صيرورة السياسة والسياسيين في مصر

صيرورة السياسية والسياسيين في مصر

  undefined

عميقة ومتنوعة إلى حد بعيد هي التغيرات التي اعترت الساحة السياسية المصرية بشتى مكوناتها وركائزها خلال السنوات الثلاث المنقضية.

فمن بين التداعيات الإيجابية المتعددة التي تمخض عنها الحراك الثوري الممتد الذي تشهده البلاد منذ يناير/كانون الثاني من عام 2011، تطل برأسها تلك العملية السوسيولوجية الفريدة لإعادة هندسة السياسة بمختلف جوانبها وأركانها في مصر ما بعد مبارك.

ميادين وقضايا
بقدر معقول من الثقة يجوز القول إن تحولا ملفتا قد ألمَّ بالعملية السياسية في مصر على مرحلتين: أولاهما من الأروقة التقليدية ممثلة في الغرف المغلقة بالمؤسسات السياسية كالتنظيمات الحزبية والجمعيات الأهلية والبرلمانات والوزارات والقصور الرئاسية، إلى بؤر وساحات مغايرة لا تعرف للمؤسسية والتنظيم سبيلا، حيث الشوارع والميادين التي أضحت تصنع الحدث وتؤثر بعمق في عملية صنع القرار السياسي بشقيه الداخلي والخارجي.

من بين التداعيات الإيجابية المتعددة التي تمخض عنها الحراك الثوري، تطل برأسها تلك العملية السوسيولوجية الفريدة لإعادة هندسة السياسة بمختلف جوانبها وأركانها في مصر ما بعد مبارك

وثانيتهما، من المركز إلى الأطراف، بمعنى انتقال مراكز الزخم والتفاعل السياسي من العاصمة والمدن الرئيسية والكبرى إلى القرى والنجوع والبقاع النائية التي ظلت لعقود طوال في حالة خصومة بينة أو قطيعة شبه مطلقة مع النشاط السياسي بمختلف صوره وأشكاله.

ولقد طال هذا التحول السياسي عملية المشاركة السياسية بشتى مشاربها ومستوياتها، بدءا بتعاظم الوعي السياسي وتنامي الاهتمام بالشأن العام، مرورا بالانضواء تحت لواء الأحزاب والحركات السياسية والتنظيمات الأهلية والحركات المدنية، وصولا إلى ارتفاع نسبة الإقبال على التصويت في الانتخابات والاستفتاءات بالمناطق النائية وغير الحضرية، ثم انخراط أبناء تلك المناطق، بكافة فئاتهم العمرية وخلفياتهم الاجتماعية والفكرية، في تنظيم تظاهرات شعبية حاشدة لدواع وأغراض متنوعة، على غرار ما تجلى في يناير/كانون الثاني 2011 أو 30 يونيو/حزيران 2013.

وهو التطور الذي أعاد إلى الأذهان أجواء الحراك الشعبي الهادر الذي غمر تلك البقاع قبل عقود طويلة خلت، حينما تظاهر سكان الريف المصري تضامنا مع سعد باشا زغلول عام 1919، ثم انتفض بعد نيف وثلاثة عقود دعما لعبد الناصر وحركته المباركة وسياساته الجريئة التي تحولت بفعل هذا التأييد الشعبي الجارف إلى واحدة من أهم الثورات التي عرفها التاريخ المصري، إن لم يكن تاريخ البشرية جمعاء.

على صعيد مواز امتدت عملية إعادة هندسة السياسة في مصر لتشمل طبيعة ونوعية القضايا محل الاهتمام والتفاعل السياسي، فبعد أن كان جل اهتمام السواد الأعظم من المصريين منحصرا بالأساس في القضايا ذات الطابع الاقتصادي والمعيشي البحت، بدأت أولوياتهم تتسع لتفسح المجال أمام أمور سياسية أكثر تعقيدا وإنسانية، كالمطالبة بالعدالة الاجتماعية وإرساء أسس دولة المواطنة والحكم المدني، التي هي ليست بالدينية ولا بالعسكرية، فضلا عن إيلاء مزيد من الاهتمام لمسألة الديمقراطية وحقوق الإنسان والحريات بمختلف أنواعها، علاوة على محاربة الفساد وترسيخ مبدأ سيادة القانون.

