أين أخطأ الإخوان؟

جماعة الإخوان لم تعلق حتى الآن على قرار حظر انشطتها
الجزيرة

التباس الهدف والغاية
الاستعجال وحرق المراحل
عدم فهم الواقع
سوء تقدير الموقف

الخسارة الانتخابية النسبية التي مُنيت بها جماعة الإخوان المسلمين في تونس (حركة النهضة) شكلت منجاة بيّنة من التراجعات اللافتة التي أصابت الجماعة على المستوى العربي إبان المرحلة الأخيرة.

ما جرى في تونس التي استدرك الإخوان فيها ذاتهم ومسيرتهم وأثمر تقليل خسارتهم إلى الحد الأدنى، يفتح -موضوعيا- باب الجدل والنقاش حول أسباب وبواعث التراجعات الإخوانية على الساحة العربية في السنوات الأخيرة، وسر عدم استلهام روح التجربة الإخوانية التونسية المبنية على روح التوافق الداخلي، وأولوية مصلحة الوطن على مصلحة الحزب في البقاع العربية الأخرى.

التباس الهدف والغاية
ما أقصده من التباس الهدف والغاية لدى الإخوان لا يتعلق بوضوح الشعار الذي يرفع الهدف النبيل والغاية السامية بقدر ما يتعلق بسوء التطبيق والخلل الذي يضرب أطنابه في تنزيل الشعار النظري إلى أرض الواقع العملي.

ما يبدو لافتا للنظر أن صفحة التأني والتريث وعدم الاستعجال التي اشتُهر بها الإخوان قد طُويت بين عشية وضحاها عقب هبوب رياح الثورات، وأن نهجا جديدا قد دبّ في أوساطهم لجهة الانسياق التام مع مقتضيات العمل السياسي دون ضوابط أو كوابح واضحة 

الغاية الأسمى للإخوان على المستوى النظري هي إرضاء الله وتحكيم شرعه القويم، مصداقا للشعار الخالد "الله غايتنا"، إلا أن الواقع العملي يؤشر إلى بون شاسع ومفاوز بعيدة بين النظرية والتطبيق.

وكي لا تكون مقاربتنا قولا جزافا أو خبط عشواء كما قد يتهمنا به البعض، فإننا نعرض لتجربتين بالغتي الأهمية في تاريخ الإخوان، الأولى تجربة حماس في فلسطين، والأخرى التجربة المصرية التي انتهت بإسقاط وعزل الرئيس مرسي العام الماضي، للدلالة على حجم الخلل في قدرة الإخوان على تنزيل المبادئ والشعارات إلى برامج وتطبيقات.

في فلسطين، عاشت حماس ربيعا زاهرا غير مسبوق عام 2006 إثر فوزها في الانتخابات التشريعية، وحصدت التفافا شعبيا واسعا أذهل الجميع، وشكلت أهدافها وغاياتها المرفوعة قيمة دينية ووطنية وأخلاقية بالغة السموّ والعلوّ، إلا أن انعطافتها الكبرى عام 2007 عقب سيطرتها على غزة، وخلقها لوقائع وحقائق سياسية وأمنية أحادية، وما رافق ذلك من أخطاء كبرى وسلوكيات ضارة، سلك بها مسلك التراجع الجماهيري التدريجي بفعل ابتعادها عن مقتضيات إنفاذ العدالة الاجتماعية وملامسة هموم ومعاناة الناس، وزيادة الهوّة بين الغاية التي تجعل العمل الوطني خالصا لله تعالى وبين الواقع الذي شهد خروقات كبيرة وارتكاسات حادة لا تحصى.

ولا يعني ذلك مساسا بالجانب المقاوم المشرق الذي أضاء -ولا يزال- مسيرة وتاريخ حماس، بقدر ما يعني تشخيصا دقيقا لأدائها السياسي وتجربتها الحاكمة التي فشلت وطنيا بفعل الحصار وسوء الأداء والتطبيق.

