أردوغان بين "الدولة العميقة" و"الدولة الموازية"

أردوغان بين "الدولة العميقة" و"الدولة الموازية" - بشير عبد الفتاح

undefined

ظل أردوغان في بداية سني حكمه الاثنتي عشرة يشكو من سطوة ما كان يطلق عليه "الدولة العميقة"، وهي ذلك الكيان الذي كان يضم غلاة العلمانيين والقوميين المتطرفين المناهضين للإسلام السياسي من جيش وشرطة وقضاء وإعلاميين وبيروقراطية.

بيد أن رئيس الوزراء الغارق، هذه الأيام، حتى أذنيه، في صراعاته المنهكة مع خصومه السياسيين من الأحزاب والقوى العلمانية والإسلامية على السواء، بات يلقي باللائمة في كل ما ألم به وحكومته وحزبه من اضطرابات على ما يسميه "الدولة الموازية"، التي اتهم حليفه السابق وغريمه الحالي فتح الله غولن، زعيم حركة "الخدمة" بالسعي إلى إقامتها، على حد زعمه، بغية تعظيم نفوذه وتعزيز حضور جماعته في كافة مفاصل الدولة ومؤسساتها توطئة للإطاحة بحكومة العدالة والتنمية.

ويتهم أردوغان شبكة المراكز التعليمية التابعة لغولن والتي تمكنت من ترسيخ نفوذ قوي لرجالاتها داخل مؤسسات الشرطة والقضاء والإعلام طيلة عقود، بنسج الخيوط العنكبوتية لقضية الفساد التي أمست تشكل أكبر تحد لحكومة حزب العدالة والتنمية المستمرة منذ اثني عشر عاما.

يتهم أردوغان شبكة المراكز التعليمية التابعة لغولن والتي تمكنت من ترسيخ نفوذ قوي لرجالاتها داخل مؤسسات الشرطة والقضاء والإعلام طيلة عقود بنسج الخيوط العنكبوتية لقضية الفساد

وانتقد أردوغان من يقفون وراء تلك القضية واصفا إياهم بـ "الحشرات"، منددا بما يمارسونه من تنصت على آلاف الهواتف بما فيها هاتفه الشخصي لحساب "الدولة الموازية"، التي عقدت العزم على استخدام الابتزاز لكسب النفوذ، والتي اعتبرها في مقابلة مع القناة السابعة بالتلفزيون التركي منتصف هذا الشهر "ذروة كل المشكلات وصاحبة الأرقام القياسية في تدبير المؤامرات" والأشد خطرا على حزب العدالة والتنمية من المحاولة القضائية التي سعت في عام 2008 إلى حظره بناء على اتهامات بالسعي لأسلمة الدولة التركية.

وبينما كان أردوغان يسعى في مطلع حكمه إلى استخدام شعار تصفية "الدولة العميقة" لتبرير إصلاحاته السياسية وتمرير تعديلاته الدستورية التي عززت من قبضته على السلطة وفاقمت من تحرشه بالإعلام وقلصت من النفوذ السياسي المتعاظم للقضاء والجيش، فيما أتاحت له ولحزبه تحقيق إنجازات اقتصادية واجتماعية أعانته على البقاء في الحكم لما يربو على عشرة أعوام، إذا به يبرر افتياته على حرية التعبير والحريات الفردية هذه الأيام من خلال قوانين جائرة وغير مرحب بها محليا ودوليا بمواجهة التحدي الجديد المتمثل في "الدولة الموازية"، بينما هو يسعى، في حقيقة الأمر، إلى ترميم شعبيته وتحسين الموقف التنافسي القلق لحزبه في الانتخابات البلدية المزمع إجراؤها نهاية الشهر الجاري.

ويبدو أن أردوغان، الذي نجح إلى حد كبير قبل عشر سنوات خلت في الترويج داخليا وخارجيا لفزاعة "الدولة العميقة" والتفنن في استثمارها بغية تحقيق التنمية الاقتصادية وإنجاز التحول الديمقراطي بما يعبد الطريق لالتحاق بلاده بالنادي الأوروبي، على نحو يفضي في نهاية المطاف إلى تثبيت دعائم وأركان حزب العدالة والتنمية في الحكم، يواجه اليوم تحديات جساما في مسعاه الراهن لتنفيذ برنامج مماثل عبر تسويق طرح "الدولة الموازية"، في وقت تلاحقه الانتقادات ونزيف الشعبية منذ أحداث ميدان تقسيم في يونيو/حزيران الماضي.

كما تحاصره أيضا الاتهامات بالتورط في الفساد هو وبعض من وزرائه وأفراد أسرته منذ أواسط شهر ديسمبر/كانون الأول الفائت.

