بين تهديد روسيا بالتدخل العسكري في أوكرانيا وتنفيذه

بين تهديد روسيا بالتدخل العسكري في أوكرانيا وتنفيذه - عامر راشد

undefined 

الممانعة الروسية
أوراق ضغط
موسكو بين خطابين

وضع موسكو للخيار العسكري على الطاولة في تعاطيها مع تطورات الأزمة الأوكرانية، وما قابله من ردود فعل غاضبة صدرت عن دول حلف الناتو، أثار تكهنات لدى البعض باحتمال حصول مواجهة عسكرية بين الجانبين.

فروسيا تحاول استعادة زمام المبادرة بعدما اعتبر كثير من المحللين والمراقبين أن هزيمة دبلوماسية قاسية لحقت بها جراء سقوط نظام حكم حليفها فيكتور يانوكوفيتش، بينما تحاول الولايات المتحدة ودول الناتو لجم الاندفاع الروسي، وحماية نظام الحكم الجديد في كييف بأقل الخسائر.

الممانعة الروسية
لا شك أن خروج أوكرانيا من الفلك الروسي، وتحول نظامها السياسي الجديد إلى خصم حليف للولايات المتحدة وأوروبا الغربية، سيشكل هزيمة جيوسياسية من الصعب الاعتقاد بأن روسيا ستسلم بها بسهولة.

يشكل خروج أوكرانيا من الفلك الروسي، وتحول نظامها السياسي الجديد إلى خصم حليف للغرب هزيمة جيوسياسية من الصعب الاعتقاد بأن روسيا ستسلم بها بسهولة

إذ تنظر موسكو إلى التطورات العاصفة في كييف وتداعياتها باعتبارها تهديدا مباشرا للمصالح الحيوية الروسية العليا وللأمن القومي الروسي.

ومن جملة المخاوف المباشرة التي أثارت حساسية بالغة لدى الكرملين الخشية من أن تندفع كييف نحو إلغاء "اتفاقية خاركوف"، الموقعة بين الرئيس فلاديمير بوتين والرئيس الأوكراني المقال يانوكوفيتش، بخصوص تمديد وجود القاعدة البحرية الروسية في ميناء سيفاستوبل، في شبه جزيرة القرم، من عام 1917 حتى عام 2042، مقابل مساعدات اقتصادية تقدمها روسيا لأوكرانيا، منها خفض في أسعار الغاز.

وهذا ما يفسر مسارعة مجلس الشيوخ الروسي بتفويض الرئيس الروسي فلاديمير بوتين -بطلب منه- بـ"استخدام القوات المسلحة الروسية حتى عودة الاستقرار الاجتماعي والسياسي إلى شبه جزيرة القرم"، وفقا لما جاء في نص التفويض.

ولإثبات جدية التلويح بخيار التدخل العسكري، أمر الرئيس الروسي بإجراء مناورات عسكرية هي الأضخم، أشرف بوتين شخصيا على المرحلة الأخيرة منها، وشاركت فيها وحدات من قوات المنطقتين العسكريتين الغربية والمركزية، تشكل كما ذكرت وسائل الإعلام الروسية سدس أفراد الجيش الروسي، وحوالي تسعين طائرة و120 مروحية قتالية و880 دبابة وثمانين قطعة بحرية.

وتؤكد كل المؤشرات والتحليلات أن هذه المناورات تأتي في سياق الضغوط التي تمارسها موسكو على نظام الحكم الجديد في كييف، رغم نفي وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو صلتها بالوضع الناشئ في الجارة أوكرانيا، بعد الإطاحة بالرئيس يانوكوفيتش.

غير أن تلويح موسكو باستخدام القوة، واستعراض قدراتها العسكرية، لا يجب النظر إليه كمؤشر على أن روسيا ماضية فعلا نحو تدخل عسكري واسع في أوكرانيا، وذلك للعديد من الأسباب.

أوراق ضغط
إن من شأن أي تدخل عسكري روسي واسع النطاق في أوكرانيا أن يحرق أوراق القوة غير العسكرية التي تمتلكها موسكو، وتستطيع من خلالها الضغط على عصب السلطة الجديدة في كييف، وإرهاقها سياسيا واقتصاديا وأمنيا، لاسيما في ظل الانقسامات الحادة داخل المجتمع الأوكراني التي أظهرتها الأزمة الأخيرة، والأوضاع الاقتصادية الصعبة للبلاد، واعتمادها الكلي على توريدات الطاقة من روسيا (الغاز)، وحاجتها للتجارة البينية معها.

بالإضافة إلى إمكانية استغلال موسكو للأخطاء الكبيرة التي وقعت فيها القيادة الجديدة في كييف، وتجسدت بإصدار "الرادا" الأوكراني (البرلمان) قوانين متسرعة، وغير متوازنة، تعمق الانقسام داخل المجتمع الأوكراني، من خلال استهدافها للمواطنين من أصول روسية، في مناطق الشرق والجنوب التي تقطن فيها أغلبية ناطقة بالروسية. فضلا عن شبه جزيرة القرم -ذات الحكم الذاتي- التي يشكل ذوو الأصول الروسية أكثر من خمسين بالمائة من سكانها.