فاعلون جدد
ربما كان التغير الذي اعترى الفاعلين السياسيين في مصر هو الأبرز والأعمق أثرا فيها منذ عرفت إرهاصات حراكها الثوري بدءا من صيف العام 2010.

فعلى خلاف ما كان سائدا فيما مضى من انحصار أولئك الفاعلين في الأوساط السياسية التقليدية والمتعارف عليها تنظيميا كالأحزاب ومنظمات المجتمع المدني، أظلت خارطة العمل السياسي والحراك المجتمعي في مصر مؤخرا تغيرات جوهرية مهدت السبيل أمام فاعلين سياسيين جدد كالجماهير بلا قيادة وغير المنتمية إلى أي فصيل سياسي تقليدي، كما الحركات الشعبية الجديدة كحركة "السادس من أبريل" وحركة "تمرد" وغيرهما.

فمن بين أبرز الثمار الهائلة التي تمخضت عنها ثورة 25 يناير/كانون الثاني 2011، تجلت ظاهرة "الجماهير بلا قيادة"، أو ما يعرف في علم الاجتماع السياسي بـ"اللا حركات اجتماعية"، أو في أصول النظم السياسية المقارنة بـ"السياسة من أسفل".

وهو ما يعني صعود دور قوى شعبية مؤثرة في مسار العملية السياسية من خارج الأطر التنظيمية والأوساط السياسية التقليدية المعروفة، حيث أقدمت قطاعات متعددة من القاعدة الشعبية العريضة على المبادرة بالفعل السياسي وتوجيه مسار التفاعلات السياسية، بمستوياتها كافة، من أسفل.

وبكلمات أخرى، يمكن القول إن مركز الثقل في عملية صنع القرار السياسي قد انتقل بفعل الحراك الثوري الهادر والمتواصل في مصر المحروسة، إلى الشارع والجماهير بعد أن أضحت اتجاهات التأثير في تطورات العملية السياسية من أسفل، حيث القاعدة الجماهيرية العريضة غير المنضوية تحت لواء أي تنظيمات سياسية إلى أعلى، إذ النخبة السياسية الحاكمة الضيقة ممثلة في الفاعلين السياسيين التقليديين المحسوبين على الأحزاب وقوى المجتمع المدني، بعد أن كانت في سالف الزمن تمضي باتجاه واحد فقط من أعلى إلى أسفل.

من أبرز الثمار الهائلة التي تمخضت عنها ثورة يناير، ظاهرة "الجماهير بلا قيادة"، أو ما يعرف في علم الاجتماع السياسي بـ"اللا حركات اجتماعية"، أو في أصول النظم السياسية المقارنة بـ"السياسة من أسفل"

فلسنوات طوال، ظلت الظاهرة السياسية مختزلة في النخبة السياسية الحاكمة ومحتكرة من جانب أشخاص بعينهم دون عامة الناس، ولما كانت تلك النخبة لا تجد أية غضاضة في مواصلة الاستعلاء على الجماهير معتبرة إياها غير مؤهلة لمباشرة حقوقها السياسية.

فقد دأبت الأولى على أن تسلب الأخيرة حقها في التصويت والترشح في الانتخابات ومن ثم في الرقابة على الحكومة ومساءلة أولي الأمر، ومن هنا كان تزوير الانتخابات عبر تزييف إرادة الناخبين والتمديد للحكام في السلطة لآماد غير محددة، وكذا تمرير القوانين والتشريعات دون الرجوع إلى من يعنيهم الأمر أو من تطبق عليهم.

