مأزق الخليج يجسد محنة العرب

شعار مجلس التعاون الخليجي - الموسوعة
 
أزمة الفراغ العربي كانت حاضرة في اجتماع القمة الخليجية الذى انعقد في الدوحة.
 
(1)
 
في مؤتمر "حوار المنامة" الذى شهدته البحرين في 6 ديسمبر/كانون الأول الحالي، ألقى ولى عهد البحرين كلمة قال فيها إن مصر هي العمق الإستراتيجى للعرب، وفى كلمته تحدث وزير الخارجية المصري السيد سامح شكري عن الحاجة الملحة إلى إقامة نظام إقليمي عربي جديد. لكن الحدث الأهم الذى استأثر بالأضواء لم يكن اجتماع ذلك الحشد الذى ضم 50 من وزراء الخارجية والقيادات السياسية والأمنية العربية والأجنبية.

رغم أن توقيع اتفاقية إقامة قاعدة عسكرية بريطانية في البحرين حظي بمتابعة كبيرة، فإن وجود قواعد عسكرية غربية في منطقة الخليج لم يعد خبرا من الأساس، وإنما غدا أحد الظواهر الطبيعية التي لم تعد محل استياء أو استنكار

ذلك أنه أثناء انعقاد المؤتمر، وقعت البحرين اتفاقية لإقامة قاعدة عسكرية بريطانية على أراضيها، جنبا إلى جنب مع قاعدة الأسطول الخامس الأميركي. واعتبر ذلك حدثا مثيرا، لأنها المرة الأولى أن تعود بريطانيا عسكريا إلى المنطقة العربية منذ انسحابها من شرق السويس في العام 1971، وهو ما أعلنه صراحة وزير الدفاع البريطاني مايكل فالون حين قال عقب التوقيع إن بلاده ستعود إلى التمركز في الخليج من جديد، ليكون لها وجودها الدائم وبعيد المدى، لاهتمامها بالأمن والاستقرار ومواجهة التهديدات التي تتعرض لها المنطقة.

وبمقتضى الاتفاقية سيكون بمقدور بريطانيا أن ترسل سفنا أكبر لتعزيز استقرار الخليج. وهو ما أكده وزير خارجية البحرين الذى قال إن الخطوة التي اتخذتها بلاده تؤكد مجددا تصميمها على الحفاظ على الأمن والاستقرار الإقليمي في مواجهة التحديات التي تتعرض لها.

في التفاصيل ذكرت التقارير الصحفية أن البحرين هي التي طلبت إقامة القاعدة، وأنها تكفلت بإقامة المنشآت اللازمة لها التي ذكر أنها في حدود 23 مليون دولار، في حين أن بريطانيا ستتكفل بمصروف التشغيل.

 
(2)
 
الخبر ليس مفاجئا تماما، والبحرين لم تنفرد بطلب إقامة قاعدة عسكرية إضافية على أراضيها والتكفل بنفقات إنشائها. بل إن وجود قواعد عسكرية غربية في منطقة الخليج لم يعد خبرا من الأساس، وإنما غدا من الظواهر الطبيعية التي لم تعد محل استياء أو استنكار، فمنذ انسحاب بريطانيا من المنطقة في العام 1971، تطلعت واشنطن إلى ملء الفراغ الذى تركته، وكان النفط ولا يزال عنصر الجذب الأساسي لها، الذى أضيفت إليه إسرائيل بعد ذلك.

ويسجل الدارسون أنه في العام 1980 بعدما برزت فكرة الاستخدام السياسي للنفط في حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973، أعلن مبدأ كارتر والذى نص على "أن أي محاولة من جانب أي قوى للحصول على مركز مسيطر في منطقة الخليج سوف تعد في نظر الولايات المتحدة هجوما على مصالحها الحيوية، وسوف ترد بكل الوسائل بما فيها القوة المسلحة".

