رئاسيات تونس.. هل تصحح المسار؟
ما بين الاستحقاقين
الانتخابات وحقيقة الانقسام
الانتخابات وتصحيح المسار
ذهب التونسيون للدور الثاني من الانتخابات الرئاسية في منافسة قوية بين مرشح نداء تونس الباجي قائد السبسي والمرشح المستقل محمد منصف المرزوقي. وقد كانت الهيئة العليا المستقلة للانتخابات قررت أن يكون موعد الاقتراع يوم 21 ديسمبر/كانون الأول 2014، بعد فراغ المحكمة الإدارية من النظر فيما قُدم من طعون تعلقت بتجاوزات يرتقي بعضُها إلى درجة الجريمة الانتخابية.
وتأتي الانتخابات الرئاسية تالية للانتخابات التشريعية، ورغم ما بين الاستحقاقيْن من فروق فإن الانتباه انصرف إلى نتائجهما السياسية دون دلالتهما العميقة على مسار ثورة الحرية والكرامة.
ما بين الاستحقاقين
يقوم إجماع حول أهمية الانتخابات الرئاسية في رسم مستقبل البلاد. وغالبا ما يُصوَّر الوضع، على أنه توتر بين مصيرين: نجاح مسيرة البناء الديمقراطي والاستعداد لاستحقاقات تونس الجديدة، أو عودة قوية للقديم بهيمنة حزبه على الرئاسات الثلاث. وما يمكن أن يفتحه هذا التغول من اختلال في ميزان القوى يهدد الديمقراطية الناشئة. غير أن المقارنة بين الانتخابات التشريعية والانتخابات الرئاسية من شأنه أن ينبهنا إلى مسائل مهمة تساعد على تبين مستقبل ما يجري في بلادنا على وجه أدق.
لعنصر التخويف أثر على نتائج الانتخابات في الديمقراطيات العريقة كما في الديمقراطيات الناشئة، ويبدو خطره على الديمقراطية الناشئة أكبر لأن التخويف من الخصم في سياق الحملات الانتخابية يمس أساسيات النمط المجتمعي |
لعنصر التخويف أثر على نتائج الانتخابات في الديمقراطيات العريقة كما في الديمقراطيات الناشئة، ويبدو خطره على الديمقراطية الناشئة أكبر لأن التخويف من الخصم في سياق الحملات الانتخابية يمس أساسيات النمط المجتمعي. في حين يبدو مستبعدا في الديمقراطيات الراسخة لأن نتائج الانتخابات لا تغير نمط الحكم وبناءه السياسي.
وفي الانتخابات التشريعية التي دارت في 23 نوفمبر/تشرين الثاني 2014 وفاز بها حزب نداء تونس، كان التخويف متبادلا بين الحزبين الكبيرين، غير أنه كان في حملة حزب النداء أقوى، وكان تركيز حزب النهضة في حملته على دور الاستحقاق الانتخابي في إنجاح مسيرة الديمقراطية.
وفي هذه الأجواء الانتخابية تمت استعادة الاستقطاب الأيديولوجي، وعمد حزب النداء إلى إظهار أن المنافسة معركة بين نموذج حداثي تونسي وبين نموذج سياسي أيديولوجي معاد في جوهره للبورقيبية. وكان للتصويت الذي لجأت إليه الأحزاب المنحدرة من العائلة التجمعية في مواجهة حركة النهضة أثر حاسم على نتائج الانتخابات.
لم تحجب هيمنة التجاذب الأيديولوجي تماما أبعاد الصراع الأخرى، وكان للاستحقاق الاجتماعي حضوره وإن لم يكن قويا. ومثلت الانتخابات الرئاسية مجالا لكي يبرز ويحتل الصدارة. وهذا ما يدفع إلى استنتاج أن الانتخابات الرئاسية ليست امتدادا للانتخابات التشريعية، رغم تتاليهما في الزمن، وأن الوقوف عند هذه الفروق سيكشف عن مستويات مهمة تَجْلُو خصوصية الثورة في تونس كما تُبرز المراحل التي مرت بها وما شهدته مسيرتها في السنوات الأربع هذه من "انحراف".
