القاعدة من 11 سبتمبر إلى "الجهادي الفردي"

A Muslim man and a relative join thousands of Sydneysiders in laying flowers near the Lindt chocolate cafe in Martin Place following last nights dramatic siege in Sydney, Australia, 16 December 2014. Police stormed a central Sydney cafe after a fringe Islamist with a criminal record allegedly held customers and staff hostage at gunpoint for more than 16 hours. The suspected gunman, who came to Australia as a refugee from Iran in 1996, was killed as well as two hostages. EPA/DEAN LEWINS AUSTRALIA AND NEW ZEALAND OUT

الجيل الثالث
الذئاب المنفردة

تحجيم "النموذج الجديد"

لا تشي السيرة الخاصة بهارون مؤنس الذي احتجز مؤخراً رهائن في أحد مقاهي سيدني، بأي علاقة محتملة مباشرة مع تنظيم الدولة الإسلامية، ولا حتى مع جبهة النصرة أو فروع القاعدة المنتشرة في مناطق مختلفة من العالم، بقدر ما تؤشر على شخصية تعاني اضطراباً وسجلاً لا يخلو من خلفيات جنائية.

مع ذلك، فإن هذه الحادثة تدفع إلى سؤال في غاية الخطورة والأهمية: كيف يمكن منع مثل هذه الحالات المتكررة في الأعوام الأخيرة في الغرب، حين يقرر شخص ما القيام بعملية منفرداً بإطلاق الرصاص، أو تعلم تقنية الحزام الناسف أو العبوة الناسفة، عبر المواقع الإلكترونية المنتشرة التي توفر هذه التقنيات؟

ما يعظّم من خطورة هذا السؤال لدى المسؤولين والمراقبين الغربيين أن عملية سيدني تزامنت مع عمليات أخرى مشابهة لها إلى درجة كبيرة، في فرنسا، حين دهس سائق عددا من المارة، بينما طعن آخر رجال شرطة وهو يصيح "الله أكبر". وتشير بعض تقارير الشرطة إلى أن السائق يعاني من اضطراب نفسي، أي أنها حالة قريبة -من زوايا معينة- من نموذج هارون مؤنس.

كما هاجم مواطن كندي يدعى مايكل زيهاف بيبو (32 عاما) مبنى البرلمان الكندي وقتل جندياً قبل أن يتم القضاء عليه، وقبل ذلك بأيام هاجم شخص آخر بسيارته جنديين كنديين. وكلا المهاجمين في العمليتين من الذين منعتهم السلطات الكندية من السفر خشية الالتحاق بتنظيم الدولة الإسلامية.

من قاموا بتلك العمليات جميعاً لا توجد إشارات أو أدلة واضحة على علاقة مباشرة لهم بتنظيم الدولة أو القاعدة، وإن كان بعضهم ظهرت عليه علامات "التشدد الديني"، وآخرون يعانون من اضطرابات نفسية، فأساليب القاعدة التقليدية في التجنيد والدعاية والإعلام لم تعد هي التي تفسّر العمليات والحالات الجديدة التي يقترب أغلبها من التأثر العام بهذا الخطاب والدعاية السياسية، نتيجة ظروف اجتماعية أو نفسية أو حتى سياسية.

الجيل الثالث
لم تأتِ هذه العمليات وليدة اجتهادات فردية محضة، وليست منبتة عن سياق التحولات التي حدثت في إستراتيجية التيارات السلفية الجهادية العالمية خلال الأعوام الماضية، إذ سبقتها عمليات أخرى تأخذ بمبدأ ما تسمى أدبيات القاعدة "الجهاد الفردي"، فقد قام نضال مالك (5 نوفمبر/تشرين الثاني 2009) -وهو طبيب نفسي عسكري من أصول فلسطينية- بقتل 13 جنديا أميركيا وأصاب أكثر من ثلاثين آخرين في قاعدة تكساس العسكرية بأميركا، ثم اكتشفت الأجهزة الأمنية هناك وجود صلة بينه وبين الدكتور أنور العولقي اليمني عبر شبكة الإنترنت.