وفي مصر، عاش الإخوان ربيعا مماثلا عقب فوزهم في الانتخابات البرلمانية، وغمروا الساحة بالشعارات النبيلة والأهداف السامية، إلا أن مسيرتهم سرعان ما دبّ فيها التعثّر مع خوضهم الانتخابات الرئاسية، وما أعقبها من سلوكيات ذات صفة حزبية أحادية وأخطاء في الممارسة والأداء السياسي، رغم كل العوائق المفتعلة التي واجهتهم، ما باعد بينهم وبين الشعار القيمي والتطبيق الفعلي.

وهكذا، فإن العمل الذي كان يفترض أن يكون خالصا لله تعالى داخلته الشوائب والأخلاط، والتبست فيه الغايات النظرية بالتطبيقات العملية، مما حرم الإخوان من كثير من التوفيق الذي لا يمنحه الله إلا للأعمال الخالصة والأفعال المجردة.

الاستعجال وحرق المراحل
يشكل التدرج في الخطوات سمتا أساسيا وقاعدة مهمة للمنهج الإخواني في العمل السياسي والتربوي والدعوي، وطيلة عقود خلت كان الاستعجال آفة الآفات التي حاربها الإخوان في عموم المنطقة العربية.

لكن العقد الأخير شهد تجاوزا واضحا وخرقا سافرا لهذه القاعدة تحت ضغط وإلحاح الأحداث والتطورات التي مرت بها المنطقة العربية، مما أوقع الإخوان في أتون محن متلاحقة وعواصف هوجاء من حيث لا يحتسبون.

لا يخفى أن سلوك وأدبيات جماعة الإخوان منذ نشأتها قد عزفت عن الطموح في الحكم بمعزل عن شروطه الموضوعية وتوقيتاته الملائمة، وأنها قد تحملت طوال مسيرتها الكثير من المحن والعنت دون أن تخرج عن النص أو تنحرف عن الوجهة التي رسمها لها مؤسسها ومرشدها الأول الشيخ حسن البنا.

وما يبدو لافتا للنظر أن صفحة التأني والتريث وعدم الاستعجال التي اشتُهر بها الإخوان قد طُويت بين عشية وضحاها عقب هبوب رياح الثورات العربية قبل عدة سنوات، وأن نهجا جديدا قد دبّ في أوساط قيادة وقواعد الإخوان لجهة الانسياق التام مع مقتضيات العمل السياسي دون ضوابط واضحة أو كوابح مدروسة.

اقتحم الإخوان ساحات العمل السياسي وميادين العمل العام وشؤون الدولة دون تؤدّة أو تهيئة مسبقة، واختصروا مراحل متعددة في زمن قياسي، وصعدوا سلم الوصول إلى رأس الدولة بسرعة قياسية قذفت بهم من البرلمانيات إلى الرئاسيات بين عشية وضحاها

في ضوء ذلك، قفز الإخوان قفزات خطيرة في الهواء، ومارسوا حرق المراحل سياسيا دون رويّة أو بعد نظر، وظنوا أن مقاليد الأمور قد دانت لهم، وتوهموا أن التأييد اللافت الذي حازوه شعبيا كفيل بحمايتهم وتحصين مسيرتهم أمام كافة محاولات العبث والانقلاب.

وهكذا، اقتحم الإخوان ساحات العمل السياسي وميادين العمل العام وشؤون الدولة دون تؤدّة أو تهيئة مسبقة، واختصروا مراحل متعددة في زمن قياسي، وصعدوا سلم الوصول إلى رأس الدولة بسرعة قياسية قذفت بهم من البرلمانيات إلى الرئاسيات بين عشية وضحاها في ظل بضاعة سياسية محدودة، وخبرة معدومة في إدارة شؤون الدولة، وبيئة إقليمية ودولية غير مواتية على الإطلاق.

ولأن منطق التاريخ والسياسة وسنة الله في الكون لا تحتمل القفزات القسرية وحرق المراحل، فقد آل الإخوان إلى مآلهم المتوقع والمعروف.

ومن الأخطاء التي وقع فيها الإخوان "الانغلاق"، وهو صفة تشكل أسوأ ما يميز الإخوان في سلوكهم السياسي وعملهم الحزبي.

