هل من عمل عسكري دولي ضد الأسد؟
بعد مجزرة النظام السوري بالسلاح الكيمياوي في غوطة دمشق مؤخرا كثرت التكهنات -التي باتت تعامل كحقائق- عن قرب تدخل عسكري دولي في سوريا. وهنا بات من الضروري توضيح بعض النقاط المبنية على المعلومات والتحليل معا، والتي يمكن أن تساعد في فهم ما يجري، وما يمكن أن يترتب عليه، وشروط حصوله. فدون ذلك قد تبنى الأفعال على أوهام، وتضيع الفرص كما حصل خلال عامين من الفشل السياسي المريع الذي كلف الثورة السورية كثيرا.
1- هناك صراع داخل الإدارة الأميركية ما بين تيار يقوده جون ماكين والجمهوريون في الكونغرس الأميركي، ومعهم جزء من الديمقراطيين يؤيد تقديم مساعدة عسكرية للثورة، تبدأ بتسليح المعارضة بالتعاون مع الدول الإقليمية (تركيا والسعودية وقطر والأردن) وتصل إلى حد توجيه ضربات عسكرية جوية وصاروخية للنظام بهدف إسقاطه عسكريا، وهي شراكة تتيح بناء علاقات وثيقة مع النظام الجديد.
بالمقابل هناك رأي تيار الأمر الواقع الحالي الذي لم يتغير منذ بداية الثورة، والذي يمثله أوباما شخصيا ومعظم أركان إدارته الرئيسيين (الدفاع والمخابرات والأمن القومي والخارجية) حيث يتجنب إسقاط النظام السوري عسكريا، ويصل إلى حد ممارسة الضغوط على الدول الإقليمية لعدم تسليح المعارضة، أو تخفيف الكميات وعدم التزويد بسلاح نوعي.
السيناريو الأول يتعلق بالسيطرة على السلاح الكيمياوي حصرا أو تدميره، بضرب مواقعه والاستعانة ببعض كتائب الجيش الحر لنقله خارج سوريا، مع إمكانية تنفيذ ضربات جوية لتلك المواقع |
وأكثر من ذلك، فإن السيد أوباما يتجنب توجيه أي رسالة علنية أو غير علنية بتلويح جدي بعمل عسكري ضد النظام، تحسبا لإثارة الهلع بين أنصار النظام وأركانه، خاصة في أوساط الطائفة العلوية التي تسيطر على البلاد عسكريا وأمنيا. فمثل هذا الهلع قد يؤدي لانهيار النظام، وهو ما لا يرغب فيه.
إن أوباما يأمل بحل سياسي بالشراكة مع النظام، يضمن استمرار الطائفة في حكم البلاد مع شراكة من قبل تيارات سياسية "سنية" تبقى ضعيفة لكونها ستبقى بعيدة عن السيطرة على الجيش والأمن ومفاصل البلاد الرئيسية، وذلك بحجة حماية مؤسسات الدولة من الانهيار.
فالنظام بشكله الحالي مطلب إسرائيلي ودولي، كما أن انهياره قد يؤدي إلى معاودة تسونامي الربيع العربي، وهو ما سيطيح بالاستقرار المستنقعي الاستبدادي الذي صممه الأميركيون في العالم العربي قبيل نهاية الحرب العالمية الثانية.
2- هناك تململ فرنسي من استبعادهم -ومن خلفهم الأوروبيين- عن الملف السوري وحصره بالتفاهم الأميركي الروسي، كما أن الأوروبيين غير قادرين على التحرك عسكريا دون قيادة أميركية، لذلك دأبوا على إحراج أوباما بالمزايدة عليه مع العجز عن التنفيذ، وهذا ما حصل في موضوع تسليح الثوار الذي تراجعوا عنه بعد سبعة أشهر من التلاعب بالملف، وهو ما يحصل اليوم من تصريحات حول الكيمياوي بهدف إحراج أوباما بخرق خطوطه الحمر.
ولكن الأوروبيين في الواقع غير راغبين بتاتا بمثل هذا التدخل العسكري، أما الدور البريطاني فلا يختلف عن كونه تابعا مكملا للدور الأميركي ضمنا، لتخريب أي استقلالية أوروبية، وهو الدور الذي لعبته بريطانيا بعد الحرب العالمية الثانية.