وعلى أثر ذلك أنشأت الولايات المتحدة قوة التدخل السريع لتكون جاهزة لنقلها إلى منطقة الخليج إذا لزم الأمر، وأهم ما في إعلان كارتر أنه أخرج منطقة الخليج بنفطها من دائرة الصراع الدولي إلى دائرة الأمن القومي الأميركي. إلى جانب أنه طرح فكرة الاستغناء عن الاعتماد على القوى الإقليمية في الدفاع عن أمن الخليج والتوجه نحو التواجد العسكري المباشر في المنطقة.

احتلال صدام حسين للكويت في العام 1990 كان الباب الذى أكسب التواجد العسكري الأميركي شرعيته في منطقة الخليج، وهو ما غدا محل قبول وترحيب من جانب قطاعات عريضة من الرأي العام. وفى غياب أي دور عربي لمواجهة الموقف بدت الولايات المتحدة وكأنها تقوم بدور المنقذ أو الكفيل الذى حرر الكويت من جيش صدام. وبخروجه انفتحت الأبواب على مصارعها للانتشار العسكري الأميركي في كل دول الخليج دون استثناء، وشجع ذلك الانتشار وعززه استمرار المخاوف الخليجية من أصداء الثورة الإيرانية وتطلعاتها، خصوصا بعد انتهاء حربها مع العراق في العام 1990.

الشاهد أن القواعد الأميركية انتشرت في منطقة الخليج. وإذا كان قد استقر الأمر على ذلك النحو منذ بداية التسعينيات، فإن الذى جد عليه كان دخول الأوروبيين على الخط إلى جانب الأميركيين.

وكانت أبو ظبي سباقة في ذلك المضمار، ذلك أنها طلبت من الرئيس الفرنسي الأسبق جاك شيراك إقامة قاعدة عسكرية ثابتة على أراضيها، لكنه لم يكترث بالطلب -كما ذكرت صحيفة لوموند- لأن تركيزه آنذاك كان متجها إلى دول غرب أفريقيا (الفرنكوفونية) إلا أن خليفته نيكولا ساركوزي وافق على الطلب فور توليه للسلطة، وشارك بنفسه في تدشين القاعدة التي أقامتها حكومة أبو ظبي في مارس/آذار 2009، وكانت تلك هي المرة الأولى منذ خمسين عاما أن تحشد فرنسا جنودها في قاعدة عسكرية دائمة خارج أراضيها الوطنية.
 
(3)
 

ربما كان الشعور بعدم الثقة في الموقف الأميركي والشك في أن واشنطن يمكن أن "تبيع" الخليج في أي صفقة، هو الدافع الأساسي وراء لجوء بعض الدول الخليجية إلى محاولة تحصين دفاعاتها من خلال الاستعانة بالقوات البريطانية والفرنسية

في البدء كان الهاجس الأمني، وفى النهاية تضاعف ذلك الهاجس وعم الخليج، حتى استنفر الجميع ودفعهم إلى تجاوز الخلافات الحاصلة داخل البيت، لأن الرسالة التي تلقوها في الأشهر الأخيرة أعطت الأشقاء إشارة بأن البيت كله في خطر. ذلك أن دول الخليج انتبهت إلى أنها أصبحت تواجه أكثر من إعصار ضرب المنطقة من أكثر من ناحية.

فحين تمدد الحوثيون في اليمن واجتاحوا صنعاء وأصبحوا قريبين من باب المندب، واشتم الآخرون رائحة لإيران فيما جرى، فإن ذلك كان بمثابة تهديد مباشر لأمن الجارة السعودية وإنذار لمحيطها، فضلا عن أن الاقتراب من باب المندب ذي الأهمية الإستراتيجية الفائقة يعد خطا أحمر لا يسمح بتجاوزه.