يتوقف الملاحظون عند مفارقة تنبثق عند مقارنة نتائج حزب المؤتمر من أجل الجمهورية الضعيفة في الانتخابات التشريعية ونسبة الـ33% التي تحصّل عليها محمد منصف المرزوقي مؤسس الحزب ورئيسه الشرفي وأهلته للمرور إلى الدور الثاني. وسرعان ما يهرعون إلى أن من أحدث الفارق هو انتصار قواعد حركة النهضة للمرزوقي حين رأت فيه ضامنا للحريات ومانعا للتغول وعودة الاستبداد، لا سيما وقد عرفت فترة حكمه ارتفاعا قياسيا لمنسوب الحرية، ولم تشهد محاكمة صحفي واحد أو إغلاق قناة أو إذاعة أو إيقاف صحيفة رغم ما طاله من تعريض وتجريح خارجيْن عن تقاليد العمل الصحفي الإعلامي ومُجاوزيْن لكل خلق ولكل ما تواضع عليه التونسيون من تقاليد لتنظيم اختلافهم.
وكان لهذه المفارقة أثرُها على السبسي الذي تصور أنه كان بوسعه الحصول على الأغلبية منذ الدور الأول، فاعتبر أن من صوّت لمنافسه هم من النهضويين والسلفيين والمتطرفين. ولم ينتبه إلى أنه وقع في خطيئة تقسيم التونسيين في مرحلة سياسية هشة، فضلا عما حفّ بكلامه من ضيق بالمنافس والمسارعة إلى شيطنته، وكل ذلك علامة على ضُمور الثقافة الديمقراطية وضعف المناعة من الاستبداد.
ولا خلاف في أن لأصوات أنصار النهضة تأثيرا على نتائج الانتخابات الرئاسية، ويمكن تبينها بعملية حسابية بسيطة تقارن بين اتجاهات التصويت في الاستحقاقيْن. هذا من زاوية انتخابية صِرْفة. ولكن للأمر صلة بصميم السياسة وبقاعدة الفرز التي تبدلت، فقد غلب عليها في الانتخابات التشريعية البعد الهوياتي، في حين برز التنموي الاجتماعي في الانتخابات الرئاسية رغم اقتصار صلاحيات الرئيس على الدفاع والأمن والسياسة الخارجية.
الانتخابات وحقيقة الانقسام
تتميز تونس بوحدة عرقية ومذهبية ولسانية قل نظيرها في المجال العربي، وتُعتبر هذه الوحدة إلى جانب الموقع الجغرافي من عوامل النجاح الأساسية في بناء تجربة متوازنة في الديمقراطية والعدالة والرفاه الاجتماعي. غير أن عامل الانسجام هذا لا يفسر حيوية المجتمع التونسي المعاصر ولا يفسر خاصة اندلاع فاتحة ثورات الألفية الثالثة فيه. وتعرف تونس مستويين من الانقسام، أشرنا إليهما في مقالات سابقة:
انقسام في مستوى النخبة يُلَخص في ثنائية إسلامي/علماني. وكانت ملامح هذا الانقسام الأولى مع بدايات الحركة الإصلاحية التي انطلقت من مقارنات أملتها الجغرافيا وعلاقات التبادل مع ضفة المتوسط الشمالية الناهضة. وتأكد هذا مع المرحلة الاستعمارية وتجربة الدولة الغنائمية المسماة وطنية.