3- تصريحات واجتماعات أوباما بعد استخدام الكيمياوي كانت أولا لمحاولة امتصاص الضغوط على إدارته نتيجة تراجعه عن خطوطه الحمر في الملف السوري. وما طرح كان مجرد وضع سيناريوهات متعددة لكن تنفيذها مرتبط بتفويض دولي عبر مجلس الأمن، وهو دوران في حلقة مفرغة بسبب الموقف الروسي الذي يختبئ خلفه. وتمكن ملاحظة الاقتراب الكبير من الموقف الروسي حسب ما يخطط في جنيف2.
يحرص الأوروبيون على إحراج واشنطن والمزايدة عليها، نتيجة تململهم من احتكار الملف السوري أميركيا وروسيا، مع أنهم غير قادرين على التحرك عسكريا دون قيادة أميركية |
أما السبب الثاني فكان وضع سيناريوهات التدخل العسكري وفق شروطها، وهي سيناريوهات لا ينفي بعضها بعضا، بل تتكامل، وبالتالي يمكن تنفيذها على التسلسل أو على التوالي، وفقا لما سيرد في النقاط التالية:
4- السيناريو الأول يتعلق بالسيطرة على السلاح الكيمياوي حصرا أو تدميره لا أكثر من ذلك، بضرب مواقعه، والاستعانة ببعض كتائب الجيش الحر، تمهيدا لنقل هذه الأسلحة خارج سوريا، مع إمكانية تنفيذ ضربات جوية محدودة لتلك المواقع حصرا للسيطرة عليها، تمهيدا لنقل هذه الأسلحة إلى خارج سوريا، وهو سيناريو سينفذ غالبا عند ظهور ملامح انهيار النظام فقط، خوفا من تسرب الأسلحة إلى جهات غير مرغوبة، وبالتالي استخدام تلك الأسلحة ليس شرطا لتنفيذه. ويتضح من ذلك أن استخدام الكيمياوي ليس سببا كافيا للتدخل العسكري كما يتوهم أو يصور البعض، وبالتالي لابد من الدفع بأسباب أخرى ضمن بعض السيناريوهات التالية.
5- السيناريو الثاني هو توجيه رسالة للنظام السوري عبر ضربة عسكرية محدودة جدا، لا تهدف لإسقاطه ولا حتى إضعافه عسكريا، بقدر ما تهدف إلى جره لطاولة المفاوضات في جنيف2، وتقديمه تنازلات محدودة جدا لتبرير حضور المعارضة للمؤتمر الهادف لإجهاض الثورة.
وهذا السيناريو ليس كبير الاحتمال كما يعتقد البعض، ويسعى أوباما إلى تجنبه ما استطاع، وما اتصال كيري بالمعلم إلا لتنبيهه إلى حرج الإدارة الأميركية، واضطرارها للتحرك إن لم يقدم النظام تنازلات بالسماح للمفتشين بالعمل، لكن توثيق استخدام الكيمياوي لا يعني تحديد الجهة التي استخدمته، فذلك خارج إطار صلاحيات لجنة التفتيش، ناهيك عن تمرير الوقت والتلاعب الذي يتقنه النظام نتيجة تقييد عمل اللجنة بما قد يسمح بامتصاص الضغط على إدارة أوباما المحرجة.
6- السيناريو الثالث هو امتداد الصراع إقليميا إلى دول الجوار في العراق ولبنان.
إن بقاء الصراع محصورا داخل سوريا -مهما طال حتى اقتناع الأطراف وخاصة الثوار بقبول الحل السياسي وفق جنيف 2، أو ما سيأتي بعدها- وتدميرها في تلك الأثناء منهجيا بمرافقها المدنية والعسكرية هو أمر مرغوب، لكونه سيسمح بإضعاف أي سلطة (أو سلطات) قادمة بما يسمح باستتباعها بشكل كبير.
أما امتداد الصراع فسيدفع بالأميركيين والأوروبيين إلى توجيه ضربة عسكرية محدودة، هدفها أيضا جر النظام إلى طاولة المفاوضات مع بعض التنازلات، وربما دفع العلويين إلى تنظيم انقلاب عسكري ضد رأس النظام، لكن ذلك لا يعني ذهاب العائلة لأن رفعت الأسد يقوم بجهد محموم لتقديم نفسه لدى الطائفة واللاعبين الإقليميين والدوليين، وهي جهات تحمل الأمر محمل الجد، وبات في إطار المفكر به.
