مأساة البلقان في سوريا

مأساة البلقان في سوريا. الكاتب :يوشكا فيشر

undefined

لعل مبادئ السلمية توصي بما يخالف ذلك، ولكن الجمع بين الدبلوماسية والتهديد باستخدام القوة العسكرية يُعَد تكتيكاً بالغ الفعالية، كما رأينا للتو في سوريا.

ويبدو أن مصداقية التهديد الأميركي بالتدخل العسكري هي التي دفعت الرئيس السوري بشار الأسد إلى إبرام صفقة بوساطة من حليفيه الرئيسيين: روسيا، وبشكل أقل مباشرة إيران.

ويبدو أن الأسد بات مستعداً الآن للتخلي عن أسلحته الكيميائية مقابل البقاء في السلطة. ولكن ما هو مصير مصداقية أميركا، ومصداقية الغرب، إذا انهارت الصفقة؟

لقد بثت الصفقة التي أبرمتها الولايات المتحدة وروسيا قدراً كبيراً من الشعور بالارتياح في أغلب العواصم الغربية، حيث لم يكن الزعماء السياسيون ببساطة مستعدين للتدخل العسكري، حتى ولو كانت حكومة سوريا تقتل شعبها بالغاز السام (وفي هذا الشأن فإن الاتفاق يكاد يرقى إلى اعتراف من جانب الأسد).

بثت صفقة الكيميائي قدراً كبيراً من الشعور بالارتياح في أغلب العواصم الغربية، حيث لم يكن الزعماء السياسيون ببساطة مستعدين للتدخل العسكري، حتى ولو كانت حكومة سوريا تقتل شعبها بالغاز السام

فبعد عشر سنوات من الحرب في أفغانستان والعراق، يفضل الغرب البقاء في الديار، ولا تريد الولايات المتحدة ولا المملكة المتحدة -ولا أغلب البلدان الأعضاء الأخرى في منظمة حلف شمال الأطلسي- التورط في صراع آخر في الشرق الأوسط لا يمكنها الخروج منه منتصرة.

والواقع أن خيارات الولايات المتحدة في سوريا كلها سيئة. فهي لا ترى للتدخل العسكري نقطة انتهاء واضحة، ولن يسفر إلا عن زيادة الفوضى. ولكن البقاء خارج اللعبة من شأنه أن يفضي إلى نفس النتيجة تقريباً ويزعزع مصداقية أميركا بشكل درامي في منطقة مبتلاة بالأزمات، وما قد يترتب على هذا من عواقب في المستقبل. وعلاوة على ذلك فإن استخدام الأسلحة الكيميائية يدعو إلى التصعيد.

يرى أغلب أهل الغرب في الحرب الأهلية في سوريا استمراراً للعنف الطائفي في العراق. ولكن سوريا ليست العراق. ولا يبحث الرئيس الأميركي عن ذرائع لشن الحرب، فأسلحة الأسد الكيميائية ليست ذريعة خيالية، ويؤكد حجم العنف في سوريا على المخاطر التي ينطوي عليها التقاعس عن العمل.

بطبيعة الحال، لا أحد يستطيع أن ينكر المخاطر المرتبطة بالتدخل العسكري: توسع الصراع إقليميا، ومقتل المزيد من الأبرياء، وتعزيز القوى المتطرفة بين المتمردين، على سبيل المثال لا الحصر.

بيد أن كل هذا يحدث الآن بالفعل، وسوف يستمر في الحدوث، لأنه يشكل جزءاً من منافسة أكبر على التفوق بين إيران وحلفائها الشيعة، والمملكة العربية السعودية وتركيا وغيرهما من البلدان السُنّية.

إذا لم ترد واشنطن على استخدام نظام الأسد للأسلحة الكيميائية، فإن العالم بأسره كان ليتساءل عن قيمة ضمانة الولايات المتحدة إذا كان "الخط الأحمر" الذي رسمه الرئيس الأميركي لم يُحتَرَم ومن دون أي عواقب.

الواقع أن العواقب في القدس وطهران وغيرهما من عواصم الشرق الأوسط، فضلاً عن شبه الجزيرة الكورية وبقاع أخرى ساخنة من العالم، قد تكون وخيمة (وربما هي كذلك بالفعل).

