذا ترفضون ما يُنشر ويسرّب من خطة الإطار التي يسوّقها جون كيري وتدعمها دوائر الغرب وربّما بعض الدول العربية؟

انطلاقا من المبدأ الراسخ والمتجذر في أعماق كل فلسطيني بعدم التنازل عن أرضه التي ضحّى من أجلها الأجداد والآباء، نرفض هذه الخطة لأنها تقود إلى الاعتراف "بيهودية الدولة" وتصفية القضية وضياع الثوابت، والقضاء على الحقوق التي ضحّى شعبنا في سبيل نيلها مقدّما أرواح أبنائه وحرية شبابه وبناته!

نرفضها لأن أكثر من نصف الشعب الفلسطيني يعيش خارج حدود بلاده، وقضية اللاجئين من أهم قضايا الحل النهائي، يتناولها "الإطار" بصياغات تتكلم عن لمّ شمل "محدود" لمواليد فلسطين.

ماذا تعني كلمة "محدود"؟ هل تعني لم شمل خمس عائلات مثلا؟! وعودة الراغبين إلى أراضي السلطة الفلسطينية (الضفة وغزة)، واستيعاب بعض الفلسطينيين في أماكن وجودهم.. ماذا يعني استيعاب؟!

ما نريده هو عودة كل اللاجئين إلى كل المدن والقرى والبيوت التي هجّروا منها هم أو آباؤهم أو أجدادهم، دون أيّ اعتراف بشرعية دولة الاحتلال، ودون أيّ تنازل عن فلسطين التاريخية التي لا يملك أحدٌ حق التنازل عن شبر منها.

نرفضها لأنها تطرح تبادل الأراضي كحل لمشكلة المستوطنات والجدار، مما يعني أن الاستيطان والجدار كمبدأ خرج من المفاوضات وصار واقعا يبحث المتفاوضون سبُل الالتفاف عليه، والخروج برؤية عامة تكرّس وجوده وتضفي عليه الشرعية من جهة، وتحفظ ماء وجه المفاوض الفلسطيني أمام شعبه من جهة أخرى. الوسيط الأميركي يتعامل مع الإسرائيليين بمنطق الحلول العمليّة، ومع الفلسطينيين بمنطق "تبويس اللحى"!

نرفضها لأن دولة الاحتلال -حسب المنشور- ستنسحب خلال سنوات من أرض الغور، ونحن رصدنا التزام إسرائيل بتعهّداتها بعد سنوات من أوسلو، فكم أسيرا أطلقت؟ كم حالة لمّ شمل سمحت بها، انسحبت أم توسّعت استيطانيا، كرّست حدود الدولة الفلسطينية أم نسفتها بالجدار؟ هل طبّقت إسرائيل التزاما واحدا إبَّان تنفيذ تفاصيل "أوسلو"؟ ماذا عن السيادة والمياه وتأمين الحدود؟ ألم يتعلَّم المفاوض الدرس بعد؟!

إذا كان هذا هو الإطار الذي يناقش أهم قضايا الصراع مع العدو الصهيوني، فلكَ أن تتخيَّل المنهجية التي تقوم عليها المفاوضات!

ماذا بعد؟ وإلى أين؟
بمرارة نتابع إصرار رئاسة السلطة الفلسطينية على بيع الوهم للشعب الفلسطيني الذي أعطاها الفرص الواحدة تلو الأخرى، وكان الدم الفلسطيني المسفوك، والأرض المسلوبة، والمقدسات المدنّسة ثمن هذه الفرصة في كل مرّة، والنتيجة دائما هي المزيد من المحاولات، والمزيد من الخسائر!

المفاوض الفلسطيني يذهب خالعا عن كتفيه عباءة المقاومة، بدل إشهارها كأهم عوامل القوة الفلسطينية، فيجلس على الطاولة مع عدوّه مسلّما بأن إسرائيل" هي الطرف الأقوى، وحارما نفسه حقّ مقاومتها

الأولى والأجدى بالإخوة في رئاسة السلطة وحركة فتح الانسحاب من المفاوضات، والمسارعة إلى مؤتمر وطني جامع يرأب صدع البيت الفلسطيني ويحقق المصالحة ويوحّد الصف، ويبني إستراتيجية فلسطينية جديدة قوامها المقاومة بكل أشكالها الشعبية والمسلحة، ثم تكريس الجهود في استثمار الوضع الدولي الجديد لصالح "دولة فلسطين" للانضمام إلى هيئات الأمم المتحدة التي تتيح لنا كفلسطينيين ملاحقة قادة وجنود الاحتلال أمام المحاكم الدولية على جرائمهم التي ارتكبوها بحق الشعب الفلسطيني.

إنَّ المفاوضات تقوم على أرضية عناصر القوة التي يملكها كل طرف، واستعداده لفتح خياراته في سبيل تحقيق المكتسبات التي يسعى لتحقيقها.

المفاوض الفلسطيني يذهب خالعا عن كتفيه عباءة المقاومة، بدل إشهارها كأهم عامل من عوامل القوة الفلسطينية، فيجلس على الطاولة مع عدوّه مسلّما بأنَّ "إسرائيل" هي الطرف الأقوى وحارما نفسه حقّ مقاومتها، وهو في الوقت ذاته يخلق هوَّة سحيقة بينه وبين أغلبية شعبه المؤمنة بخيار المقاومة والكفاح المسلح سبيلا للتحرير.

يدخل ميدان التفاوض خاسرا احترام شعبه، واحترام الوسيط، فضلا عن احترام عدوّه.
خيار حلّ السلطة الفلسطينية أيضا مغيّب كورقة قوَّة فلسطينية، فهل يستطيع المفاوض الفلسطيني التفكير -مجرّد التفكير- بحلّ السلطة؟!

الأفكار أعلاه جاءت ردّا على المنشور والمسرب من خطة كيري، ونعلم أنَّ الخافي أعظم، وتجربة التاريخ علّمتنا درسا قاسيا، لذلك لن يلومنا أحدٌ لو أعلنّا رفضنا المسبق لهذا النهج، وأكدنا أن ما سينتج عنه لن يلزم شعبنا بشيء.

وختاما: آن للوفد الفلسطيني المفاوض أن يَعِيَ أنَّ خيار التفاوض الذي يتبنّاه مع الاحتلال الصهيوني هو في حقيقته صراع، ولن يكون حياة!!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.