وبينما كانت النظريات التقليدية في علم الاجتماع السياسي تتعامل مع الشارع العربي والمصري بوصفه مكونا سكونيا مسلوب الإرادة وتابعا للسلطة يأتمر بأمرها ولا يتحرك إلا في اتجاه واحد مثل "القطيع"، جاءت الانتفاضات والثورات الشعبية المتلاحقة لتدحض تلك الترهات والأحكام القيمية الجامدة وتثبت بما لا يدع مجالا للشك أن الشارع قد تحرر من الأسر وأمسى محركا رئيسيا لسياسات الدول، بوجهيها الداخلي والخارجي وفق ديناميكية ذاتية مستقلة.

وبقدر ما تنطوي بين ثناياها من إيجابيات شتى، ليس أقلها إيجاد نوع من الرقابة الشعبية الصارمة والمباشرة على السلطة الحاكمة، وإنهاء حالة الجفاء المزمنة بين الجماهير والسياسة، وإفساح المجال أمام تعزيز حضور الشباب في المشهد السياسي بعد طول تهميش وإقصاء، لم تنأ عملية إعادة هندسة السياسة في مصر بنفسها عن بعض المخاوف والهواجس التي تحاصر مجتمعا لا تزال تجربته الديمقراطية في أطوارها الجنينية.

وربما استبد ببعض الأوساط والدوائر السياسية والشعبية قلق من أن يقتطع تغول الشارع وتفاقم تأثير الفاعلين السياسيين الجدد من دور الوسائط السياسية التقليدية، حيث ينتابها تخوف من أن يفضي تزايد شعور الجماهير بالتمكين السياسي، بمعنى القدرة على التغيير والتأثير في عملية صنع القرار كما الاستغناء عن تلك الوسائط، إلى إبقاء وحصر السياسة في الشوارع والميادين واعتمادها كبدائل عن الأركان والآليات المتفق عليها للعملية السياسية كالمؤسسات والأطر الدستورية والأقنية الحزبية، على نحو يرتد بنا إلى زمن الديمقراطية المباشرة بدلا من ترسيخ دعائم النموذج المتعارف عليه عالميا للممارسة السياسية الأفضل حتى الآن على الأقل، والمتجسد في الديمقراطية التمثيلية.

أزمة النخبة
لا مراء في أن ما ذكر آنفا ربما يضع القوى السياسية المصرية بمختلف أطيافها وتوجهاتها أمام تحد تاريخي لا سبيل أمامها للنجاة من تداعياته السلبية المحتملة إلا بأن تغتنم عملية إعادة هندسة السياسة هذه لتعيد هيكلة بنيانها وبرامجها وآليات عملها، بما يتماشى وما سوف تسفر عنه تلك العملية من تنوع وتحول في الخارطة السياسية والاجتماعية الجديدة.

ومن ذلك أن تتواصل بلا إبطاء مع ميادين السياسة الجديدة مرحليا على ألا تدخر وسعا في العمل بجد ودأب من أجل العروج الهادئ والمتدرج بالسياسة والمشتغلين بها من فضائها الافتراضي المؤقت المتمثل في الشوارع والميادين، إلى الفضاء الواقعي الأبقى والأنسب حيث الهياكل المؤسسية والأطر الدستورية والقانونية والوسائط السياسية؛ وأن تعزز من حضورها وتموضعها السياسي والتنظيمي في الأطراف إلى جانب المركز، وتتبنى مبادئ وأفكارا أكثر واقعية كيما تتناغم واهتمامات الشرائح الجماهيرية صاحبة التأثير المتنامي.

ومن هذه الشرائح الشباب الذي كان بمثابة كلمة السر في الحراك الثوري الذي غمر البلاد جراء شعوره المضني والمزمن بالغبن والتهميش والإقصاء، فضلا عن معاناته المتواصلة من فجوة الأجيال، وهو الشعور الذي عجزت مخرجات ثورة يناير/كانون الثاني 2011 التي صنعها هذا الشباب عن تبديده، الأمر الذي دفعه إلى تأسيس حركات شبابية جديدة عساها تستوعب طموحه وتطلعاته على غرار حركة "تمرد" وغيرها، ليقود من خلالها موجات ثورية جديدة تتوخى تصحيح مسار ثورته والبحث عن ذاته واستعادة دوره المسلوب مثلما حدث في نهاية يونيو/حزيران الماضي.

