مصر منقسمة بين ثورتين

العنوان: مصر منقسمة بين ثورتين - الكاتب: حمدي عبد الرحمن

undefined

التوافق السياسي
العدالة الانتقالية
عسكرة السياسة

لا شك أن ثمة تحولات فارقة قد حدثت في بنية الثقافة السياسية المصرية الحديثة. فالثقافة السكونية التي ميزت نمط الفرعونية السياسية الذي تحدث عنه الراحل جمال حمدان قد أعطت الحاكم مهما كانت صفته، ملكًا أو أميرًا أو رئيسًا، طابع القداسة والتبجيل. لأن خروج المصريين أفرادًا وجماعات للمطالبة بحقوقهم وإصلاح تدبير أمورهم، بل وتمكنهم من الإطاحة برئيسين من سدة الحكم في أقل من عامين ونصف قد أعاد بلا شك، صياغة العلاقة بين الحاكم والمحكوم في النظام السياسي المصري الحديث.

لقد أثبت الحراك الشعبي العام الذي قاده الشباب سواء في 25 يناير/كانون الثاني2011 أو في 30 يونيو/حزيران 2013 أن الحاكم في مصر قد أضحى خادمًا للشعب وأن المصريين قد أصبحوا رقما صعبًا في معادلة السياسة والحكم. وهذا درس مهم لا يمكن تجاوزه لمن أراد أن يتولى أمور العباد والبلاد في مصر المحروسة في قادم الأيام.

ولعل اللافت للانتباه في التجربة المصرية أن المؤسسة العسكرية، وهي مؤسسة وطنية متماسكة، قد انحازت إلى صفوف الجماهير وساندت مطالبهم المشروعة. وأحسب أن القول "بعسكرة" الثورة المصرية يحتاج إلى إعادة مراجعة حيث ينبغي تبني منظور مصري واقعي لدراسة وفهم طبيعة العلاقات المدنية العسكرية في سياق التكوينات الاقتصادية والاجتماعية السائدة في مصر بالإضافة إلى التحولات الإقليمية والدولية المحيطة بنا.

ويسعى هذا المقال إلى طرح وبلورة ثلاث قضايا كبرى أظهرت تجربة الانتقال الديمقراطي في مصر منذ الإطاحة بنظام مبارك أنه لم يتم التعاطي معها بشكل صحيح وهو ما أدى في نهاية المطاف إلى تراجع كثير من المصريين عن إعلاء مفهوم الشرعية الدستورية والقانونية وأن يطيحوا بأول رئيس منتخب لهم وهو الدكتور محمد مرسي بعد عام واحد فقط من توليه السلطة، وذلك استنادًا إلى مفهوم الشرعية الثورية واستكمالا لمطالب ثورة يناير 2011.

ليكن الشعار الجامع في هذه المرحلة هو "مصر للمصريين" الذي يعلي من قيم المواطنة والمساواة والعدالة الاجتماعية بغض النظر عن الدين أو النوع أو الانتماء الإقليمي

التوافق السياسي
يبدو أن الثورة الأولى التي أطاحت بنظام مبارك قد التفت حول هدف واحد هو "الشعب يريد إسقاط النظام"، كما أنها رفعت أيضا شعارا عاما هو: حرية، عيش، عدالة اجتماعية. ومع ذلك فقد كانت هذه الثورة بلا رأس يحركها أو رؤية أيديولوجية تعبر عنها، وهو ما جعلها أسيرة إدارة غير مؤهلة وغير قادرة. فقد رأت كثير من أجهزة الدولة الموروثة عن عهد مبارك أن المقصود هو التخلص من مبارك ومشروع التوريث المرتبط بأسرته.

كما أن القوى الإسلامية وعلى رأسها جماعة الإخوان المسلمين قد استغلت مظلوميتها التاريخية وقدرتها على الحشد والتنظيم الجماهيري فقادت مشروع الاستئثار والتمكين بعيدا عن إحداث توافق وطني حقيقي.

ولعل المعضلة الكبرى التي واجهت حكم الرئيس السابق محمد مرسي، رغم تمتعه بالشرعية الثورية والانتخابية أنه لم يتمكن من التعامل بحكمة مع جدلية العلاقة بين المجتمع والدولة في مصر الجديدة. فقد أدت ثورة 25 يناير إلى إفراز مجتمع مصري تعددي وديمقراطي يموج بالتيارات السياسية المتباينة بين سلفية دينية محافظة وأخرى مسيسة وعلمانية ليبرالية واشتراكية، فضلاً عن خطاب إعلامي لم يلتزم في أغلب الحالات بقواعد المهنية والالتزام الأخلاقي.