7- إن انتشار الصراع إقليميا أمر مفيد في أكثر من ناحية، لكنه أمر قد يتعارض أيضا مع مصالح جهات إقليمية ودولية، وهو حتما من مصلحة الثورة السورية، كما أنه من مصلحة بعض الجهات في الدول المعنية، وبشكل أدق السنة في العراق ولبنان، بما ينعكس إيجابا أيضا على المنطقة بإفشال المخطط الإيراني بشكل كامل. فبدون ذلك لا يمكن قلب الطاولة على المشروع الإيراني، بذراعيه الأهم في هاتين الدولتين، في إطار الأوضاع السياسية الجديدة التي ستنشأ بعد انتصار الثورة السورية.
سيدفع امتداد الصراع بالأميركيين والأوروبيين لتوجيه ضربة عسكرية محدودة، هدفها أيضا جر النظام إلى طاولة المفاوضات مع بعض التنازلات، وربما دفع العلويين إلى تنظيم انقلاب عسكري ضد رأس النظام |
ففي العراق يمثل الأمر فرصة لإعادة التوازن بعد أن تم تهميش السنة واضطهادهم، وهي فرصة قد لا تكون متاحة في ظروف أخرى، أما في لبنان فانتصار الثورة السورية أو انكسارها سيدفع الإيرانيين إلى وضع كل بيضهم في سلة حزب نصر الله الذي بدأ فعلا بالسيطرة علنا على لبنان، وبالتالي فإن الصدام العسكري السني الشيعي هناك قادم لا محالة، ومن الأفضل أن يتم اليوم بشروط أفضل بدلا من أن يأتي وقد استفرد حزب إيران بسنة لبنان، أما إن انكسرت الثورة -لا سمح الله- فستصبح المواجهة صعبة ومكلفة جدا، واحتمالات نجاحها ضعيفة.
إن هذا المنطق يزعج بعض القوى اللبنانية، لكنه في الواقع يتفق مع مصالح الثورة السورية، ومصالح اللبنانيين بكل طوائفهم، بمن فيهم الشيعة الذين سيتخلصون من سيطرة إيران بعد رفع وصايتها عنهم، وغشاوتها عن عقولهم التي لوثتها طائفيا، وهو منطق يخالفه أيضا كثير من المعارضين الذين يهتمون ويقدمون ما يراه آخرون على مصالح الثورة.
8- السيناريو الرابع يتمثل بتدفق اللاجئين إلى تركيا أو الأردن، وهو ما سيجبر الغرب (الأميركيين والاوروبيين) على إقامة مناطق عازلة في شمال وجنوب سوريا.
ففي تركيا يبدو الأمر مرغوبا، وتسعى لدفع حلفائها الغربيين للوقوف بجانبها لفرض هذه المناطق العازلة، وتوسيعها تدريجيا لتصل في النهاية لإسقاط النظام السوري دون تدخل بري مباشر، لكن حلفاءها يناورون.
أما المعارضة السورية فقد كان من المفترض أن تعطي الغطاء السياسي والمبرر للرغبة التركية تلك، بالدفع باتجاه وضع اللاجئين في الجانب التركي من الحدود، وعدم تركهم في الجانب السوري (مخيم أطمة مثلا) بدون مساعدات الأمم المتحدة وتحت القصف.
فدفعهم إلى الجانب التركي أمر مفيد للاجئين، كما أنه يعطي المبرر للأتراك -الذين سيستقبلون عددا كبيرا من اللاجئين- لإحراج الناتو ودفعه للتدخل كما ينص نظامه الداخلي، مما يسمح بإقامة مناطق عازلة في سوريا، أو فرض حظر جوي على مناطق أوسع في سوريا لحماية المدنيين. وهو أمر يحتاج إلى طلب سوري رسمي (من المعارضة) واضح ومباشر بهذا الشأن (وهو ما لم يحصل إلى اليوم) لإعطاء غطاء سياسي سوري، ثم غطاء عربي عبر الجامعة العربية ثم الأمم المتحدة تمهيدا لقيام تحالف دولي (بهذا التسلسل المشابه للحالة الليبية).