وإذا كانت الانتفاضات والثورات الشعبية العربية قد أماطت اللثام عن محنة النخب السياسية والفكرية العربية عموما والمصرية منها تحديدا، والتي تجلت أبرز ملامحها في: افتقاد القدرة على المبادرة وطرح الرؤى وبلورة التصورات التي تمهد السبيل لتحويل انتفاضة الشباب وأحلامهم إلى برامج متكاملة وبناءة قابلة للتطبيق على النحو الذي يعين على صنع مستقبل أفضل للبلاد والعباد.

حري بالنخب ألا تستسلم للسقوط في براثن تملق الميادين وتزلف الجماهير بذريعة كونها باتت تحتكر منح صكوك الوطنية والثورية، وألا ترتكن إلى ممالأة النخب العسكرية، وأن تقدم مبادرات تحول دون إسقاط الدولة

وحري بتلك النخب الآن ألا تستسلم للسقوط في براثن تملق الميادين وتزلف الجماهير بذريعة كونها باتت تحتكر منح صكوك الوطنية والثورية، وألا ترتكن إلى ممالأة النخب العسكرية.

لا سيما بعد أن أكد فشل تجربة التيار المدني الإخواني في الحكم بالتزامن مع غياب بديل مدني أفضل يمكن الرهان عليه خلال تلك المرحلة الحرجة والعصيبة من تاريخ البلاد، أنها الأكثر شعبية والأقدر على الإبحار بسفينة الوطن الهوجاء وسط بحر متلاطم الأمواج، إلى حين يجود الزمان بنخب مدنية يمكن الاعتماد عليها والاستغناء بها عن انخراط العسكريين في السياسة وتولي دفة السلطة والحكم في ظل ثورة شعبية بُحَّ صوتها في المناداة بدولة الحكم المدني.

والأجدر بتلك النخب أن تقدح زناد أفكارها وتجتهد في ابتكار الطروحات الفكرية وتتوخى من السبل الدستورية ما يكفل ضبط وترشيد عملية إعادة هندسة السياسة في مصر الجديدة التي لم تتشكل ملامحها النهائية بعد، وكبح جماح اندفاعة الجماهير وتغول الشارع، بما يحول دون إسقاط الدولة والنيل من مؤسساتها وإرثها السياسي والحضاري، ويمنع استغلال تلك الاندفاعة أو إساءة توظيفها من قبل أية دوائر أو جهات مغرضة في الداخل أو الخارج.

كما يضمن أيضا استكمال التحول الديمقراطي المنشود، ويحقق التوازن المطلوب ما بين تصاعد تأثير الشارع وتنامي دور الجماهير عموما والشباب تحديدا، من جانب، واستعادة الدولة واستبقاء الركائز والأسس التقليدية للعملية السياسية الديمقراطية كالمؤسسات والوسائط السياسية من جانب آخر.

لعلها إذن تكون فرصة تاريخية، قد لا تتكرر أمام كافة الفاعلين السياسيين في مصر ما بعد يناير/كانون الثاني 2011 لممارسة النقد الذاتي والمراجعة من أجل الإصلاح وتصحيح المسار، توطئة للتكاتف سويا من أجل الحفاظ على الحراك الثوري من محاولات الاختطاف التي تتكالب عليه أو مساعي الإجهاض والتقويض التي تلاحقه وتتربص به، والعمل بغير كلل لاستكمال مسيرته وأهدافه التي لم تبصر النور حتى يومنا هذا، برغم كلفته الباهظة التي تكبدها شعب طالما تاق إلى أن يرتشف نسيم الحرية والديمقراطية وينعم بالتنمية والاستقرار، غير أن الحظ لم يحالفه ليدرك شيئا من هذا القبيل.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.