لم تندلع الثورة في المجال السياسي الرسمي بأحزابه ونخبه السياسية، وإنما تفجرت في المجال السياسي الهامشي، ولم يكن يخطر ببال الفاعلين فيه وهم يدفعون ضريبة الدم بأن فعلهم من السياسة وإليها، وأنهم أفضل من يمثلها |
ولقد كانت هناك محاولة لتجاوز هذا الانقسام للالتقاء على أرضية مقاومة الاستبداد، فكانت حركة 18 أكتوبر/تشرين الأول 2005 محاولة جادة لتوحيد الجهود. وأمكن التوصل إلى تحرير ورقات حول النظام السياسي والديمقراطية وطبيعة الدولة وقضايا المرأة وحقوق الإنسان. غير أن ما أتاحته الثورة من منسوب عال للحرية ومن شروط الاختيار الحر كانا مقدمة إلى عودة الاستقطاب الأيديولوجي.
وكان فوز حزب النهضة بالأغلبية في انتخابات المجلس الوطني التأسيسي سببا كافيا لكي تختل الأولويات. وبدل أن يقوم الوضع الجديد على توافق يجمع قوى المنظومة الجديدة لتسيير المرحلة وتأسيس الديمقراطية، تشبثت القوى التي قدرت أنها خسرت الانتخابات بأن تكون في المعارضة.
وبذلك كان الانزياح المهلك من تسيير/تأسيس إلى حكم/معارضة في مرحلة سياسية هشة، فتعمق انقسام الطبقة السياسية ومن خلاله تسربت المنظومة القديمة واحتلت مكانها بين أحزاب المعارضة، واستطاعت في وقت وجيز أن تتذرع بها لتحصين نفسها والعودة السريعة إلى الواجهة السياسية. ولقد كان هذا هو الهدف الأساسي من قيام جبهة الإنقاذ بقيادة نداء تونس. وعنها انبثق اعتصام الرحيل.
ثم كان الحوار الوطني مؤشرا على تغير في ميزان القوى لصالح المنظومة القديمة التي تمكنت من توسيع نطاق التوافق ليشملها بعد أن كان مقتصرا على القوى المحسوبة على الثورة. وكانت النتيجة السياسية لهذا التحول في ميزان القوى إفلات المنظومة القديمة من المحاسبة واستعدادها للدخول منافسا كامل الحقوق. وتُوج المسار بفوز حزب النداء بالأغلبية في انتخابات 26 أكتوبر/تشرين الأول 2014 التشريعية.
وأما الانقسام الثاني فمن طبيعة اجتماعية، فتونس منقسمة عموديا إلى ساحل وداخل ومركز وهامش. وانعكس هذا الانقسام على مجالات الاقتصاد والسياسة فصار الاقتصاد صنفين رسميا وموازيا، والسياسة مجاليْن رسميا وهامشيا.
لم تندلع الثورة في المجال السياسي الرسمي بأحزابه ونخبه السياسية. وهو مجال ضعفت صلته بالسياسة رغم توهم الفاعلين فيه بأنهم منها وإليها وأفضل من يمثلها. الثورة تفجرت في المجال السياسي الهامشي، ولم يكن يخطر ببال الفاعلين فيه وهم يدفعون ضريبة الدم بأن فعلهم من السياسة وإليها وأنهم أفضل من يمثلها.
الانقسام الاجتماعي كان سبب اندلاع الثورة وأصبح الغاية التي تجري إليها، غير أن تجربة التأسيس عدلت عن هذه الغاية واختلت فيها الأولويات فغلب "الهوياتي" على التنموي. وبقي الشرخ الاجتماعي على حاله ولم تنفع معه نية التمييز الإيجابي للمناطق المحرومة.
الانتخابات وتصحيح المسار
من الطبيعي أن يكون الدور الثاني من الانتخابات الرئاسية قائما على الاستقطاب، إذ المنافسة بين مترشحين. ولكن للاستقطاب بين السيدين المرزوقي والباجي نُكهته الخاصة وأساسه المميز ودوره الهام في تحديد مستقبل الديمقراطية ومآل الثورة.
ويتوضح هذا حين ننظر في سيرة المرزوقي. فقد غلب على الرجل الطابع الحقوقي والتوجه التحرري المتخلص من الإرث الأيديولوجي للفكر العربي المعاصر في صيغته الماركسية والقومية والإسلامية.