من ناحية أخرى فإن ظهور تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) وتمدده بين العراق وسوريا، واقتراب نفوذه من الحدود الشمالية للمملكة مع العراق، حمل في طياته نذر إعصار آخر، ليس فقط لما يمثل من تهديد لأمن السعودية، ولكن أيضا لأن للتنظيم جذوره الفكرية الوهابية التي انطلقت أساسا من المملكة. والأخبار التي صرنا نتلقاها من الرياض بصورة متواترة تتحدث عن ملاحقة مؤيدين لداعش داخل المملكة ذاتها. وأحدث تلك الأخبار نقلت إلينا أن السلطات السعودية ألقت القبض على 135 شخصا، بعضهم من غير السعوديين، بتهمة الانتساب إلى داعش والتخطيط لعمليات إرهابية في البلاد.

صحيح أن تراجع أسعار النفط بمقدار الثلث عما كانت عليه في السابق يؤرق الدول الخليجية بدرجة أو أخرى، إلا أنه لا يشكل إزعاجا لأغلبها، وإذا استثنينا البحرين وسلطنة عمان، فإن بقية الدول الخليجية لديها من الاحتياطي النقدي ما يجعلها غير مكترثة كثيرا بتلك التراجعات، وإذا كان الاحتياطي النقدي للسعودية مثلا في حدود 750 مليار دولار فلن يزعجها كثيرا أن تسحب منه ما بين 10 و20 مليارا في السنة. والحاصل في السعودية له نظيره في الإمارات والكويت وقطر.

لكن ما سبق كله في كفة، واحتمالات التفاهمات الأميركية-الإيرانية بشأن الملف النووي في كفة أخرى، ذلك أن بعض ذوى الصلة بدوائر القرار الخليجي يعتبرون أن تداعيات تلك التفاهمات هي العامل الأهم وراء الدعوة إلى لم الشمل الخليجي التي اطلقها العاهل السعودي في منتصف نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، والتي انتهت بالاتفاق على عقد القمة الخليجية في الدوحة.

لم يعد سرا أن أمير الكويت لعب دورا في مساعي الوفاق التي تكللت بالنجاح النسبي. وأدت إلى إطلاق دعوة العاهل السعودي وإعادة سفراء السعودية والإمارات والبحرين الذين سحبوا من الدوحة في أوائل مارس/آذار من العام الحالي (2014).

حسب معلوماتي فإن الدوائر الخليجية تتابع بقلق التفاهمات الأميركية-الإيرانية، وتخفى عدم ارتياحها إزاء الدور الذى تقوم به سلطنة عمان في هذا الصدد. وثمة اقتناع لدى القيادات الخليجية بأن من شأن الاتفاق بين الطرفين الأميركي والإيراني أن يؤدى إلى انكشاف منطقة الخليج، خصوصا في ظل غياب أي غطاء عربي يمكن التعويل أو المراهنة عليه.

وربما كان ذلك الشعور بعدم الثقة في الموقف الأميركي والشك في أن واشنطن يمكن أن "تبيع" الخليج في أي صفقة هو الدافع الأساسي وراء لجوء بعض الدول الخليجية إلى محاولة تحصين دفاعاتها من خلال الاستعانة بالقوات البريطانية والفرنسية في البحرين وأبو ظبي.

إذا صح ذلك التحليل فهو يدعونا إلى إعادة النظر في تقييم قمة الرياض الطارئة التي عقدت في الشهر الماضي وأسفرت عن إعادة سفراء الدول الثلاث إلى الدوحة.. ذلك أنها لم تركز على الخلافات بين دول مجلس التعاون الخليجي بقدر ما ركزت على المخاطر والتحديات التي تواجه الجميع. وسبقت الإشارة إلى عناوينها.
 