لا تتمحور هذه الصفة حول المظاهر والإجراءات الشكلية التي يمارسها الإخوان في إطار علاقاتهم السياسية والحزبية، بقدر ما تتعلق بعمق الشعور بالاغتراب والمفاصلة الشعورية عن البيئة السياسية والفكرية والاجتماعية البعيدة عن روح وجوهر منهج الإخوان.

وعلى الرغم من الأطروحات الدقيقة التي تحفل بها أدبيات الإخوان، والمحاولات الجادة التي تفاعلت في إطار مؤلفاتهم ونتاجهم السياسي والفكري والثقافي حول طبيعة العلاقة مع المجتمع والبيئة المحيطة بتشعباتها وتشابكاتها المختلفة، فإن الواقع العملي -على الأعم الأغلب- كان يشدّ السلوك الإخواني نحو الانغلاق.

تبعا لذلك، فقد تأثرت نظرة الإخوان لذاتهم وجماعتهم وأفكارهم ومناهجهم وعلاقاتهم المختلفة بهذه الصفة المَرَضِية، مما يفسر الكثير من الأسباب الكامنة وراء مشكلات عدم الثقة التي غلبت على علاقات الإخوان مع بعض عناصر ومكونات البيئة السياسية والاجتماعية المحيطة.

ومع اندلاع الثورات العربية، وما حملته من فرصة تاريخية أمام الإخوان لإعادة صوغ علاقاتهم مع مختلف المكونات والتيارات الفكرية والسياسية والمجتمعية، لم يبتدر الإخوان خطوات جادة وحقيقية للانفتاح التام على الجميع رغم النصائح المتكررة التي أطلقها المخلصون، ولم تشهد الساحة سوى صفحات سطحية ذات بعد تكتيكي أملتها الظروف السياسية دون أي رؤية إستراتيجية.

لذا، فإن كل يوم مرّ على حكم الإخوان كان يحمل خسارة جديدة بفعل الانغلاق الحاصل، إلى أن فوجئ الإخوان بمحدودية حلفائهم وضمور المدافعين عنهم في لحظات الحسم والشدة، وخصوصا إثر الانقلاب على مرسي في مصر، وهو ما لم يتم تداركه واستدراكه حتى اليوم.

عدم فهم الواقع
من أكثر الأسباب تأثيرا على مسار ومسيرة الإخوان في الفترة الأخيرة عدم قدرتهم على فهم تضاريس الواقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي في المنطقة العربية ككل.

وفي الحقيقة لم يَدُرْ في خلد أحد أن الجماعة التي أمضت ما يزيد عن ثمانية عقود من العمل المتواصل، وخصوصا في المجالات الشعبية الجماهيرية، وقاست في سبيل ذلك معاناة لا توصف، يمكن أن تخطئ في فهم الواقع المعاش وتضاريسه السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وتبني خططها وتصوراتها وفقا لرؤى وتقديرات ذات تماس ضعيف مع الواقع، بما أفرز حالة غير سويّة عجزت عن التعاطي الدقيق مع الوقائع والأحداث، وفشلت في احتواء ومجابهة التحديات.

لقد تجلى عدم فهم الواقع وقراءة تضاريسه المختلفة في الحسابات والمواقف والسياسات المختلفة التي اجترحها الإخوان في أكثر من منطقة، وخصوصا في فلسطين ومصر، وهي حسابات ومواقف وسياسات بدت منها ثقة عالية وفهم عميق للواقع على المستوى النظري والظاهري، إلا أنها كانت في الاتجاه المعاكس على المستوى العملي والتنفيذي.

وفي ذلك مفارقة، أيما مفارقة، إذ يصعب تصور عجز الإخوان عن القراءة السليمة للواقع المعاش رغم انبثاقهم عنه، وعملهم وسط القطاعات والشرائح الشعبية المختلفة على مدار العقود الماضية، واحتكاكهم بمعظم أوساط المجتمع من خلال العمل الدعوي والاجتماعي.