فقد كان الرجل عروبيا غير قومي ويساريا غير ماركسي ومؤمنا غير إسلامي. وتميز خطابه السياسي عن المشهد الحزبي في الطبقة السياسية بإعلانه أن منطق المعارضة قد استنفد أغراضه مع نظام لايَصْلُح ولايُصْلَح، وأنه لا بديل عن المقاومة المدنية نهجا والعصيان المدني أسلوبا. وقد كان كثيرون، زمن الاستبداد واهتراء الطبقة السياسية وانسداد آفاق النضال السياسي، لا يجدون مصداقية لمثل هذه الدعوات. ولكن الثورة كانت عصيانا مدنيا قاده الهامش المفقر وأطاح ببن علي.
لم يَدّع المرزوقي أنه قاد هذا التمرد، ولكن الذي لا بد من الاحتفاظ به في كل هذا هو هذه المفارقة المهمة بين انتماء الرجل إلى الطبقة السياسية التقليدية أو ما أسميناه بالمجال السياسي الرسمي، من ناحية، وتماهي خطابه مع حركة المجال السياسي الهامشي وتقاطعه مع مطلبه المواطني الاجتماعي، من ناحية أخرى.
تأتي الانتخابات الرئاسية لتصحح المسار وما شهده من انحراف مبكر، وتعيد الفرز إلى قاعدته السياسية الاجتماعية، وذلك لحماية المسار الديمقراطي مما يتهدده من مخاطر التقسيم السياسي للناخبين بين إرهابيين وديمقراطيين، ومواجهة الاستحقاقات الاجتماعية الملحة |
وبذلك مثل هذا الخطاب محاولة جادة لرأب الصدع الاجتماعي. وهذا ما يفسر نجاح حزبه المؤتمر من أجل الجمهورية بحصوله على المرتبة الثانية في انتخابات التأسيسي حين كان الفرز على قاعدة الاستحقاقات الاجتماعية للثورة، وهو أيضا ما يفسر تأخر الحزب ومعظم الأحزاب الديمقراطية الاجتماعية في الانتخابات التشريعية الأخيرة حين نجح حزب النداء في أن يجر المنافسة الرئيسية بينه وبين النهضة إلى مجال الاستقطاب الثقافوي، رغم أهمية برامج الأحزاب وما تقترحه من حلول.
تأتي الانتخابات الرئاسية لتصحح المسار وما شهده من انحراف مبكر، وتعيد الفرز إلى قاعدته السياسية الاجتماعية، وذلك لحماية المسار الديمقراطي مما يتهدده من مخاطر التقسيم السياسي للناخبين بين إرهابيين وديمقراطيين، ومواجهة الاستحقاقات الاجتماعية الملحة، وفتح آفاق على حلم تونسي مداره على وحدة البلاد والشعب وتحقيق النهوض الشامل وتوفير الشروط المثلى للانتصار التاريخي على الإرهاب وصناعه.
يُنتظَر من هذه الحشود الملتفة حول المنصف المرزوقي أن تحقق غاياتها، فتمنع التغول بإقامة التوازن بين مؤسسات الدولة وترسيخ البناء الديمقراطي. وهي في نظر البعض ظاهرة عرضية ستنتهي بانتهاء الاستحقاق الانتخابي وأجواء المنافسة الساخنة، فالثورة لا تبحث عن قيادة بقدر ما تبحث عن بوصلة وبرنامج.
ولكنها عند البعض الآخر مؤشر على تيار اجتماعي مواطني على يسار الحركة الاجتماعية قد يتأطر في شكل مؤتمر وطني يطبع المرحلة القادمة، وتكون له مساهمة في إعادة تشكيل الحياة السياسية وبناء المشروع الوطني.
فهل لنا أن نقول: أيا كانت نتائج الانتخابات فإن التوازن الرادع قام وحركة التصحيح انطلقت؟
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.