وفي المقابل فإن النظام السياسي الذي جاء على رأسه الدكتور محمد مرسي نفسه لم يستطع أن يحقق التوافق السياسي فأضحى معبرًا عن رؤية فصيل واحد، وهو ما جسدته عملية صياغة وإقرار دستور 2012، بالإضافة إلى الاستعلاء على المعارضة الحزبية والتهوين من شأنها في نفس الوقت الذي تم فيه إقصاء القوى الشبابية من المشاركة. وقد كان واضحًا للعيان أن حكومة مرسي وهي تلفظ أنفاسها الأخيرة قد حظيت باستعداء الجميع بما في ذلك مؤسسات الدولة الكبرى وعلى رأسها الجيش والشرطة والقضاء.

ولعل الدرس الأول هنا الذي ينبغي أن يوجه عملية الانتقال الثانية في مرحلة ما بعد محمد مرسي هو ضرورة بناء توافق مصري عام دون إقصاء لأحد ولا سيما حركات الإسلام السياسي حتى لا تعود مرة أخرى إلى الخروج من الفضاء السياسي وتستحضر خبرة الاضطهاد والمظلومية السياسية لأفرادها. وليكن الشعار الجامع في هذه المرحلة هو "مصر للمصريين" الذي يعلي من قيم المواطنة والمساواة والعدالة الاجتماعية بغض النظر عن الدين أو النوع أو الانتماء الإقليمي.

العدالة الانتقالية
لا يمكن إلقاء اللوم على نظام الرئيس محمد مرسي وحده في افتقاد مصر لبرنامج واضح المعالم حول تطبيق العدالة الانتقالية الناجزة التي تضمن محاكمة سريعة وعلنية للمتورطين في جرائم الفساد وانتهاك حقوق الإنسان في النظام السابق بالإضافة إلى تعويض الضحايا على مدى أكثر من ثلاثين عاما وأن تتوج هذه العملية بالإصلاح والتطهير المؤسسي ولاسيما الشرطة والقضاء.

لقد كان تراخي المجلس الأعلى للقوات المسلحة الذي حكم مصر بعد الإطاحة بنظام مبارك سببًا واضحًا في تعطيل برنامج العدالة الانتقالية وهو ما أدى إلى تبرئة معظم المتهمين في قضايا الإفساد في النظام السابق.

وعلى الرغم من أن تاريخ مرفق العدالة المصري حافل بالمواقف الوطنية المشرفة التي انحازت لتحقيق العدالة بوصفها قيمة عليا فإن مرحلة ما بعد ثورة 25 يناير أدت إلى تسييس القضاء والدفع به دفعًا في معترك السياسة. لقد وجد القضاة أنفسهم أمام ضرورة الفصل في قضايا ومحاكمات هي سياسية بالدرجة الأولى وهو ما جعل الأحكام الصادرة لا يرضى عنها كثير من القوى الثورية والشعبية. ولعل خطورة هذا الأمر تتمثل في ضعف ثقة الرأي العام بمرفق العدالة المصري.

ومن الواضح أن مؤسسات العدالة المصرية بما فيها المحكمة الدستورية العليا قد خضعت لعمليات ابتزاز وترهيب سياسي من معظم الفرقاء السياسيين في مصر بعد الثورة، ألم تتم محاصرة القضاة ومنعهم من ممارسة مهام أعمالهم تحت سمع وبصر أولي الأمر في البلاد؟ ألم تخرج المظاهرات السياسية المناوئة لمرفق العدالة والمطالبة بالتطهير؟!. ولعل ما زاد الطين بلة هو اتهام الرئيس السابق محمد مرسي في خطاب علني لأحد القضاة بالتزوير، وهو ما يعد اعتداء سافرا على السلطة القضائية.

على الرغم من أن تاريخ مرفق العدالة المصري حافل بالمواقف الوطنية المشرفة, فإن مرحلة ما بعد ثورة 25 يناير أدت إلى تسييس القضاء والدفع به دفعًا في معترك السياسة

وعلى أية حال فقد بات من الواضح أن معظم الساسة وجمعيات المجتمع المدني والأفراد يلجؤون إلى المحاكم لتحقيق مصالحهم المتصارعة، وهو ما يعني "قضينة" السياسة.  "Judicialization of politics."

لقد أضحت المحاكم المصرية مطالبة بالفصل في كثير من القضايا الخلافية البالغة التعقيد ابتداء من مسألة حقوق الإنسان ومرورًا بالسياسات الاقتصادية وانتهاء بقضايا العدالة الاجتماعية. لم يكن غريبًا أن تقوم المحاكم والهيئات القضائية بأدوار ووظائف صنع السياسات العامة، كما أن اللغة والإجراءات الخاصة بمرفق العدالة باتت تسيطر على المؤسسات العامة وعلى أجهزة الإعلام وكذا في الحوارات العامة.

وأحسب أن الدرس الثاني هنا بالنسبة للتجربة المصرية هو ضرورة أن تقود المحاكم عملية التغيير الاجتماعي لصالح الطبقات الفقيرة والمهمشة سياسيا واجتماعيا مثل المرأة والأقباط والمحافظات النائية. ولعل وجود المستشار عدلي منصور على رأس هرم السلطة في مصر بعد خلع الرئيس مرسي يساعد في إصلاح مرفق العدالة وتحقيق برنامج العدالة الانتقالية، وفوق ذلك كله استعادة القضاء ثقة واحترام المصريين.