هذه العمليات لم تأت وليدة اجتهادات فردية محضة، وليست منبتة عن سياق التحولات التي حدثت في إستراتيجية التيارات السلفية الجهادية العالمية خلال الأعوام الماضية، إذ سبقتها عمليات أخرى تأخذ بمبدأ الجهاد الفردي كما تسميه أدبيات تنظيم القاعدة

العولقي (قتل في غارة أميركية يوم 30 سبتمبر/أيلول 2011) أحد أبرز المنظّرين لقاعدة الجزيرة العربية باليمن، قام بدور فاعل خلال الأعوام الأخيرة بنشر خطاب القاعدة في أوساط المسلمين في الغرب، مستثمراً إلمامه باللغة الإنجليزية ومعرفته المباشرة بالمجتمعات الغربية، وأصدر مجلة متخصصة باللغة الإنجليزية تخاطب هذه الشرائح الواسعة في المجتمعات الغربية.

في الفترة نفسها كانت محاولة عمر الفاروق النيجيري تفجير طائرة ركاب في ليلة عيد الميلاد (ديسمبر/كانون الأول 2009)، ثم تخطيط (مايو/أيار 2010) فيصل شهزاد الباكستاني الأميركي لتفجير ساحة تايمز سكوير في نيويورك، الأمر الذي ولّد قناعة لدى الباحثين والمراقبين بأننا أمام تحول مهم في إستراتيجيات القاعدة يقوم على مبدأ "العمل الفردي"، ينبئ عن ولادة "جيل جهادي" جديد يعتمد بدرجة رئيسية وأساسية على التخطيط البسيط للعمليات، بما لا يحدث آثارا شبيهة بتلك التي حدثت في تفجيرات 11 سبتمبر/أيلول 2001 في الولايات المتحدة، أو قبلها السفينة الحربية كول باليمن، أو حتى تفجير السفارات في أفريقيا.

العمل الجديد يعتمد بدرجة كبيرة على التجنيد والتأثير من خلال شبكة الإنترنت والمنتديات الجهادية التي أصبحت تتخصص في الآونة الأخيرة في تجنيد الشباب في الغرب، بعد أن تراجعت قدرة القاعدة بعد الحرب الأفغانية وما بعدها على القيام بعمليات معقدة ونوعية، نتيجة الضغوط والرقابة الأمنية المشدّة في الغرب، والرقابة الحثيثة لكل من له علاقة مباشرة بها أو من سافروا إلى مناطق فيها انتشار للجماعات المرتبطة بها، سواء في العراق أو باكستان أو أفغانستان أو اليمن والصومال.

بدأت الأجهزة الأمنية الغربية بالتعامل مع هذا "النمط" الجديد المختلف من التهديد، وطوّرت إستراتيجيتها نحو العمل الوقائي وتكثيف الجهود عبر شبكة الإنترنت، وتمكنت من إحباط محاولات مفترضة، والإيقاع مسبقاً بمرشحين للقيام بهذه العمليات، كما حدث في حالة الشاب الأردني في الولايات المتحدة حسام الصمادي الذي استدرجه مكتب المباحث الاتحادي للقيام بعملية متوهمة، للإيقاع به قانونياً ومحاكمته بالإرهاب.

غير أن هناك شكوكاً كبيرة تحوم حول مدى قدرة هذه الأجهزة على مواجهة هذا الخطر، فلن يكون أمراً ممكناً بصورة كاملة لأي جهاز استخباري أو أمني أن يتعامل مع "النوايا الفردية"، ويستطيع ملاحقة كل المرشحين المحتملين، حتى مع تطوير قدراته في التجسس والاختراق والتنصت، خاصة أن هذه الجماعات والشبكات طوّرت أساليبها في التورية والالتفاف على الإجراءات الأمنية، في الوقت الذي زادت بدرجة مشهودة قدرتها على تجنيد الشباب، ليس فقط ذوي الأصول المسلمة والعربية، بل أولئك الذين اعتنقوا الإسلام من أبناء هذه المجتمعات، كما بدا واضحاً في العمليات الأخيرة في أستراليا وفرنسا وكندا!

الذئاب المنفردة
شهدت قدرة القاعدة ثم تنظيم الدولة الإسلامية على تجنيد من يعيشون في المجتمعات الغربية تطوّراً كبيراً ونوعياً في الأعوام الأخيرة، وأصبحت كل من سوريا والعراق مركزاً كبيراً للمهاجرين إلى أراضي تنظيم الدولة، إذ تشير التقديرات الأمنية الغربية إلى قرابة ثلاثة آلاف شخص قدموا من الغرب، نسبة منهم ممن اعتنقوا الإسلام حديثاً.