ومن أكبر الأخطاء التي ارتكبت من قبل الأحزاب المعارضة التي قادت احتجاجات "الميدان" في كييف ضد يانوكوفيتش، التمادي في طرح شعارات شوفينية تمس الناطقين باللغة الروسية في أقاليم الشرق والجنوب وشبه جزيرة القرم، وضد روسيا الاتحادية.

وأضفى مجلس "الرادا" طابعا رسميا عليها، بإلغاء قانون عام 2012 حول وضع اللغات في أوكرانيا، الذي منح اللغة الروسية صفة لغة محلية في المقاطعات التي يقطنها 10% على الأقل ممن يعتبرونها اللغة الأم.

وحصلت اللغة الروسية وفقا لهذا القانون على وضع اللغة المحلية رسميا في 13 من أصل 27 مقاطعة في أوكرانيا.

ورغم تراجع "الرادا" عن قراره لاحقا، لم يساعد ذلك في التخفيف من هواجس الناطقين بالروسية في أوكرانيا إزاء توجهات نظام الحكم الجديد، بزعامة رئيس "الرادا" فلاديمير تورتشتينوف.

ويمكن القول، بشكل عام، إن المعارضة الأوكرانية لم تلحظ في قراراتها، بعد تسلمها الحكم، مصالح الأوكرانيين من أصل روسي، وبدت وكأنها قيادة لجزء من الشعب الأوكراني على حساب جزء آخر.

ولن يقود مثل هذا الخطأ الفادح فقط إلى انقسام المجتمع والأقاليم على أساس اللغة الأم، بل يحمل في طياته هوية مستترة للصراع، ما بين المواطنين الأوكرانيين الأرثوذكس الناطقين باللغة الروسية، في أقاليم الشرق والجنوب وشبه جزيرة القرم، والمواطنين الأوكرانيين الكاثوليك في الأقاليم الغربية.

ليس من مصلحة روسيا التورط في مواجهة عسكرية مفتوحة في أوكرانيا، يصعب احتواء نتائجها وتداعياتها الأمنية والسياسية والاقتصادية السلبية، ومنع تأثيرها على العلاقات مع الغرب

وهذه سابقة في العلاقة بين شعوب المنطقة، يمكن أن توظفها موسكو في التحذير من منزلق تطرف قومي شوفيني قد تدخل فيه أوكرانيا، وينعكس على شعوب ودول المنطقة بأسرها، بما فيها دول الاتحاد الأوروبي، التي يعاني بعضها من مخاطر بروز حركات قومية راديكالية متطرفة.

مما سبق، بمقدور روسيا أن تلعب بأوراق الضغط السياسية والاقتصادية التي تملكها، إلى جانب الاستفادة من ثقل قوة المواطنين الأوكرانيين من أصول روسية، وتحويلهم إلى قوة ضاربة، مثلما وقع في شبه جزيرة القرم، التي تعد بالنسبة لروسيا ذات أهمية عسكرية إستراتيجية، ليس فقط لأنها تضم قاعدة أسطول البحر الأسود (الروسي) في ميناء سيفاستوبل، إنما لأنها تشكل أيضا محل نزاع بين روسيا وأوكرانيا بعد انهيار الاتحاد السوفياتي.

فروسيا تدفع بأن شبه جزيرة القرم كانت تاريخيا تتبع لسيادة روسيا، قبل أن تصبح جزءا من أوكرانيا في عام 1954، بقرار من الزعيم السوفياتي (آنذاك) نيكيتا خروتشوف، وهو أوكراني الأصل.

بالمقابل، تدرك موسكو أن عليها أخذ ردود الفعل الأميركية والأوروبية الغربية بعين الاعتبار، في أي خطوة عسكرية نوعية قد تقدم عليها ضد أوكرانيا، لما تمثله أوكرانيا بالنسبة لدول الناتو من الناحية الجيوسياسية الإستراتيجية، فهي تقع في وسط أوروبا وتملك حدودا مع مولدوفا وبولندا وسلوفينيا ورومانيا وهنغاريا، وتطل على البحر الأسود وبحر الآزوف.

هذا فضلا عن أن روسيا ليس من مصلحتها التورط في مواجهة عسكرية مفتوحة في أوكرانيا، يصعب احتواء نتائجها وتداعياتها الأمنية والسياسية والاقتصادية السلبية، ومنع تأثيرها على العلاقات مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، التي سيؤدي تدهورها إلى إلحاق أضرار سياسية واقتصادية كبيرة بروسيا.

موسكو بين خطابين
يندرج التلويح الروسي باستخدام الخيار العسكري، ضد نظام الحكم الجديد في كييف، في سياق ما يمكن اعتباره البحث عن نصر، يقارن البعض بينه وبين ما وقع في الحالة الجورجية، حين تدخلت روسيا عسكريا بسبب النزاع على أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا في الثامن من أغسطس/آب عام 2008.

