تونس.. مسار وثورتان

A Tunisian activist puts up an election poster of Tunisian President Moncef Marzouki in a Tunis suburb, Tunisia, 03 November 2014. The presidential election is scheduled to be held in Tunisia on 23 November 2014, with 26 men and one woman running for the post.
وكالة الأنباء الأوروبية

مع اقتراب الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية في تونس يبدو المشهد التونسي منقسما إزاء شخصين يمثلان مشروعين يناقض أحدهما الآخر نظريا مع إمكانية التعايش بينهما عمليا.

بين منصف المرزوقي ويمثل وجه الثوار الذين أسقطوا الحاكم المستبد ومنظومة الفساد (مطلع العام 2011) ويوصف بأنه ممثل مشروع الثورة، والباجي قايد السبسي ويمثل وجه النظام القديم، ويوصف بأنه ممثل مشروع الثورة المضادة.

باتت تونس على أعتاب حسم مستقبلها للسنوات الخمس القادمة، إما باختيار المسار السياسي الواحد بمشروع واحد، إذا كان التصويت في انتخابات الدور الثاني لصالح السبسي الذي سيضمن حينها السلطتين التنفيذيتين: الحكومة والرئاسة، وبالتالي استعادة الخط الزماني لمشروع النظام القديم برموزه وشخوصه وسياساته وربما بممارساته.

تقف تونس على أعتاب حسم مستقبلها للسنوات القادمة، إما باختيار مسار سياسي واحد بمشروع واحد، وحينئذ سيضمن السبسي استعادة الخط الزماني لمشروع النظام القديم برموزه وشخوصه وسياساته أو باختيار مشروعين مختلفين، إن تم التصويت للمرزوقي

وإما باختيار مسار سياسي واحد ومشروعين إذا تم التصويت لصالح المرزوقي، وهو ما يؤدي في حال صعوبة التعايش، إلى تصاعد أسلوب "القبضة الحديدية" بين الرئاسة ورئاسة الحكومة في ظل تنازع الصلاحيات والاختصاصات، مما قد يقود إلى حالة من الانسداد السياسي وعدم الاستقرار المؤسساتي، وهو ما سيعيد المعركة بين المشروعين إلى الشارع والإرادة الشعبية في ظل صراع الإرادات.

على أن إعلان أغلب الأحزاب السياسية العلمانية من اليمين إلى اليسار -التي كان لها نصيب من التصويت الشعبي في انتخابات الدور الأول من الرئاسيات- عن اصطفافها إلى جانب السبسي ضد المرزوقي يترجم حالة الاستقطاب الأيديولوجي العمودي في تونس بين المشروعين الذي أدى إلى حالة من الانقسام المجتمعي.

وستزيد تلك الحالة من أهمية وسخونة وصعوبة معركة دخول قصر قرطاج، وهي عملية ذات أهمية بالغة في حسم مسألة هوية القيادة السياسية لتحديد وجهة تونس الخارجية، وهو اصطفاف ليس أساسه الطمع في غنم حقائب وزارية في تشكيلة نداء تونس فقط، بل كذلك العداء العميق المستحكم لكل ما هو عروبي وإسلامي وديمقراطي حتى وإن رفعت "الديمقراطية" شعارا في أدبياتها السياسية، على خلاف موقف حزب النهضة الذي صنع الاستثناء الحزبي في مشهد الرئاسيات في الدورين الأول والثاني، رغم ثقله الانتخابي، بعدم تقديم مرشح وبإعلانه الحياد وعدم توجيه القاعدة الحزبية للتصويت لصالح مرشح بعينه.

وإذا كان موقف حزب النهضة الذي فسره الغنوشي رئيس الحزب في تسجيل مصور بقوله "إن حركة النهضة تلتزم الحياد من أجل عدم تسخين الجو" و"إنها ليست جزءا من المعركة" و"لسنا في أي تنسيقية من التنسيقيات لهذا الطرف أو ذاك" يظهر أن هذا الموقف فرضه الواقع وأملته الضرورة.