وفى حين قوبلت إجراءات أردوغان الإصلاحية خلال السنوات الماضية بترحاب محلى ودولي لا يقبل التشكيك، أثارت القرارات التي يتخذها حاليا لتقويض "الدولة الموازية" موجة عارمة من الاستياء والنقد اللاذع في داخل البلاد وخارجها.

فبعد أن هرع لملاحقة رجال الشرطة والقضاء والإعلام المتابعين لقضية الفساد، أقدم قبل أسبوع واحد على إجراء الانتخابات البلدية، على حرمان أكثر من عشرة ملايين تركى من استخدام "تويتر".

ويأمل بذلك القرار أن يحجب أخبار الفضائح التي يتم تناقلها من خلاله ضده وضد حزبه، لاسيما وأن "تويتر" كان بمثابة الساحة التي استخدمها خصومه السياسيون في نشر التسجيلات التي أظهرت تورطه في قضايا الفساد، كما يتحكم في أكثر من نصف وسائل الإعلام التركية الحكومية والخاصة، بشتى صورها وأنواعها.

ورغم أن صديقه ورفيق دربه رئيس الجمهورية عبد الله غل قد أبدى استياءه من تلك الخطوة معلنا تبرؤه منها بعدما سبق وأبدى تأييده لكافة القوانين والإجراءات القمعية التي اتخذها أردوغان من قبل لإجهاض مساعي خصومه لإسقاطه، إلا أن أردوغان لم يتردد في التهديد بمنع المزيد من وسائل التواصل الاجتماعي مثل "فيسبوك" و"غوغل".

بينما قوبلت إجراءات أردوغان الإصلاحية خلال سنواته الماضية بترحاب محلى ودولي لا يقبل التشكيك، أثارت قراراته بتقويض "الدولة الموازية" موجة من الاستياء والنقد داخل البلاد وخارجها

وبرر حملته تلك بأنها تحركات احترازية ووقائية حيال تلك الوسائل بعدما أمعنت في التحيز وترويج تسجيلات تم الحصول عليها بشكل غير قانوني وتنصت هاتفي مزور، كما لم تتورع عن كيل الاتهامات لرئيس الوزراء وأسرته وشخصيات وطنية ومسؤولين سياسيين وحكوميين بالتورط في فضائح فساد، ما جعلها أداة للتشهير المنهجي والاغتيال المعنوي لتلك الشخصيات مجتمعة، الأمر الذي ينطوي على مساس واضح بأمن الدولة واستقرار الحكم.

وعلى المستوى المحلي، يبدو أن أطروحة "الدولة الموازية" وما تستتبعه من قرارات وسياسات تجافي الديمقراطية، لا تحظى بقبول غالبية الأتراك.

ففيما أكد وزير الجمارك والتجارة حياتي يازيجي بأن فرضية "الدولة الموازية"، التي طرحها رئيس الحكومة منذ الكشف عن فضيحة الفساد والرشوة غير واقعية وتحتاج إلى أدلة قاطعة لإثبات صحتها، انتقد رئيس حزب "الاتحاد الكبير" مصطفى داستجي إطلاق الحكومة على بعض الأفراد أو الجهات وصف "الدولة الموازية"، داعيا إياها إلى التوجه جنوب شرقي البلاد حيث حزب العمال الكردستاني "الإرهابي"، الذي يمثل الدولة الموازية بكل معنى الكلمة.

وفى الوقت الذي يرى مراقبون معارضون أن "الدولة الموازية" الحقيقية إنما تكمن في منظمة موازية متسربة في أجهزة الدولة لديها قوة ضاغطة على مجلس الوزراء تحضه على توظيف مقدرات الدولة لخدمة فصيل بعينه على حساب مستقبل البلاد والعباد، رفض الكاتب والأكاديمي التركي ممتاز أرتورك استخدام مصطلح "الدولة الموازية" كفزاعة لتبرير أي إجراءات أو سياسات قمعية تناهض الحريات وتؤثر على الديمقراطية من قبل حكومة أردوغان.

وفى مقال نشر له بصحيفة "زمان" التركية في ديسمبر/كانون الأول الماضي، رفض أرتورك إطلاق اسم "الدولة الموازية" أو "البديلة"، على كل من يعارضون وينتقدون سياسات وقراراتِ حكومة العدالة والتنمية.

وبينما اشترط أن تتاح لمن يوصف بوصف كهذا أسباب القوة التي تمنحه الجرأة للتفكير في فرض إرادته على الدولة، فقد ارتأى في حزب العمال الكردستاني نموذجا تقليديا للدولة الموازية أو البديلة، حيث يمتلك من عناصر القوة ما يمكنه من الاجتراء على السعي لفرض إرادته على الأرض.