ظاهرة الذئاب المنفردة ولّدت مخاوف شديدة في الغرب، سواء من عمليات التجنيد أو في كيفية التعامل مع العائدين من تلك المناطق

لم يعد العامل الثقافي "أو اللغة" عائقاً أمام قدرة تنظيم الدولة على الوصول إلى شريحة واسعة ممن يعيشون في الغرب، إذ أصبح هناك فريق متخصص في الجهاز الإعلامي للتنظيم ممن عاشوا في الغرب ويتقنون اللغات المختلفة، يصوغ الرسالة الإعلامية ويخاطب تلك الشريحة بلغتها وثقافتها، ويتقن التعامل مع شبكة الإنترنت، وأصبحوا يظهرون في تنفيذ العمليات. كما أصدر التنظيم مجلة "دابق" باللغة الإنجليزية، بينما تتولى مجموعة من الشباب والنساء التجنيد عبر شبكة الإنترنت والدعوة إلى أفكار التنظيم وحث المسلمين في الغرب على الالتحاق بالتنظيم في "أرض الدولة" في كل من سوريا والعراق.

ولّدت هذه الظاهرة -التي أصبح يطلق عليها في الأدبيات الجديدة "الذئاب المنفردة"- مخاوف شديدة في الغرب، سواء من عمليات التجنيد أو في كيفية التعامل مع العائدين من تلك المناطق، وطوّرت الدول جهودها العالمية والإقليمية لمتابعة عمليات التجنيد في المجتمعات وعبر شبكة الإنترنت، وتمكنت من منع أفراد من السفر واعتقال آخرين، إلا أنها ما تزال تبحث عن سر "الجاذبية" في نموذج الدولة، التي تدفع بشباب وفتيات إلى ترك المجتمعات الغربية المتقدمة وعائلاتهم وجامعاتهم وأعمالهم والهجرة إلى أراضٍ يسيطر عليها التنظيم، في رحلة صعبة وظروف أكثر صعوبة لا تمت إلى الحياة الاجتماعية في الغرب بصلة!

صعود تنظيم الدولة وسيطرته على أراض واسعة في العراق وسوريا وبروز قوته العسكرية وقدراته على التجنيد والدعاية، كل ذلك حوّل من مسار الإستراتيجيات الغربية والعربية وأعاد تشكيل الأولويات لتصبح مواجهة التنظيم، ثم إعلان الحرب الشرسة عليه -عسكرياً وأمنياً وإعلامياً- القضية الأكثر أهمية في منظور هذه الدول.

ورغم الجهود الدولية والإقليمية، وبناء تحالفات دولية وإقليمية لمحاصرته وتوجيه ضربات جوية، ودعم القوات البرية في المعارك العسكرية، ورغم مضاعفة الجهود الغربية لاحتواء تنامي نفوذ وتأثير التنظيم في الأوساط الاجتماعية المسلمة في الغرب والحد من مصادر التهديد والخطر المتولدة من ذلك، فإن المعطيات الراهنة لا تؤشر على تراجع ملموس في نشاط هذا النموذج الجديد وانتشاره، إذ بدأت ملامح التأثر به تبدو واضحة في أكثر من منطقة تشهد حالة من الفوضى والعنف وانهيار الأمن، مثل سيناء وليبيا واليمن، فقامت مجموعات بمبايعته وإعلان الولاء لزعيمه أبو بكر البغدادي الذي أعلن نفسه خليفة للمسلمين.

تحجيم "النموذج الجديد"
مع بداية "الحرب العالمية" -كما يطلق عليها عدد من السياسيين- على تنظيم الدولة الإسلامية، دعا الناطق باسم التنظيم أبو محمد العدناني أنصاره ومؤيديه إلى مهاجمة مصالح ورعايا الدول التي تشارك في الحرب أينما كانت. وبالفعل بدأت مؤشرات الاستجابة للنداء بالظهور عبر اختطاف فرنسي في الجزائر وذبحه على طريقة التنظيم، ثم جاءت العمليات الأخيرة التي تحمل في ثناياها معالم انتشار هذه العدوى أو الفيروس وما يشكله ذلك من خطورة كبيرة وتحدٍّ غير مسبوق للأجهزة الأمنية، مهما بلغت درجة تطور تقنياتها ووسائلها في ملاحقة التنظيم وأنصاره، والمتأثرين بما يطرحه من خطاب ونموذج جديد في الشبكات الجهادية العالمية والمحلية والإقليمية.

