قطاع الأمن بدول الربيع.. لماذا تعذر الإصلاح؟

قوات الشرطة تنتشر في شوار مصر بشكل متزايد بعد الانقلاب العسكري
الجزيرة

إصلاح قطاع الأمن
بين التعقيد والنجاح
لماذا الفشل؟

أشعل القمع الأمني شرارة الانتفاضات العربية في 2010 و2011، ففي تونس -مهد الانتفاضات ومُلهمة شعوب المنطقة في مقاومة الاستبداد- أضرم محمد البوعزيزي النار في نفسه بعد صفعة من شرطية.

وفي مصر اندلعت انتفاضة يناير يوم عيد الشرطة، ولم يكن ذلك مصادفة. وصار أحد أيقونات الثورة "خالد سعيد"، الشاب الذي قُتل على يد اثنين من رجال الشرطة يرتديان زيا مدنيا.

وفي ليبيا اندلعت الشرارات الأولى للثورة عقب اعتقال فتحي تربل، المحامي الذي كان يُمثل عائلات ضحايا مجزرة بوسليم المروعة. أما في سوريا فاندلعت شرارة الثورة عقب قيام قوات الأمن بنزع أظافر بعض تلاميذ المدارس في درعا عقابا لهم على كتابتهم صرخة الربيع العربي الشهيرة "الشعب يريد إسقاط النظام" على أحد الجدران.

رغم إجماع القوى داخل المجتمعات المنتفضة على وجوب تغيير ممارسات أجهزة الأمن، فإن كافة المحاولات لم تنجح في إحداث تغيير ثوري جذري أو إصلاحي ذي معنى

ورغم أن سلوكيات وممارسات أجهزة الأمن في دول الانتفاضات العربية كانت أقرب لعصابات الجريمة المنظمة منها إلى أجهزة أمن محترفة، ورغم إجماع قوى التغيير داخل المجتمعات المنتفضة -سواء كانت قوى إصلاحية أو ثورية- على وجوب تغيير هذه الممارسات، ورغم العديد من المبادرات والاقتراحات والضغوط من عدة جهات -بدءا من النشطاء المحليين ووصولا للأمم المتحدة والخبراء الدوليين- على السلطات التنفيذية والتشريعية في بلاد الربيع العربي؛ فإن كافة هذه المحاولات لم تنجح في إحداث تغيير -سواء ثوريا/جذريا أو إصلاحيا- ذي معنى. فلماذا؟

ستحاول هذه المقالة الإجابة بشكل عام على هذا السؤال.

إصلاح قطاع الأمن
يمكن وصف إصلاح القطاع الأمني بأنه تحوّل للنظام الأمني -يشمل جميع مؤسساته وأدوارها ومسؤولياتها وإجراءاتها وأهدافها- بحيث تتم إدارته وتشغيله على نحو أكثر اتساقا مع معايير الديمقراطية ومبادئ الحكم الرشيد، مما يساهم في خلق جهاز أمني جيد الأداء.

وتتأصل جزء من فلسفة إصلاح القطاع الأمني في مفهوم "الأمن الإنساني"، ليصبح الهدف الرئيسي للجهاز هو تأمين المواطن الفرد. وتتناقض هذه الفكرة بوضوح مع دور أجهزة الأمن قبل الانتفاضات، حيث كان التهديد اليومي المحلي للمواطنين الملتزمين بالقانون هو دأب أجهزة أمن بن علي ومبارك والقذافي.

وفي صورتها المثالية، يجب أن تشمل عملية الإصلاح جميع أفرع قطاع الأمن بدءا من القوات المسلحة، مرورا بقوات الأمن والاستخبارات الداخلية والخارجية، ووصولا إلى مصلحة الجمارك وقوات حرس الحدود والقوات شبه العسكرية النظامية منها وغير النظامية (إن وُجِدت).

بيد أن التركيز الرئيسي في مرحلة (2011-2013) كان على وزارات الداخلية التي في العادة يتبعها جهاز استخبارات داخلي (جهاز أمن الدولة في تونس، وجهاز أمن الدولة/الأمن الوطني في مصر، وجهاز الأمن الداخلي في ليبيا)، وقوات نظامية شبه عسكرية (قوات التدخل السريع في تونس، وقوات الأمن المركزي في مصر، وخليط من حرس الجماهيرية المنبثق عن اللجان الثورية وبعض القوات التابعة للأمن الداخلي في ليبيا)، بالإضافة إلى الشرطة المحلية؛ حيث كانت معظم الانتهاكات قد تم ارتكابها من قبل الأجهزة التابعة لوزارة الداخلية.

