أزمة البيت السياسي في العراق

أزمة البيت السياسي في العراق .الكاتب :فارس الخطاب

undefined

يمر العراق بمرحلة عصيبة من تاريخه المضطرب منذ أكثر من عقد من الزمن، حيث تتضاءل فيه كل يوم مساحات التفاؤل بتحقيق الاستقرار السياسي بما ينسحب تماما على الاستقرار الأمني ثم الاقتصادي، وبدء حركة البناء والنمو التي يحتاجها البلد جراء تعرضه لحروب عدة، وحصار مقيت شديد الوطأة لأكثر من 13 سنة قبل أن يبدأ احتلاله وتدمير بناه التحتية منذ العام 2003 وحتى يومنا هذا.

نعم، تتضاءل فرص إعادة اللحمة والثقة بين الأطراف المنضوية في العملية السياسية نتيجة اختلاف الرؤى والأهداف والمصالح والارتباطات لكل فصيل منهم، وهو ما يلمسه العراقيون اليوم بوضوح جعلهم في واد بعيد جدا عن قادة الرأي والسياسة.

وحتى المرجعيات الدينية والمذهبية باتت أكثر الأطراف توجيها للانتقادات للنخب السياسية سواء في الوزارة العراقية أم في مجلس النواب العراقي بسبب ما آلت إليه أوضاع البلد، مما أربك الصورة العراقية ومنحها المزيد من الضبابية.

تتضاءل فرص إعادة اللحمة والثقة بين الأطراف المنضوية في العملية السياسية نتيجة اختلاف الرؤى والأهداف والمصالح والارتباطات لكل فصيل منهم

ولعل من مفارقات ما آلت إليه الأمور في المشهد السياسي العراقي، محاولة المرجعيات الدينية الإحلال محل الساسة العراقيين في توجيه الناس نحو مفاصل الخلل في الأداء السياسي أو الحكومي لغرض ربط مشاعرهم بها.

وهذا ما عبر عنه عزة الشابندر عضو البرلمان عن ائتلاف دولة القانون الذي يتزعمه رئيس الوزراء بقوله "إن المرجعية الدينية تحاول انتزاع موقع الولاية عن الدولة من خلال استقطاب مشاعر الناس".

وكلام الشابندر فيه شيء من الصحة، حيث تقوم المرجعيات (وهي شيعية في غالبها) بالتدخل في أعمال السلطتين التشريعية والتنفيذية للدولة العراقية مما حول هذه الدولة من دولة مؤسسات عريقة (كما هو شأن العراق دائما) إلى دولة شبه دينية يتدخل فيها رجال الدين بكل مفاصل العمل والحياة، ويلهبون حماس مقلديهم، بما يحقق التفوق لنوابهم أو طائفتهم على حساب الآخرين، وهو ما أذكى نيران الفتنة التي لم تهدأ منذ أكثر من عشر سنوات.

ولعل حالة المراجع الدينية في السياسة العراقية بعد الاحتلال قد تطورت لتصبح القبلة التي يحج لها كل من أراد أن يكون في واجهة العمل السياسي، ليس العراقيون فقط بل حتى الذين جاؤوا للعراق محتلين أو سفراء لدول الاحتلال، ثم ما لبثت هذه المرجعيات أن تحولت إلى سلطة يمكن أن تطيح من خلال وصف أو كلمة ما، بأي سياسي مهما كانت درجته وقوة أتباعه.

رغم محاولة المؤسسة الدينية (الشيعية منها تحديدا) بسط نفوذها على المؤسسة السياسية، فإن استمرار التوتر بين السياسيين، وارتفاع سقف المطالب الشعبية بتحسين الأوضاع والخدمات يوما بعد يوم، وتعمد الاستخدام المفرط للقوة من قبل الأجهزة الأمنية والعسكرية الحكومية، وضع العقدة العراقية في إشكاليات بالغة الخطورة، تمثل في حقيقة الأمر قمة الصراع على السلطة.