عسكرة السياسة
لقد أظهرت خبرة الانتقال الديمقراطي الأولى في مصر أن عسكرة السياسة تعد من أبرز التحديات الكبرى التي سوف تواجه أي حكومة منتخبة ديمقراطيا. فثمة تبرير مستمر لتدخل العسكر في الحياة السياسية بشكل مباشر تحت دعاوي مختلفة مثل فساد النظام الحاكم وسوء الإدارة وعدم الكفاءة من جانب السياسيين.

كما أن شيوع الأيديولوجية العسكرية التي تؤكد على أن العسكر هم الأقدر على الحكم لأنهم الأكثر كفاءة وطهرًا وعدم تحيز تجعل منهم في أعين العامة الحامي والمنقذ. بيد أن الأكثر خطورة هو عمليات تطوير أنماط من العلاقات المدنية العسكرية تحظى فيها المؤسسة العسكرية بالهيمنة والسيطرة، وهو ما تغاضت عنه القوى السياسية في مصر بعد ثورة يناير.

وعليه فإن الحالة المصرية تطرح معضلة حقيقية أمام أي صياغة ديمقراطية لنمط العلاقة بين النخبة العسكرية والنخب المدنية والسياسية في مرحلة التحول الديمقراطي. ربما يعزى ذلك لعدة أسباب لعل من أبرزها خبرة عسكرة السياسية المصرية منذ تدخل الجيش بمساندة شعبية عام 1952 وانتصار حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973، وهو ما جعل مبدأ السيطرة المدنية على العسكريين أمرًا مثاليًّا لا يتفق مع مجريات الواقع الفعلي.

كما أن حالة الصراع العربي الإسرائيلي المستمرة برغم اتفاقية السلام المصرية الإسرائيلية عام 1979 جعلت المؤسسة العسكرية تتوسع في تعريف المخاطر التي تهدد الأمن القومي المصري، وهو ما يعطيها المبرر لاستخدام أدوات القوة العنيفة الموجودة لديها.

على أن أخطر ما يميز التجربة المصرية هو تطور الروح الجمعية للمؤسسة العسكرية التي باتت تؤكد على قيم الاحتراف والانضباط المؤسسي وهو ما دفعها للمشاركة بأكثر من 20% من إجمالي الناتج القومي.

كما أن تعدادها الكبير الذي يقترب من نصف مليون فرد قد وفر لها قاعدة كبيرة للتأييد الاجتماعي. ولعل ذلك يبرر، ولو جزئيًّا، قرارها بالتخلي عن مساندة نظام مبارك في يناير 2011 وعودتها سريعا للإطاحة بنظام محمد مرسي عام 2013 بهدف الخروج من حالة الانسداد السياسي التي أصابت أركان الدولة والمجتمع في مصر بالشلل التام.

لا بد من إصلاح نمط العلاقات المدنية العسكرية القائم في مصر بحيث يستند على أساس من المسؤولية المتبادلة بين ثلاثة مكونات أساسية في المجتمع وهي المؤسسة العسكرية والنخب السياسية ومؤسسات المجتمع المدني

إن الدرس الأهم هنا يتمثل في ضرورة إصلاح نمط العلاقات المدنية العسكرية القائم في مصر بحيث يستند على أساس من المسؤولية المتبادلة بين ثلاثة مكونات أساسية في المجتمع وهي المؤسسة العسكرية والنخب السياسية ومؤسسات المجتمع المدني. ولا شك أن هذا الإصلاح لابد أن يعتمد على الحوار والتوافق والالتزام بالقيم والغايات المشتركة. ويفترض هذا النمط الجديد تحديد أدوار ووظائف كل طرف من أطراف هذه المعادلة الثلاثية.

وعلى أية حال فإن أدوار ووظائف المؤسسة العسكرية الجديدة التي نريدها ينبغي النص والتوكيد عليها في الدستور. إذ ينبغي أن يخضع عمل العسكريين لقواعد وإجراءات ديمقراطية واضحة. فالمساءلة والرقابة لا تتوقف عند المستوى البرلماني وإنما ينبغي أن تشارك الجماهير في صياغة السياسات الأمنية الوطنية.

وخلاصة القول أن مصر بحاجة ماسة اليوم إلى أن تهدأ وتتصالح مع نفسها بإعلاء قيم التسامح والحوار والعفو. إذ لا يمكن بناء نظام ديمقراطي حقيقي دون وجود توافق مجتمعي عام. ولعل هذا التوافق هو الذي يفضي إلى إصلاح بنية الدولة الموروثة عن عهد مبارك وعلى رأس ذلك مؤسسات الشرطة والقضاء والإعلام. فهل تنتظر مصر بعد ثورتين متسارعتين ظهور نيلسون مانديلا بلباس مصري ليقود عمليات المصالحة والبناء المنشودة؟

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.