ركنان رئيسيان لعمليات إصلاح القطاع الأمني تمّ التركيز عليهما في فترة التحول التي شهدتها كل من تونس ومصر وليبيا بين عامي 2011 و2013، وهما:
– إنشاء أنظمة إدارة ورقابة ومساءلة فعالة للجهاز الأمني.
– تحسين الخدمات الأمنية والعدلية.

ولتحقيق هذه الأركان قُدمت عدة مبادرات وخطط لتحسين وسائل الرقابة والمسائلة، فعلى المستوى المحلي، تحركت بعض قوى المجتمع المدني الفاعلة وبعض الضباط الصغار والكبار في الضغط لتعزيز المُساءلة من خلال مبادرات لإنشاء آليات مراقبة مستقلة وتغيير القوانين.

أما على المستوى الدولي فقد اختارت الأمم المتحدة ثلاثة خبراء -كان كاتب هذه المقالة أحدهم- لوضع تصور لحالة قطاع الأمن وسبل إصلاحه في المراحل الانتقالية. وأصدرت اللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا (الإسكوا) التابعة للأمم المتحدة جزءا من التقرير بهذا الشأن بعنوان "القطاع الأمني في المنطقة العربية في ظل عمليات التحول السياسي: الموروثات والمهام والتصورات".
 
تتم مراقبة أجهزة الأمن ذات المهنية العالية في الديمقراطيات الراسخة من قِبل العديد من الهيئات، كما هو الحال مع لجنة الاستخبارات والأمن في البرلمان البريطاني، أو لجنة مراقبة الاستخبارات الأمنية في البرلمان الكندي
أما فيما يتعلق بركن تحسين الخدمات الأمنية، فكانت هناك حاجة ملحة لتعزيز بناء القدرات من خلال تحسين تدريب الشرطة وتنمية أداء موظفيها وتعديل سياسات شؤون العاملين بها وإضفاء الطابع المدني عليها، من خلال إجراءات معينة تبدأ من ضمان قيادة جديدة للشرطة و تنتهي ببناء هوية جديدة غير مُسيّسة وغير مُعسكرة تقوم على أساس ثقافة الكفاءة والمهنية.

بين التعقيد والنجاح
شكلت العناصر المشار إليها ركائز إصلاح القطاع الأمني، وأيضا جوهر نجاح التحول الديمقراطي في بلدان عديدة. ففي إسبانيا، تم اتخاذ مثل هذه الخطوات تدريجيا بعد وفاة الدكتاتور الجنرال فرانسيسكو فرانكو في نوفمبر/تشرين الثاني 1975، مما أدى إلى انتقال السلطة إلى الحزب الاشتراكي بعد انتخابات تاريخية عام 1982 وقيادته لعملية إصلاح شاملة للمؤسستين الأمنية والعسكرية.

وفي جنوب أفريقيا، قدمت "الأوراق البيضاء" برنامج إصلاح شامل للدفاع الوطني في أكتوبر/تشرين ألأول 1994. وشمل هذا البرنامج إنشاء هوية مهنية جديدة لأفراد المخابرات جنبا إلى جنب مع وضع ميثاق شرف يؤكد على الالتزام بالقيم الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان والتمسك بمبدأ الحياد السياسي.

وفي إندونيسيا شدد "العهد الجديد" -وهو برنامج إصلاحي مثل إطارا شاملا لعملية التحول الديمقراطي- على إلغاء عسكرة الشرطة، وعلى الرقابة البرلمانية على الأجهزة الأمنية. وفُعِّل هذا الإجراء الأخير في عهد الرئيس عبد الرحمن وحيد (1999-2000)، وتمخض في النهاية عن ثلاث لجان برلمانية تراقب أداء أجهزة الأمن الإندونيسية.

وفي جورجيا، جرت عملية إلغاء عسكرة الشرطة بشكل جزئي بين عامي 2004 و2005. وتولى مناصب وزير الداخلية ونائب وزير الداخلية ورئيس جهاز الاستخبارات الداخلية؛ سياسيون مدنيون. كما وقعت وزارة الداخلية مذكرة تفاهم لمراقبة مراكز الاحتجاز والسجون مع عدد من منظمات حقوق الإنسان المستقلة.

وفي تشيلي، بعد الحقبة القمعية تحت حكم الجنرال أوغستو بينوشيه (1973-1990)، وافق مجلس الشيوخ على إنشاء وكالة الاستخبارات المدنية الوطنية في عام 2003. ووفقا لقانون تمَّ سنه في عام 2004، يتعين على جميع الأجهزة الأمنية تقديم المعلومات لتلك الوكالة التي بدورها تنقل المعلومات إلى البرلمان.