(4)
 
وفقا لتقديرات منظمة إيدكس للدفاع الدولي ومعهد أستوكهولم الدولي لأبحاث السلام (سيبرى) فإن مشتريات الخليج من السلاح في عامين بلغت 200 مليار دولار، وأن متوسط مشتريات السلاح للدول الخليجية سنويا لا يقل عن 70 مليار دولار، وفي السنوات بين 2005 و2009 استأثرت دولة الإمارات العربية بنحو 57٪ من الأسلحة التقليدية الرئيسية التي استوردت من الولايات المتحدة، في حين كانت نسبة السعودية 10٪ فقط. وفى ديسمبر/كانون الأول 2011 أبرمت واشنطن صفقة بيع أسلحة متطورة لدول الخليج بقيمة 123 مليار دولار حصلت السعودية منها على طائرات مقاتلة ومروحيات وصواريخ. ووقعت دولة الإمارات على صفقة بحوالي 3.6 مليارات دولار لشراء 100 صاروخ دفاعي اعتراضي وطائرات مقاتلة كجزء صغير من صفقة أكبر بلغت قيمتها 36 مليار دولار تتضمن عشرات الطائرات المقاتلة.
 

لا تستطيع أن تتوجه باللوم إلى الدول الخليجية رغم كل ما توفر لها من فوائد مالية وقدرات عسكرية، قبل أن نلوم أنفسنا حين خرجت الدول العربية الكبرى من معادلة القوة، وأصبحت ضحية صراعاتها الداخلية

حين يطالع المرء تلك الأرقام المهولة التي تنفق على التسليح سنويا في دول الخليج، لا بد أن يدهشه أن الشعور بانعدام الأمن يتناسب طرديا مع زيادة الإنفاق العسكري، ولا بد أن يستغرب استمرار الحرص في الوقت نفسه على الاحتماء بالقواعد العسكرية الأجنبية في مواجهة احتمالات التهديد الخارجي، وهو ما يدعونا إلى تأييد الفكرة التي تقول إن كل ذلك التسليح يستهدف حماية الأمن الداخلي بالدرجة الأولى، كما أن بعض الدول الخليجية توظفه في ترجيح كفة بعض الأطراف المشاركة في الصراعات الإقليمية.

وهذه الفكرة نبه إليها مقال مهم نشرته صحيفة واشنطن بوست في 5/12 تحت عنوان "صحوة الجيوش العربية". وقد كتبه روبرت سبرنجبورج، وهو أحد الخبراء العسكريين الأميركيين الذين عملوا في الخارجية الأميركية والمملكة المتحدة، ومما ذكره في مقالته أن أحد التطورات الخطيرة التي شهدها العالم العربي أن الجيوش لم تعد مهمتها مقصورة على حماية البلاد ضد التهديدات الخارجية، ولكنها باتت تستخدم في مواجهة التهديدات الداخلية ومكافحة الإرهاب وحسم الصراعات في الدول المجاورة.

لا تستطيع أن تتوجه باللوم إلى الدول الخليجية التي باتت ضحية الشعور الدائم بالخوف، رغم كل ما توفر لها من فوائد مالية وقدرات عسكرية، قبل أن نلوم أنفسنا حين خرجت الدول العربية الكبرى من معادلة القوة، وأصبحت ذاتها ضحية صراعاتها الداخلية، فلم تستهلك طاقاتها ولم تضعف قدراتها فحسب، ولكنها ضيَّعت معها الدول الصغرى حين ألجأتها إلى سؤال اللئيم مضطرة حينا وطائعة ومختارة حينا آخر.

بسبب منى أزعم أن استقرار الخليج واطمئنان أهله لن يتحقق إلا إذا استقام أمر الدول العربية الكبرى (هل أذكر بموقف جمال عبد الناصر من أزمة الكويت في بداية الستينيات حين استعانت ببريطانيا في مواجهة تهديدات عبد الكريم قاسم بضمها للعراق، هو الذى أوقف التدخل البريطاني؟) وتلك مشكلة أخشى أن تكون أكثر تعقيدا، لكنها تظل الحل الوحيد. ومن لديه خيار آخر فليدلنا عليه.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.