فنتائج النهضة في الانتخابات التشريعية الأخيرة (2014) أظهرت خسارة الحزب لربع الأصوات قياسا بانتخابات (2011) وحصوله على المركز الثاني خلف نداء تونس الذي فاز بعدد مقاعد أهلته لتشكيل الحكومة، وجعلته في غنى عن إشراك حزب النهضة أو التحالف معه في ظل وجود بدائل أكثر توافقا، ولن تكون النهضة شريكا أساسيا بالضرورة، وبالتالي ليس أمامها في هذه الحالة إلا ممارسة دور رأس المعارضة تحت قبة البرلمان.

ولذا ترى النهضة أن "الحياد" أفيد لها من أن تكون جزءا من تجاذبات المشهد السياسي الملتهب، بما أن قواعدها التي انحازت للمرزوقي لن تعطيه في الدور الثاني أكثر مما أعطته في الدور الأول، كما أنها لا ترى مصلحة في استفزاز قيادات نداء تونس وقواعده وإعلان حرب سياسية وإعلامية لها ما بعدها في حال التصريح بدعمها للمرزوقي.

لا تريد النهضة القطيعة مع نداء تونس أملا في شراكة سياسية "ديمقراطية" رغم تصريح السبسي أنه سيتحالف مع  "الأقرب لنا وللعائلة الديمقراطية" والنهضة بطبيعة الحال هي الأبعد عن النداء في المنهج والفكر، وهذا موقف فرضه الواقع

وبالتالي لا تريد النهضة القطيعة مع نداء تونس أملا في شراكة سياسية "ديمقراطية" رغم تصريح السبسي عقب إعلان نتائج الانتخابات البرلمانية أنه سيتحالف مع الأحزاب "الأقرب لنا والعائلة الديمقراطية" والنهضة بطبيعة الحال هي الأبعد عن النداء في المنهج والفكر، وهذا موقف فرضه الواقع.

وأما ما أملته الضرورة فيتمثل في تجنب النهضة أن تكون وقود حملة نداء تونس ضد المرزوقي أو كبش العرس الرئاسي، فهي رغم إعلان حيادها التام رسميا كحزب، فان السبسي يصر بآلته الإعلامية، في ذروة نشوة الانتصار الجزئي "للثورة المضادة" المدعومة من قوى إقليمية ودولية على إقحام النهضة والتذكير بتوجهها الإسلامي في دعايته ضد المرزوقي، ذي السجل السياسي النظيف، لجرها إلى صراع "الفرز الأيديولوجي".

ويجري ذلك من خلال التأكيد في كل مرة على أنها من يقف خلف المرزوقي ويتهمها بأن "كوادرها هي من نظمت حملة المرزوقي "في انتخابات الدور الأول، وأن داعمي المرزوقي هم فقط من "النهضة والسلفيين الجهاديين وروابط حماية الثورة" بهدف تصنيف المرزوقي في خانة "التطرف الإسلامي" والتشويش على حملته إعلاميا لتخويف الناخب التونسي من خلال الإيحاء بأن التصويت للمرزوقي هو تصويت "للمتشددين والمتطرفين الإسلاميين"، هذا مرحليا، وأما مصيريا فالنهضة ربما تستحضر بقوة إمكانية تكرار "النموذج الانقلابي" للثورة المضادة على نتائج المسار الديمقراطي الذي صنعته شرعية الانتخاب الشعبي في مصر، مع اختلاف يكمن في "نوع" هذا الانقلاب، فهو وإن كان في مصر "خشنا" عن طريق الدبابة ففي تونس سيكون "ناعما جدا" عن طريق آلية الديمقراطية وبإرادة التونسيين الحرة عبر صناديق الاقتراع في حال فاز السبسي الذي سيجمع وقتها بين الحكومة والرئاسة.

فقد منح الدستور صلاحيات واسعة للجهاز التنفيذي، وهو ما يغذي هواجس قيادات حزب النهضة وباقي قوى الثورة، خاصة مع الموجة السياسية الارتدادية للدولة العميقة التي عصفت بالثورات العربية غير المحصنة، وجلاء حقيقة أن الدساتير في العالم العربي التي أفرزتها الثورات بعد سقوط الأنظمة مهما كانت مثالية في نصوصها، إلا أنها في ظل سلطة الثورة المضادة المستبدة المتمكنة من كامل الأدوات الإدارية والتنفيذية والمادية والإعلامية لن يكون لها قيمة مكافئة حتى للحبر الذي كتبت به، فهي وثيقة قابلة للتحوير والتغيير وحتى الإلغاء والانقلاب عليها.