وبعيدا عن الحالات الانتقالية المُعقدة السابق ذكرها، فإن أجهزة الأمن ذات المهنية العالية في الديمقراطيات الراسخة تتم مراقبتها من قِبل العديد من الهيئات، كما هو الحال مع لجنة الاستخبارات والأمن في البرلمان البريطاني، أو لجنة مراقبة الاستخبارات الأمنية في البرلمان الكندي. وعادة ما تمتلك هذه اللجان سلطة الاطلاع على المعلومات المتعلقة بأنشطة أجهزة الاستخبارات وتقديم تقارير بشأنها إلى الحكومة أو البرلمان أو للشعب.

لماذا الفشل؟
لم تقترب دول الربيع العربي من أي من الحالات السابق ذكرها فيما يتعلق بإصلاح القطاع الأمني، ربما باستثناء بعض التطورات الإيجابية في الحالة التونسية. ولهذا الفشل عدة أسباب، أجملها فيما يلي:

1) اشتداد حدة الاستقطاب السياسي، الذي أدى في النهاية لتسييس عملية إصلاح القطاع الأمني، وانهيار التوافق والإجماع على أهدافها. فصار النمط السائد هو الآتي: إن قمَع الجهاز الأمني الخصم السياسي لطرف ما، أشاد به الطرف المستفيد. وإن لم يفعل، طالب ذلك الطرف "بالإصلاح".

2) ظهور تيارات قوية معادية لعملية لإصلاح داخل المنظومة الأمنية، لأسباب بعضها عقدي (متعلق بالعقيدة الأمنية)، وبعضها اجتماعي نفسي، وبعضها مصلحي نفعي. ثم قيام هذه التيارات بعرقلة أو إفساد العملية من الداخل. فبعض صانعي السياسات في وزارات الداخلية العربية ينظرون إلى عملية الإصلاح على أنها مجرد تعزيز للقدرات المادية والميزانيات الخاصة بالمؤسسات التابعة لهم.

لم تنجح محاولات إصلاح القطاع الأمني لأسباب منها ظهور تيارات قوية معادية لعملية لإصلاح داخل المنظومة الأمنية لأسباب متعددة، ثم قيام هذه التيارات بعرقلة أو إفساد العملية من الداخل

ويشكل ذلك بالطبع جزءا لا يتجزأ من عملية تحسين أداء هذا القطاع، غير أن النواحي الأخرى لا تُعطى الأولوية. وتشمل هذه النواحي الرقابة المدنية الفعالة، والتدابير المرتبطة بالشفافية، والترقية على أساس الجدارة وليس الأقدمية، والمراجعة الشاملة لمناهج أكاديمية الشرطة. ويواجه مفهوم المساءلة بشكل خاص مقاومة شرسة.

3) محدودية قدرات وموارد الحكومات المنتخبة حديثا. تكمن المشكلة هنا في تراكم آثار الفساد وسوء الإدارة التي ورثتها الحكومات المنتخبة بعد انتفاضتي مصر وتونس وثورة ليبيا. ففي 2013، تخطت قيمة الدَّين العام في مصر 85٪ من إجمالي الناتج المحلي. ورغم أن الحال أفضل بكثير في ليبيا (4.2٪) وتونس (15.8٪) فإن محدودية الموارد لم تتح فرصة جيدة للاستثمار في عملية معقدة وطويلة المدى كعملية إصلاح القطاع الأمني.

4) محدودية المعلومات والخبرات التي تتمتع بها الجهات المنوط بها قيادة عملية الإصلاح أو الضغط لتنفيذها. فكانت الفجوة الكبيرة ما بين مطالب النشطاء وتوقعات الثوار من إنهاء للتعذيب والانتهاكات ومحو اللامحاسبة وتنفيذ إجراءات الشفافية -من ناحية- وقدرة السياسيين والنواب المنتخبين على ترجمة هذه المطالب والهتافات لإجراءات تنفيذية وتشريعية تلزم الأجهزة الأمنية وتلجم انتهاكاتها. وقد أدركت الحكومة التونسية هذه المشكلة سريعا، فاستعانت ببعض الخبرات الدولية منذ يوليو/تموز 2011.

5) محدودية الدعم الإقليمي من الدول الديمقراطية -أو الدول المؤيدة للتحول الديمقراطي- لقوى التغيير، مع قوة وشراسة الدعم الإقليمي من الأنظمة المؤيدة للاستبداد للقوى المعادية للإصلاح. فالأنظمة المؤيدة للاستبداد ترى في عمليات إصلاح القطاع الأمني والعدالة الانتقالية والرقابة الديمقراطية على القوات المسلحة والتحول الديمقراطي -بشكل عام- تهديدا مباشرا لها.

6) ضعف وعدم استكمال عملية نزع السلاح والتسريح أو إعادة الدمج في مؤسسات الدولة المسلحة للكتائب الثورية. وتُعتبر تلك العملية أساسية في إنجاح مسارات دعم القطاع الأمني وإرساء الديمقراطية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.