وهذه مقارنة خاطئة للعديد من الأسباب منها طبيعة الأزمة وتعقيداتها، وفرص نجاح واحتمالات فشل التدخل العسكري، وميزان القوى، والوزن الجيوستراتيجي لكل من جورجيا وأوكرانيا.. إلخ.

غير أن بعض المحللين في العاصمة الروسية يرون أن الكرملين يمكنه القول إنه حقق نصرا من خلال تلويحه بالتدخل العسكري، ويكفي لترويج هذا الخطاب، في أوساط الرأي العام الروسي، سرعة حسم الوضع في شبه جزيرة القرم لصالح روسيا.

وكان لا بدَّ من أجل الوصول إلى مثل هذا الأمر وضع الخيار العسكري على الطاولة، وكأن روسيا ماضية إلى الحرب فعلا.

وهنا تنوِّه الصحفية الروسية ماريانا بيلينكايا في مقال نشرته في صحيفة الحياة اللندنية، الخميس 27 فبراير/ شباط، إلى أهمية ودلالات خطاب القوة الذي استخدمه الكرملين في تعاطيه مع الأزمات تاريخيا، بقولها "ليست مجرد مصادفة أن يتداول كثيرون في روسيا حاليا، فكرة مفادها أن السلطات كانت دائما وفي مراحل التاريخ كلها تهتم بصناعة النصر ولا تكترث كثيرا بالثمن الذي يتوجّب على المجتمع أن يدفعه".

علما بأن مقال بيلينكايا لم يكن يتطرق في شكل مباشر للأزمة الأوكرانية بل حول استفتاء تلفزيوني أثار انقسامات حادة في أوساط الرأي العام الروسي، حول سؤال: هل كان من الأفضل تسليم لينينغراد في الحرب العالمية الثانية بدل التضحية بحياة مئات الآلاف من سكانها؟

لكن موسكو بخصوص الأزمة الأوكرانية، بصرف النظر عن خطاب البحث عن النصر أو القول بأنها حققته فعلا في القرم، تسعى في حقيقة الأمر، من وراء التلويح باستخدام الخيار العسكري، إلى حل وسط مع نظام الحكم الجديد في كييف بمشاركة وضمانات أميركية وأوروبية غربية، يقوم على أساس الاتفاق الموقع بين يانوكوفيش والمعارضة حينها في 21 فبراير/ شباط الماضي، بوساطة أوروبية أميركية.

ومن اللافت أن روسيا تتمسك بالاتفاق المذكور باعتباره "الوثيقة القانونية الوحيدة لتسوية الأزمة"، رغم أن ممثل الرئيس فلاديمير بوتين في المفاوضات انسحب من دون التوقيع على الاتفاق. ووجهت موسكو حينها انتقادات لاذعة لحليفها يانوكوفيتش.

يخشى عدد من السياسيين والمحللين الغربيين من أن القيادات التي استلمت زمام الحكم غير ناضجة لقيادة البلاد في الطريق الصحيح، وفي الذاكرة فشل الثورة البرتقالية في إنتاج نظام سياسي مناسب

وهذا بحد ذاته تنازل قدمته روسيا يرى الحكام الجدد في كييف وحلفاؤهم الغربيون أن الوقائع على الأرض تجاوزته، بينما تراهن روسيا على أن دول حلف الناتو ستقبل في نهاية المطاف بحل وسط، لسببين رئيسيين:

السبب الأول: أي حل في أوكرانيا يحافظ على وحدة البلاد، ويمنع انزلاقها نحو حرب أهلية، من غير الممكن الوصول إليه دون توافق روسي أميركي أوروبي، كما أن الغرب غير متحمس لتحمل أعباء دعم أوكرانيا بعشرات مليارات الدولارات لإنقاذ اقتصادها شبه المنهار.

السبب الثاني: الصورة في أوكرانيا غير واضحة حتى بالنسبة للغربيين الذين دعموا المعارضين لإسقاط يانوكوفيتش، وثمة خشية عند عدد كبير من السياسيين والمحللين الغربيين من أن القيادات التي استلمت زمام الحكم غير ناضجة لقيادة البلاد في الطريق الصحيح، وفي الذاكرة فشل الثورة البرتقالية في إنتاج نظام سياسي مؤهل، وقادر على تحقيق الاستقرار والتنمية الاقتصادية والمجتمعية.

خلاصة القول، منذ البداية كان ثمة خيط رفيع بين تهديد روسيا بالتدخل العسكري في أوكرانيا وتنفيذه، لم يلاحظه كثيرون، يزكي أن روسيا لن تذهب إلى خيار الحرب، بل ترفع سقف ردود أفعالها كي تصل إلى حل وسط يحافظ على مصالحها، وفي مقدمتها ضمان مشاركة فاعلة للناطقين بالروسية في النظام السياسي الجديد، والإبقاء على قاعدتها البحرية في ميناء سيفاستوبل، ومنع انضمام أوكرانيا إلى حلف الناتو، وهي مطالب ممكنة التحقيق من وجهة نظر موسكو.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.