منذ بداية الصراع السوري، كانت الولايات المتحدة وحليفاتها في أوروبا تفتقر إلى إستراتيجية واضحة. فهل كان هدفها إنهاء الحرب الأهلية أم تغيير النظام في سوريا؟ ومن أو ماذا قد يحل محل الأسد؟ أو هل يطمح الغرب إلى التوصل إلى تسوية مع روسيا وإيران قد تسمح ببقاء نظام الأسد في مكانه؟

إن الهدف الأخير من شأنه أن يحول محور السياسة الأميركية في الشرق الأوسط، فضلاً عن العواقب الإستراتيجية البعيدة المدى التي قد يسفر عنها هذا التحول، لأن مثل هذه التسوية لا يمكن التوصل إليها إلا على حساب حلفاء أميركا من السُنّة.

 وحتى إذا كانت كل من روسيا وإيران تلاحق أجندة منفصلة في دعم الأسد، فإن مصالح البلدين ترتبط بشكل وثيق باستمرار النظام الحالي، وليس بالضرورة بقاء الأسد سياسيا.

فبالنسبة لروسيا يشكل تغيير النظام في سوريا -آخر مخافرها العسكرية في المنطقة- يعني هزيمة مريرة أخرى، وبالنسبة لإيران يعني تغيير النظام خسارة حليفها الأكثر أهمية في العالم العربي، مما يعني عزلة أشد عمقا.

إذا كانت كل من روسيا وإيران تلاحق أجندة منفصلة في دعم الأسد، فإن مصالح البلدين ترتبط بشكل وثيق باستمرار النظام الحالي، وليس بالضرورة بقاء الأسد سياسيا

وبالتالي فإن إستراتيجية حلفاء الأسد، على النقيض من مماطلة الغرب، محددة بوضوح: تحقيق النظام لانتصار عسكري، بدعم من إمدادات وافرة من الأسلحة، وفي حالة إيران بدعم من قوات وكيل إيران اللبناني حزب الله على الأرض.

لقد ارتكب أوباما خطأً فاجعاً عندما قرر مراعاة لأسباب سياسية داخلية أن يطلب من الكونغرس الأميركي الموافقة على ضربة عسكرية عقابية محدودة. والهزيمة في الكونغرس -والتي كانت متوقعة تماما- كانت لتشكل كارثة في السياسة الخارجية. وبرغم أن المبادرة الدبلوماسية الروسية (استناداً إلى اقتراح مشترك مع إيران) منعت وقوع هذه الكارثة، فإن لكل شيء ثمنه.

والثمن ليس بالضرورة اكتساب الكرملين المزيد من الهيبة، بل إن الخطر الحقيقي الذي ينطوي على الصفقة الأميركية الروسية يكمن في مكان آخر.

لم يكن الضعف أو العجز السبب الذي حض أوباما على اللجوء إلى رهان باهظ، فإذا نجح -فتم تدمير أسلحة سوريا الكيميائية، وأنهى مؤتمر للسلام الحرب الأهلية، وتولت السلطة حكومة انتقالية، وأطلقت الولايات المتحدة وإيران مفاوضات مباشرة حول البرنامج النووي الإيراني والاستقرار الإقليمي في الشرق الأوسط- فإنه بهذا سوف يستحق جائزة نوبل للسلام التي نالها.

أما إذا فشل أوباما، فإن سوريا لن تتحول إلى عراق ثان، ولكنها في الأرجح ستصبح تكراراً لكارثة البوسنة.

فلسنوات، ظلت الحرب في البوسنة والهرسك تتصاعد، إلى جانب "عملية دبلوماسية" اتسمت بسلسلة من الوعود الفارغة، وبلغت ذروتها بمذبحة سربرينتشا التي راح ضحيتها الآلاف من المدنيين الذين كان من المفترض أنهم تحت حماية الأمم المتحدة، وفي النهاية كان التدخل ضرورياً على أية حال.

هل الولايات المتحدة وحلفاؤها الأوروبيون على استعداد لسيناريو حيث ينهار الاتفاق مع روسيا ولا يتم تدمير الأسلحة الكيميائية السورية تحت رقابة دولية؟

هذا هو السؤال الأخلاقي والسياسي الفاصل البات بالنسبة للغرب. وعندما يحين الوقت، فلابد أن تكون الإجابة عن هذا السؤال جاهزة لديه.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.