فهناك فئة تعد نفسها صاحبة الحق النضالي والشرعي الوحيد في حكم العراق حاليا كونها تمثل تنظيما حزبيا ناضل لسنوات طويلة، وأدخل الكثير من أعضائه السجون (حزب الدعوة)، وهذا هو سبب إصرار رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي على ضرورة حصوله على دورة رئاسية ثالثة ليشكل فيها حكومة (أغلبية) حين قال "سوف لا أعمل مستقبلا بحكومة فيها محاصصة"، وهي التي لم يستطع تشكيلها في حكومته الثانية.

الخاسر الأبرز من تأزم الوضع السياسي هو الشعب العراقي، وما نراه من خروج جمعي للناس مطالبة بالتغيير ما هو إلا مؤشر على أن التغيير قادم بالفعل

ووفق هذه النظرة (المشروع) لا يعنى المالكي كثيرا بأصوات متحالفة مع حزبه في التحالف الوطني والذي يطلق عليه رسميا (البيت الشيعي) كجماعة (المجلس الأعلى) و(فيلق بدر) و(التيار الصدري) وغيرهم، بل يعدهم في أحايين كثيرة مصدر إزعاج وعرقلة لمشروعه الكبير في ظل نظرية "ما ننطيها (نعطيها)" التي قالها علانية في إشارة لحكم وقيادة حزب الدعوة للعراق.

التحالف الشيعي بدوره يعاني من ضعف القيادة وعدم وجود قواعد حقيقية لقادة تنظيماته بما سمح للمالكي بتجاوزه والاستخفاف به في معظم مواقفه وقراراته.

الصدريون يمتلكون أكثر من غيرهم أدوات اللعب على بعض الزوايا السياسية غير الناضجة في العراق، والتي هي أقرب ما تكون لأسلوب المناكفات والتربص برئيس الوزراء نوري المالكي حصريا وتحويل الصراع معه إلى هدف رئيسي يقضي بإزاحته عن الحكم والإحلال محله بما يملكونه من مساحة تأييد، خاصة في الأوساط الشعبية الفقيرة في بغداد وبعض المحافظات التي قادتهم بدورها إلى الحصول على عدد جيد من المقاعد في مجلس النواب العراقي ومجالس المحافظات.

لكن هل يسمح المالكي للصدر بالحصول على مكاسب على الأرض، وهو الذي يعده مبتدئا بعالم السياسة وليس لديه أي خبرة قيادية، حتى إنه طالب في لقاء تلفزيوني أجري معه بداية أغسطس/آب الماضي، مقتدى الصدر بـ"الاعتزال" و"التبرؤ من بعض تصرفات التيار ومن تبعات السلاح والقتل والممارسات".

وقال المالكي إن "هناك الآن تمزقات وتشرذمات نراها في التيار الصدري، ونرى أن هناك حراكا قويا معترضا على سياسة التيار للانفصال أو الانشقاق، وليس هناك ضوابط تعتمد بعمل التيار الصدري".

ومن يتابع خطابات وتعليقات المالكي طيلة فترتي حكمه للعراق يجد أنه يتهم بشكل شبه مستمر مقتدى الصدر وتياره جيش المهدي بعرقلة تحقيق الأمن وتقديم الخدمات ويذكر بجرائم مليشياته في البصرة وكربلاء وبغداد ومحافظات أخرى، إضافة طبعا إلى البعثيين وتنظيم القاعدة.

فيما انكب الصدر في السنتين الأخيرتين تحديدا على دعوة العراقيين علنا إلى الانتفاضة وإسقاط رئيس الوزراء وحكومته، مؤكدا أن تياره هو من أجلس المالكي على سدة الحكم.