والمؤكد أن تدفق اللاجئين بهذا السياق السياسي سيعطي تركيا الحجة في وجه حلفائها في الناتو لإقامة مثل هذه المناطق الآمنة، والتي تستدعي إقامتها تدميرا واسعا لقوة النظام الجوية، بما سيساعد بالضرورة بشكل غير مباشر على إسقاطه عسكريا.
9- أما بالنسبة لتدفق اللاجئين إلى الأردن، فالأمر مختلف عنه في تركيا، فتدفقهم سيجبر الأميركيين والأردنيين على إقامة مناطق آمنة على جزء من محافظة درعا (وليس كلها) خوفا من انهيار محتمل للنظام الأردني الحساس ببنيته السياسية والاقتصادية والاجتماعية. وبالتالي فإن تدفق اللاجئين الذين باتوا يشكلون ما يقارب 20% من سكان الأردن يشكل خطرا، وهو ما استدعى إغلاق الأردن لحدوده أمام تدفق اللاجئين، وبات اليوم عشرات الآلاف منهم عند خط الحدود.
وهنا يلحظ أن عملية استخدام الكيمياوي في دمشق ومحيطها سيدفع مليونا ونصف مليون لاجئ في تلك المناطق للنزوح مع منعهم من العبور، وهو ما سيدفعه مجبرا بالتعاون مع الأميركيين لتنفيذ هذه المنطقة العازلة المحدودة.
تدفق المزيد من اللاجئين نحو الأردن سيجبر الأميركيين والأردنيين على إقامة مناطق آمنة على جزء من محافظة درعا خوفا من انهيار محتمل للنظام الأردني الحساس ببنيته السياسية والاقتصادية والاجتماعية |
ومن هنا كان التحرك الأميركي الجدي هذه المرة، واجتماع رؤساء الأركان في الأردن، لا بسبب الدماء السورية، ولا بسبب استخدام الكيمياوي الذي سيكون حجة يمكن تجاهلها أو استخدامها حسب الطلب، بل بسبب الخوف من نتائجه المتمثلة بالنزوح الجماعي الناتج عنه، ومن المؤكد أن مئات الآلاف منهم قد يتجهون للأردن، وهنا يبدأ الخطر، فقد لا تتمكن الحكومة الأردنية من منعهم من الدخول حتى باستخدام القوة التي لا يمكن أن تكون غير محدودة خوفا من ارتدادات ذلك داخليا.
ومن هنا سينحصر السيناريو بفرض هذه المنطقة العازلة غالبا بتنسيق روسي لإبلاغ النظام السوري للتعاون حتى لا تحتاج العملية لضربات عسكرية موجعة قد تضعف النظام السوري لدرجة الانهيار، وهو ما لا يرغبه الأميركيون والأردنيون، وبالتالي تظل المنطقة العازلة محدودة الغرض باستيعاب اللاجئين، لكنها لن تشكل قاعدة انطلاق عسكرية للمعارضة (كما يأملون) وقد يكون ذلك ضمن اتفاق الأطراف الروسية السورية الأردنية الأميركية.
مع الأسف، فإن بعض الكتائب المسلحة المعارضة تعمل على منع اللاجئين من الوصول إلى الأردن، وتركهم تحت القصف والمجاعة مما يؤخر إقامة المنطقة العازلة التي ستضعف النظام إن أُحسِن استغلالها.
10- السيناريو الأخير يتمثل بتدخل عسكري جوي وصاروخي واسع في حال تأكد الغرب أن النظام على وشك الانهيار بضغط المعارضة عسكريا، وسيكون ذلك في أيام النظام الأخيرة، والهدف منه تدمير ما تبقى من بنية عسكرية سورية أولا، ومن ثم وضع الغرب نفسه شريكا في التغيير الذي سيكون تحصيل حاصل، وبالتالي سيفرض نفسه طرفا للتدخل بالخيارات السياسية لسوريا، وبما يسمح له أيضا بحماية بقايا النظام الطائفي، وإبراز وجوه جديدة منه ومحاولة تأهيله ليكون شريكا قويا للتعويض عن هزيمته العسكرية، وإبقاء وجود سياسي ما له في دمشق، بالإضافة لحماية مناطقه من سيطرة الثوار.
كان ذلك هو ما يخطط له كثير من الأطراف، أما الإستراتيجيات المقابلة المطلوبة من قبل المعارضات والثوار فهي غير موجودة مع الأسف.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.