وبدوره، أدلى عبد الله أوجلان (زعيم حزب العمال الكردستاني) بدلوه في هذا الجدل، حيث أطلق من محبسه بجزيرة إيمرالي عبر الرسالة التي قرأها إدريس بوليكن نائب رئيس الكتلة البرلمانية لحزب السلام والديمقراطية المقرب من حزب العمال الكردستاني وصف "الدولة الموازية" على ما تعيشه تركيا حاليا من ارتباك بجريرة فضيحة الفساد.

ويقترب أوجلان بطرحه هذا كثيرا مما يروجه الحزب الحاكم ووسائل الإعلام المقربة منه للخروج من مأزق فضيحة الفساد والرشوة التي تحقق فيها النيابة العامة، حيث يعتبر أوجلان أن تلك القضية وما تمخضت عنه من جدل الدولة الموازية الذي أضحى يستحوذ على المجال العام إنما تعد محاولة لتوجيه ضربة لمفاوضات السلام التي تجريها السلطات المعنية في أنقرة معه ومع قادة الحزب الكردستاني، بحسب تعبيره.

 
ويشير إلى أن هناك محاولات منذ فترة لإجهاض مفاوضات السلام مع الحكومة، تقوم بها قوى داخلية وخارجية لا يروق لها إقرار السلام في تركيا، على حد قوله.
يعتبر أوجلان أن قضية الفساد وما تثيره من جدل، إنما هي محاولة لتوجيه ضربة لمفاوضات السلام التي تجريها السلطات المعنية في أنقرة معه ومع قادة الحزب الكردستاني
وعلى الصعيد الخارجي، انهالت الانتقادات الأميركية، رسميا وشعبيا، على أردوغان جراء قراراته الأخيرة المناهضة للحريات، وهو ما تزامن مع اعتبار الأوروبيين تلك القرارات ردة حقوقية وديمقراطية تباعد بين أنقرة وحلمها بالانضمام للاتحاد الأوروبي.

ففي أثناء زيارة وزير العدل التركي بكير بوزداغ لبروكسل مؤخرا، تعذر عليه مقابلة مفوض الاتحاد الأوروبي لشؤون التوسيع والجوار الأوروبي ستيفان فول، ولم يتسن له سوى تقديم إفادة مباشرة إلى البرلمانيين الأوروبيين حول التطورات الداخلية في بلاده.

وتجنب بوزداغ خلال تلك الإفادة الحديث عن "الدولة الموازية"، التي لا يرى أن هناك أدلة دامغة أو قرائن موضوعية تثبت صحة أية ادعاءات بشأنها، متجاهلا بذلك مطلب رئيس الوزراء بالكشف عن هيكل موازٍ داخل تركيا للعالم كله، حتى أن عضو البرلمان الأوروبي لشرق إنجلترا عن الحزب الليبرالي الديمقراطي أندرو داف، الذي حضر الاجتماع مع بوزداغ، عبر عن أسفه بعدما طلب منه مرتين تفسيرا واضحا حول نظرية "الدولة الموازية"، التي يروج لها أردوغان، لكن بوزداغ تجاهل الطلب واكتفى بمطالبة موظفي القطاع العام في بلاده الامتثال لأوامر رؤسائهم والولاء لحكومتهم ودولتهم.

وانطلاقا مما ذكر آنفا، يبرز السؤال التالي: إذا كان أردوغان قد نجح، بدرجة عالية، خلال السنوات الاثنتي عشرة المنقضية من حكمه في توظيف واستثمار فزاعة "الدولة العميقة" لتكسير عظام خصومه السياسيين وتقليم الأظافر السياسية للقوى المناهضة له، على نحو خول حزبه ضرب الرقم القياسي في الاستمرار بالحكم إثر الفوز في الانتخابات البرلمانية مرات ثلاث متوالية وتشكيل الحكومة منفردا، فهل يتسنى له تكرار النجاح ذاته مجددا هذه الأيام فيما يتصل بأطروحة "الدولة الموازية"، أم أن التطورات المثيرة التي أحاطت مؤخرا بشعبية أردوغان وحزبه وحكومته في الداخل، علاوة على التحولات التاريخية والمفصلية التي ألمت بالمحيطين الإقليمي والدولي وألقت بظلال من الغيوم على الداخل التركي، سيكون لها قول آخر؟! تساؤل ربما تساعد نتائج الانتخابات البلدية المزمع إجراؤها نهاية هذا الشهر في الإجابة عليه.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.