جنيف والتحول الكبير

جنيف والتحول الكبير - كريستوفر .ر. هيل

undefined

الاتفاق بشأن أسلحة سوريا الكيميائية، الذي توصلت إليه روسيا والولايات المتحدة، يشكل أهمية كبرى، ولكن ليس لما قد يعنيه على الأرض، وهو ما سوف يتضح مع تدفق المفتشين إلى سوريا، وبدء تدمير المخزون من الأسلحة الكيميائية كما نرجو، بل يستمد الاتفاق أهميته الأساسية من حقيقة التمكن من إبرامه.

فقد التقى وزير الخارجية الأميركية جون كيري بنظيره الروسي سيرغي لافروف في جنيف (المسرح الأكثر تقليدية للعمل الدبلوماسي) وتوصلا إلى اتفاق بشأن قضية من أكثر قضايا الاهتمام المشترك أهمية.

وفي الأيام والأسابيع والأشهر المقبلة سوف تساهم الترتيبات المشتركة في إزالة الأسلحة الكيميائية من سوريا، كما نرجو، في بدء عصر جديد من التعاون بين الولايات المتحدة وروسيا في التصدي لقضايا عالمية أخرى ملحة. وتشكل العلاقات التعاونية بين الولايات المتحدة وروسيا ضرورة أساسية إذا كان للنظام الدولي، الذي يكاد يكون معطلاً الآن، أن يعمل على النحو اللائق في المستقبل.

"
ومن المحتمل أن يسفر الاتفاق بشأن سوريا عن أمر آخر، فقد يدرك الأميركيون، ويا للعجب، أن هناك طرقاً أخرى لحل المشاكل غير إسقاط القنابل
"

ومن المحتمل أن يسفر الاتفاق بشأن سوريا عن أمر آخر، فقد يدرك الأميركيون، ويا للعجب، أن هناك طرقاً أخرى لحل المشاكل غير إسقاط القنابل.

صحيح أن الهجمة الخرقاء -من جانب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذي كتب في صحيفة نيويورك تايمز مقالا بعنوان "دعوة للحذر"- بشأن الجدل الدائر في واشنطن، والتي أثارت غضب الكثير من الأميركيين (وأنا من بينهم)، كانت بكل تأكيد لحظة تنويرية.

لقد تصور كثيرون خارج الولايات المتحدة أن الوقت حان لكي يتقدم شخص ما ليذيق أميركا طعم نزعتها الأبوية، والأفضل من هذا أن ذلك الشخص هو بوتين، السياسي الذي يعاني من مجموعة خاصة من نقاط الضعف.

لذا فربما ينبغي للأميركيين أن يخففوا من لهجتهم المعادية لبوتين. فمن الناحية العملية، لا يبدو على الإطلاق أن بوتين يعاني من أي عواقب سياسية محلية معاكسة بفعل تقريعه في الولايات المتحدة. وعلى نطاق أوسع، فإن مدد أميركا من النصيحة الأخلاقية -بل والفجة- لبقية العالم تجاوز إلى حد كبير الطلب العالمي عليه. والواقع أن استعدادها للمواجهة العسكرية كخطوة مبكرة، وليس باعتبارها ملاذاً أخيرا، كان سبباً في تنفير كثيرين في مختلف أنحاء العالم. ولن ينجح أي قدر من الدبلوماسية العامة في تغيير هذه الحقيقة.

ويُعَد دعم حركات التمرد مثالاً واضحاً هنا. فالعديد من البلدان -وسوريا طفل مدلل في هذا السياق- تعاني تحت وطأة حكومات بائسة وحشية. ولكن دعم تمرد مسلح هو خطوة كبرى، وخاصة إذا كان المتمردون الذين ندعمهم بدؤوا شيئاً قد لا يكون بوسعهم إتمامه، كما هي الحال في سوريا.

وهذا لا يعني أن الولايات المتحدة لا ينبغي لها أبداً أن تدعم حركات التمرد ضد الحكومات الراسخة، ولكن القيام بهذا يكاد يكون دوماً شأناً منفردا، في غياب أي احتمالات واقعية بالنجاح في تجنيد العديد من الشركاء في هذه العملية. ولا بد أن يكون اللجوء إلى مثل هذا الخيار السياسي نادرا، وانطلاقاً من فهم واضح لحقيقة مفادها أن دعم الإطاحة العنيفة بالحكومات ليس بالتصرف الذي قد يحظى بشعبية كبيرة في مختلف أنحاء العالم.

إن الطريق الذي أوصل الولايات المتحدة إلى اتفاق جنيف مع الروس كان طويلاً وعاصفا، ولعله ألحق بالفعل بعض الضرر بمكانة أميركا في العالم، رغم أن النتيجة كانت أفضل من أي مبادرة أخرى مطروحة. ولكي تضع الولايات المتحدة هذه العملية وراء ظهرها فيتعين عليها أن تتابع مع الروس من أجل إنشاء نمط أوسع نطاقاً من التعاون الذي طال انتظاره.

"
لا تزال أي عملية سلام أملاً بعيد المنال، ولكن احتمالات تمكن أي طرف من تحقيق انتصار عسكري بعيدة أيضا، سواء في حالة وصول الأسلحة الأميركية إلى المتمردين أو عدم وصولها
"

ولنطلق على هذا زر "إعادة الضبط" -كذلك الذي قدمته وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون آنذاك لوزير الخارجية الروسي لافروف في عام 2009- أو أي مسمى آخر. ولكن ينبغي لهذا أن يكون أكثر من مجرد هدية مضللة. فإعادة الضبط لابد أن تتم في سياق من الجهود التعاونية الرامية إلى حل مشاكل حقيقية.

ولعل نقطة البداية الجيدة لهذا النوع من التعاون السعي إلى التوصل إلى اتفاقية سلام سورية تمكن الطوائف المختلفة في البلاد -التي يذبح أفرادها بعضهم البعض الآن- من الحياة في دولة واحدة.

وربما كانت الولايات المتحدة على حق عندما أعلنت أن الرئيس السوري الكذوب الوحشي بشار الأسد من غير الممكن أن يشكل جزءاً من أي حل في نهاية المطاف. ولكن في الوقت متسعاً للتأمل في هذا الأمر، وقد تشكل انتخابات سوريا المقررة في عام 2014 وسيلة لإنقاذ ماء وجه الأطراف جميعها في الخروج من هذا المأزق. وقد يساعد الدور الروسي في إقناع الأسد بتقديم تنازلات لن يقدمها ما دام ينظر إلى العملية برمتها باعتبارها تهدف إلى تدميره.

عند هذه النقطة، لا تزال أي عملية سلام أملاً بعيد المنال، ولكن احتمالات تمكن أي طرف من تحقيق انتصار عسكري بعيدة أيضا، سواء في حالة وصول الأسلحة الأميركية إلى المتمردين أو عدم وصولها. والبديل المتمثل في السماح لهذا الصراع حتى الموت بالاستمرار إلى النهاية -وهو الاقتراح الذي نسمعه يومياً على شاشات القنوات التلفزية الأميركية- لا يليق بحضارتنا. فمثل هذا السيناريو قد يعني القتال حتى آخر طفل سوري.

إن العالم يحتاج إلى كل الأيدي القادرة على المساعدة، وليس الروس والأميركيين فقط، بل أيضاً العرب والصينيين والأوروبيين وكل قادر آخر. وينبغي لنا جميعاً أن نستهدي بمنارة الأمل المشرقة في جنيف.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.