وهذه الهواجس تجعل قوى الثورة مستنفرة للعمل على أن تؤول مفاتيح قصر قرطاج إلى مرشح الثورة المرزوقي "الديمقراطي" ليكون عقبة كأداء في وجه تحقيق الثورة المضادة لانقلاب "ناعم" كامل الأركان على الديمقراطية باسم الديمقراطية دون تكلفة باهظة تضمن عودة النظام القديم الذي ضمن شطر السلطة (رئاسة الحكومة)، وهو الجزء الأهم والأكثر تحكما وتأثيرا في الشأن الداخلي دستوريا.

 
انتخاب المرزوقي يمثل "ضمانة" لتقسيم أدوات السلطة وعدم استحواذ الثورة المضادة الكامل عليها، وإقامة توازن سياسي إيجابي وفاعل، وهو "صمام أمان" لمنع استفراد مشروع الثورة المضادة بالحكم وتغيير طبيعة النظام وعودة منظومة الاستبداد والفساد

ومع ذلك، فتونس (2015) لن تكون بحال تونس ما قبل الثورة، فأولوية التونسيين هي ضرورة الإسراع في إيجاد آليات وتقديم حلول وطرح برامج جادة لمواجهة المشكلات الاقتصادية الحادة من ارتفاع نسبة البطالة والتضخم واتساع رقعة الفقر وضعف النمو الاقتصادي وغلاء المعيشة وزيادة الدين الخارجي وتراجع مستوى الدخل الفردي وانخفاض مستوى عائدات السياحة والتوتر الأمني بوجود جماعات مسلحة متطرفة، والتعامل مع التطورات المستجدة إقليميا خاصة في ليبيا وتأثير مشكلاتها السياسية والأمنية على تونس، دون أن يكون ذلك على حساب تفريط التونسي في مكتسبات ثورته بالرجوع إلى حكم الاستبداد ومنظومة الفساد تحت أي عنوان أو مبرر يسمح بإحياء ممارسات العهد القديم.

فالعقلية الإقصائية والتفكير في الانفراد بالحكم وصناعة دكتاتورية جديدة لن تكون سهلة وميسورة في المتناول بعد التغيرات التي طبعت المشهد التونسي فكريا وإعلاميا وسياسيا واقتصاديا واجتماعيا.

كما ينتظر من حملة المرزوقي -الذي يمتلك تاريخا سياسيا ورصيدا نضاليا راسخا في سبيل الحريات السياسية ومقاومة الدكتاتورية وتعرية الفساد والدفاع عن حقوق الإنسان- أن توجه خطابها إلى فئة الشباب وتحفيزه على المشاركة، والتقرب إلى النخب الأكاديمية والفكرية وفئة المقاطعين، وأن تركز حضورها في مناطق الشمال والساحل حيث آلت غالبية الأصوات الانتخابية إلى غريمه السبسي، والعمل على كسر ثنائية الشمال الغني والجنوب الفقير التي كرسها النظام القديم.

فمنصف المرزوقي، يستحق أن يكون رئيسا مدنيا لتونس، فهو يحظى بالاحترام إقليميا ودوليا ويستطيع تحقيق تطلعات التونسيين والعرب لرئيس نظيف ومستقل فكريا يحمل رؤية للمستقبل ويمثل كل التونسيين، متجردا من كل مصلحة شخصية إلا مصلحة تونس، ومتحررا من كل أجندة سياسية إلا أجندة وحدة التونسيين.

كما أن موقع المرزوقي في قصر قرطاج هو بمثابة "ضمانة" تقسيم أدوات السلطة وعدم استحواذ الثورة المضادة الكامل عليها، وإقامة توازن سياسي إيجابي وفاعل، وهو "صمام الأمن" لمنع استفراد مشروع الثورة المضادة بالحكم وتغيير طبيعة النظام وعودة منظومة الاستبداد والفساد، وهو "آلية" قطع للطريق أمام إحياء "الجملكية" بتعبير المرزوقي في وصف نظام بن علي، أي أن يجلس رئيس برتبة ملك على كرسي الجمهورية التونسية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.