التحالف الشيعي يعاني من ضعف في القيادة وعدم وجود قواعد حقيقية لقادة تنظيماته مما سمح للمالكي بتجاوزه والاستخفاف به في معظم مواقفه وقراراته

في الطرف الآخر يقف رئيس مجلس النواب العراقي أسامة النجيفي، ندا مشاكسا ومزعجا لخطط رئيس الوزراء نوري المالكي في تمرير بعض القوانين أو في محاسبة وزرائه، ومحاسبته شخصيا على ضعف الأداء أو الإخفاقات المتعاقبة في عمل الوزارات المختلفة.

وقد وصفت النائبة عن كتلة الحل البرلمانية والمنضوية داخل القائمة العراقية سهاد فاضل العبيدي الصراع بين رئيس الوزراء نوري المالكي ورئيس مجلس النواب أسامة النجيفي بأنه "من أجل البقاء في المناصب وأن الطرفين ليسا طائفيين بل إنهما يتقمصان الطائفية لاستقطاب الناس إليهما".

وقد كان دور وموقف النجيفي من تظاهرات الأنبار والموصل وصلاح الدين وغلظته على رئيس الوزراء سببا في شل العملية السياسية في العراق بشكل خطير عند انطلاق هذه التظاهرات والاعتصامات بداية العام الحالي.

ويؤكد على ذلك محمود عثمان القيادي بالتحالف الكردستاني، حيث يرى أن "الصراع الدائر بين نوري المالكي وأسامة النجيفي زاد من تعقيد الأزمة السياسية المتفاقمة أساسا وأثر على سمعة العراق بالخارج".

وأضاف أن المناكفات بين الرجلين أدت إلى تأزيم الوضع أكثر مما هو عليه، في وقت كان يجب أن يكون هناك تعاون بين السلطتين التنفيذية والتشريعية، وبينهما وبين الكتل، بدلا من الخلافات والمهاترات التي لا تؤدي إلى حل".

المالكي بات الآن يرى أن مجلس النواب عقبة في طريق الحكومة، وأن العملية السياسية طائفية، وأن وجود البرلمان والمحاصصة جمدت عمل الحكومة، ويصف البرلمان العراقي بأنه "مسجى ومعطل"، كما يعترف بالمسؤولية المشتركة في موضوع الفتنة الطائفية في العراق بقوله "نحن من أدخلنا الطائفية في العملية السياسية".

من يتابع خطابات وتعليقات المالكي طيلة فترتي حكمه للعراق يجد أنه يتهم بشكل شبه مستمر مقتدى الصدر وتياره جيش المهدي بعرقلة تحقيق الأمن وتقديم الخدمات

إن النتائج التي وصلت إليها العملية السياسية في العراق، والتي برمجها وهندس هيكلها الأميركي بول بريمر (الحاكم المدني للعراق عقب احتلاله عام 2003)، أثبتت للعراقيين جميعا أن العراق لا يمكن أن يحكم عبر بوابة طائفية أو عرقية، فالجميع وجد نفسه في لحظة القوة ضعيفا تجاه إدارة بلد كبير ومتعدد المشاكل والأعراق والطوائف مثل العراق.

وبات الخاسر الوحيد هو الشعب العراقي، وما نراه من خروج جمعي للناس مطالبة بالتغيير ما هو إلا مؤشر على أن التغيير قادم بالفعل.

فهل سيكون لهذا التغيير ناظم يضبطه حتى لا تنزلق الأمور لمجهول قد يكون أنكى وأمر؟ وهل ستترك الدول المتحكمة بالبيت السياسي والأمني العراقي (الولايات المتحدة وإيران) الأمور تجري وفق هوى المطالبين بتغيير الواقع الفاسد؟ وأين موقف الدول العربية من مجريات الأمور في هذا البلد العربي الكبير والمؤثر في موازين القوى والاستقرار في المنطقة؟

هذه الأسئلة قد يحدد إجاباتها حراك الشارع العراقي بعد أن أقر الجميع بفشل العملية السياسية في العراق بشكل كامل.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.