ومما يبدو فإن سكرة الانتصار في البرلمانيات قد أذهبت عن الإخوان فكرة التوازن وإعمال الدقة في سائر أعمالهم ومواقفهم وحساباتهم، وباعدت بينهم وبين سلامة الرؤية وصحة القراءة ورصانة المعايير، وأغرتهم بالتوغل في مسار اعتقدوا بيسره وسهولة مراحله، إلى أن وقعت الواقعة التي أيقنوا من بعدها أنهم كانوا يسيرون على الهواء ويتحركون على رمال متحركة لا قرار لها.

سوء تقدير الموقف

إن المعضلة التي تنخر في عمق الفكر السياسي للإخوان تكمن في سوء تقدير الموقف الذي يرتكز على عدم فهمهم للواقع، وضعف الخبرة السياسية، وانعدام القدرة والخبرة في إدارة الدولة والشأن العام، والجهل بحقيقة وأثر البيئة المحيطة

ليس صعبا استكناه عجز الإخوان عن اتخاذ القرارات السليمة ووقوعهم أسرى لسوء تقدير الموقف، وخصوصا في مرحلة ما بعد هبوب الثورات العربية وصعود نجم تيارات الإسلام السياسي في المنطقة، وفوزها بوضوح في الانتخابات البرلمانية التي جرت آنذاك.

ولربما جاز لنا القول إن سوء تقدير الموقف لدى الإخوان قد بلغ مرحلة الغرور عقب فوزهم في الانتخابات البرلمانية في عدة دول عربية، فقد اعتقد الإخوان أنهم ملكوا قياد الساحة السياسية عربيا، وأنهم باتوا القوة الأولى والأكبر بلا منازع، وأن الفرصة قد باتت سانحة لإحداث تغيير سياسي جذري سريع في إطار البنية العربية الرسمية، مما دفعهم لاتخاذ قرارات متسرعة وغير سليمة بخوض الانتخابات الرئاسية، وخاصة في مصر، دون امتلاك ملامح رؤية واضحة لما بعد الرئاسيات.

كل ذلك أورد الإخوان موارد التهلكة السياسية التي تجرّعوا مراراتها منذ اليوم الأول لفوزهم في الرئاسيات، فقد اكتشفوا -متأخرين- أن العمل ضمن أطر ومؤسسات النظام السياسي العربي ليس اعتباطيا، وأن ممارسة العمل البرلماني يستلزم جهدا مكثفا وعملا دؤوبا وأفقا ممتدا وخبرة راشدة، فما بالكم بموقع رئاسة الدولة الذي يجعل من الرئيس، والجهة المنتمي إليها، أمناء على الشعب والأمة بكامل مقدراتها، ومسؤولين عن علاج ومواجهة كل المشكلات والتحديات التي تواجهها.

إن المعضلة التي تنخر في عمق الفكر السياسي للإخوان تكمن في سوء تقدير الموقف الذي يرتكز على عدم فهمهم للواقع، وضعف الخبرة السياسية، وانعدام القدرة والخبرة في إدارة الدولة والشأن العام، والجهل بحقيقة وأثر البيئة الإقليمية والدولية ومعادلاتها المختلفة.

من هنا لم يكن غريبا أن يكون التخبط والارتباك السمت العام لمرحلة حكم الإخوان التي انتهت بأسرع مما توقع المتوقعون، وأن تغطّي القرارات الخاطئة كثيرا من مساحة الفعل والأداء لديهم، وهو ما أعطى خصومهم الذريعة المناسبة للانقلاب والانقضاض عليهم تحت ستار ما تسمى بالإرادة والثورة الشعبية.

وختاما.. فإن الفرصة ما زالت سانحة أمام الإخوان لإعادة تقييم الموقف، وإطلاق حالة سياسية وفكرية واجتماعية جديدة، قادرة على التعاطي مع الواقع واستدراك الخلل ومواجهة التحديات، والعبرة هنا لا تكمن في فقدان المناصب والمواقع، مهما بلغت أهميتها وحساسيتها، بقدر ما تكمن في سلامة المشروع، وصحة البرنامج، ودقة العمل، وإخلاص الوجهة والتنفيذ، والتحلل من الحزبية المفرطة، وإعمال الحكمة في الأداء والممارسة على الدوام.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.