الحرب الراهنة على تنظيم الدولة تدور في الحلقة المفرغة نفسها، ولا تتعلم -أو تتجاهل- الدرس المهم لمواجهة ذلك، وهو أن نمو هذه الشبكة الراديكالية والنماذج المرتبطة بها لا ينفصل عن الأزمة التاريخية السياسية في المنطقة العربية

هذه التطورات النوعية والجذرية في طبيعة الصراع مع تنظيم الدولة والنمط الجديد من عمليات "الذئاب المنفردة"، دفعت بالدول الغربية والعربية إلى التفكير في منح درجة أكبر من الاهتمام والأولوية للجانب الإعلامي والأيدولوجي في مواجهة التنظيم، عبر تعزيز دور الأجهزة المختصة بالمواجهة الأيدولوجية في وزارة الخارجية الأميركية وفي الدول الأوروبية في محاولة تفنيد خطاب تنظيم الدولة وحججه، وهي المهمة التي تبناها الملك الأردني عبد الله الثاني، فكرّس زياراته في الأيام الأخيرة لكل من مصر والسعودية والبحرين لحشد الدعم والتأييد لعقد مؤتمر في مواجهة الإرهاب، يتم الإعداد والتخطيط لعقده في القاهرة ليتبنّاه الجامع الأزهر بوصفه المؤسسة الدينية العريقة في العالم العربي.

هل ستنجح هذه الجهود وتفلح في محاصرة ظاهرة "الذئاب المنفردة" والحد من خطورة الرسالة الإعلامية والسياسية للتنظيم مستقبلاً بالتوازي مع الحرب العسكرية والأمنية؟

تبدو الفجوة كبيرة في هذه الجهود، والمفارقة الصارخة أن هذه الجهود تقفز عن الظروف الموضوعية التي تمنح رسالة التنظيم قوة وحيوية وجاذبية. وإذا كان صحيحاً أن هذه الرسالة تعتمد على جانب أيدولوجي وفقهي، فإنه يبدو عاملا ثانوياً أمام الشرط السيسيولوجي والسياسي الموضوعي، فطالما أن هناك مظلومية سنية واختلالاً في ميزان القوى الإقليمي والعالمي يسير في صالح النفوذ الإيراني، وشعور المجتمعات السنية في العراق وسوريا ولبنان بالمظلومية والقلق الوجودي على هويتها، فستبقى شروط قوة النموذج الذي يقدمه التنظيم متوافرة، حتى لو تم إضعافه عسكرياً.

المفارقة الأخرى تتمثل في أن أحد أهم أسباب صعود التيار الراديكالي في المنطقة العربية يتمثل في الأنظمة السلطوية وغياب الديمقراطية وحرية الرأي والحريات العامة، والشعور بفقدان العدالة الاجتماعية والسياسات الاقتصادية التي ضربت الطبقة الوسطى، وهي ظروف ناجمة عن سياسات الأنظمة العربية التي تركب اليوم موجة مكافحة الإرهاب، فكيف يمكن لمن يساهم في إنتاج هذا النموذج أن يكون شريكاً إستراتيجياً في محاربته؟!

الأمر نفسه ينطبق على سياسات الدول الغربية -وتحديداً الولايات المتحدة- التي تنظر إليها الشعوب العربية بوصفها معادية ومتواطئة مع اليمين الإسرائيلي والأنظمة السلطوية العربية، وهي القناعة الشعبية التي تعزّزت مع ترميم الصفقة الأميركية مع الأنظمة الأوتقراطية العربية في الحملة الإقليمية المضادة للثورات الديمقراطية العربية.

في الخلاصة، تدور الحرب الراهنة على تنظيم الدولة -والجهود العالمية والإقليمية والمحلية لمكافحة هذا النموذج وقدرته على توليد إستراتيجيات وتكتيكات جديدة- في الحلقة المفرغة نفسها، وهي لا تتعلم -أو ربما بعبارةٍ أدقّ تتجاهل- الدرس المهم لمواجهة ذلك، وهو أن نمو هذه الشبكة الراديكالية والنماذج المرتبطة بها لا ينفصل عن الأزمة التاريخية السياسية في المنطقة العربية، بينما يكمن المفتاح الذهبي -وربما الوحيد- لمواجهة ذلك والتغلب على ظاهرة الذئاب المنفردة وغيرها من الظواهر، في مواجهة الأسباب الحقيقية لنموها وصعودها، وذلك عبر بسط الديمقراطية والعدالة والبحث عن مستقبل أفضل وضوء في نهاية النفق الذي تعيش فيه هذه المجتمعات!

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان