الصراع السوري وأفق الحرب الباردة

العنوان: الصراع السوري وأفق الحرب الباردة! - الكاتب: أكرم البني

undefined 

ليس من السهل تفسير موقف موسكو المتشدد من الثورة السورية وإصرارها على دعم النظام بكل الوسائل السياسية والعسكرية بخلاف تعاطيها المرن مع الثورات العربية الأخرى، لكن تعجب ممن اتكأ على ذلك وبدأ يفرك يديه فرحاً معولاً على دور عالمي جديد للاتحاد الروسي، وكأنه يمني النفس بأن يشهد العالم في وقت قريب عودة محمومة لسباق التسلح وأجواء الحرب الباردة، وما قد يتركه تفاقم الصراع بين القوى العظمى من هامش حركة وحماية لأنظمة استبدادية ترعرعت على أساليب القوة والمكاسرة لتحقيق الغلبة والسيطرة.

وفي الحقيقة، هي كثيرة ومتنوعة، الأسباب التي تقف وراء التشدد الروسي من الصراع السوري، فلا يخطئ من يعتبره تمسكاً بآخر موطئ قدم في الشرق الأوسط، وللاحتفاظ بالقاعدة البحرية في مدينة طرطوس كبعد إستراتيجي هام لموازنة الحضور العسكري الغربي في البحر الأبيض المتوسط.

الأسباب التي تقف وراء التشدد الروسي من الصراع السوري، هي الإمساك بآخر موطئ قدم في الشرق الأوسط، والاحتفاظ بالقاعدة البحرية في مدينة طرطوس كبعد إستراتيجي هام

ولا يخطئ من ينظر إليه من زاوية المصلحة الاقتصادية وحاجة موسكو إلى استمرار توريد الأسلحة وزيادة حجم التبادل التجاري مع دمشق، أو لأنها قبضت ثمن موقفها من حليف سوريا الإيراني في سياق الصفقات المتبادلة بينهما.

مثلما لا يخطئ من يجد فيه ورقة ضغط وابتزاز، مرة على الأطراف الغربية وأميركا للرد على مشروع الدرع الصاروخي أو على الأقل إعاقته بعد أن وصلت بعض تفريعاته إلى الأراضي التركية، ومرة لتحصيل ما يمكن من مكاسب مادية وسياسية من العرب وخاصة استجرار المزيد من العلاقات التجارية معهم، ومرة ثالثة لما يشاع عن أهمية الموقع السوري كجزء من مشروع إستراتيجي لمد أنابيب الغاز الخليجي إلى أوروبا عبر تركيا وهنغاريا، وما يترتب على ذلك من تراجع الحاجة الغربية للغاز الروسي وانحسار دور موسكو السياسي في أوروبا.

وأيضاً لا يجانب الصواب من يعتبر الأمر محاولة لإظهار صورة مبالغ فيها عن قوة روسيا عالمياً غرضه ضبط الوضع الداخلي ومواجهة قطاعات واسعة من الشعب الروسي بدأت بالتذمر وفقدت الثقة بالقيادة الحالية، ونزلت مرات إلى الشوارع رفضاً لتفاقم الأزمة الاقتصادية والاجتماعية وضد ما اعتبرته استئثاراً بالسلطة من جانب بوتين وحزبه، وطبعاً فإن الهرب من معالجة المشكلات الداخلية هي عادة مألوفة لدى مختلف الأنظمة المأزومة لتعويض عجزها عن تلبية احتياجات الناس بتحويل الأنظار صوب صراعات الخارج، ولعل الإيحاء في الخصوصية الروسية بأن سياسة الكرملين تمكنت من إرجاع روسيا إلى موقعها كقوة عظمى ونجحت في إجبار العالم كله على التعامل معها وفق ذلك، وفر لحكومة موسكو فرصة ثمينة لمحاصرة الحراك الشعبي واعتقال المعارضين وإسكات أصوات الناقمين، وبأقل ردود أفعال.

وأخيراً، لا يخطئ من يضع السبب في وزن اللوبي الصهيوني وقوة تأثيره هذه المرة، ليس على قرار الغرب بل على قرار الشرق، ممثلا بروسيا والصين، ومطلب هذا اللوبي هو تخفيف الضغط على النظام السوري وعدم السماح بإسقاطه، إما لأن إسرائيل تخشى البديل حيث ازداد قلقها من مزاج الثورات العربية ذات الطابع الشعبي الإسلامي المناهض لسياستها، وإما لأنها تتقصد دفع الوضع السوري نحو المزيد من الاستنزاف والخراب والاهتراء كي تأمن جانبه لعقود طويلة.

زاد الطين بلة شعور موسكو بمرارة الخديعة مما حدث في ليبيا وتنكر الجميع لمصالحها بعد أن مررت قراراً أممياً وظفه حلف شمال الأطلسي في إطاحة القذافي وأركان حكمه، وأيضاً إحساسها بأن ثمة محاولة لتطويقها عبر توافق جديد بين الدول الغربية وفي مقدمها الولايات المتحدة وبين الإسلام السياسي الذي يحتل وزناً مؤثراً في الحراك الشعبي العربي، والأهم تحسبها من توظيف رياح التغيير التي تهب على المنطقة، لإثارة شعوب الجمهوريات الإسلامية المجاورة لها في آسيا وبلدان القوقاز، خاصة وإنها لم تنس هزيمتها المرة في أفغانستان نتيجة تحالف مشابه بين الأميركيين والإسلاميين.

وعليه فالسياسة الروسية المتشددة من الصراع السوري ليست مؤشراً لعودة أجواء الحرب الباردة، كما تراهن بعض دوائر السلطة التي اعتادت أن تعتاش على هذه الأجواء وتستقوي بها، فمثل هذا الرهان لا أساس له اليوم ولا حظ، ومن قبيل الأوهام رسم صورة لمستقبل قريب تعود فيه المناخات القديمة لتكون سيد الموقف ويعود فيه الصراع الأميركي الروسي ليرسم وجه الأحداث العالمية.

صحيح أن روسيا تبقى منزعجة بشدة من خسارتها الحرب الباردة ويتملكها حنين قوي إلى وزنها وموقعها العتيق، ولا يرضيها تفرد الغرب في الهيمنة على المسرح العالمي، وصحيح أن انزعاجها الأكبر وسخطها الأشد إنما ينبع أكثر من أي شيء من ازدياد النفوذ الغربي في محيطها الجغرافي وسعي أميركا لتنفيذ مشروع الدرع الصاروخي في بلدان أوروبية كانت حتى الأمس القريب تدور في الفلك الروسي، لكن الصحيح أيضاً أن موسكو اليوم ليست مؤهلة للعب دورها القديم ولنقل ليست بوارد العودة إلى احتلال موقعها كقطب عالمي منافس، وتالياً من الخطأ أن تخدعنا عبارات التحدي التي أطلقها قادة الكرملين ونعتبرها جدية ونهائية.

أمر بديهي أن تستفيد قيادة الكرملين من التراجع الغربي الراهن كي تعزز موقعها ونفوذها، ولكن دون سقف احتلال موقع القطب العالمي المعارض

فالحكومة الروسية غير قادرة على دفع هذا التحدي إلى النهاية، وكلنا يذكر كم من مواقف واندفاعات هجومية جربتها قيادة الكرملين في غير مناسبة وتراجعت عنها بسرعة لافتة لحساب دعوات التشارك والتعاون، خاصة عندما تظهر واشنطن جديتها وتلوح بالعصا الغليظة، فأميركا لا تزال تملك القوة الأكثر نفوذاً، سياسياً وعسكرياً واقتصادياً، ما يبقيها في موقع اللاعب الأول والمقرر لمصير الكثير من الصراعات الوطنية والأزمات الإقليمية.

وعليه، هو أمر بديهي أن تستفيد قيادة الكرملين من التراجع الغربي الراهن كي تعزز موقعها ونفوذها، ولكن دون سقف احتلال موقع القطب العالمي المعارض، فهي تعرف أكثر من غيرها خطورة التظاهر اقتصاديا وعسكرياً، بأنها باتت دولة عظمى كما كانت أثناء العهد السوفياتي لمجرد أن الدولة الأميركية التي كانت تستفرد بمكانة الدولة العظمى قد أصابها بعض الإنهاك وتراجع دورها، وتعرف أيضاً أن الشراكة والتعاون مع الغرب هو الطريق الأسلم بدلاً من الانبهار بتفوق واهم وعابر، وتعرف تالياً أن استخدام نبرتها "السوفياتية" في التحدي، لا يمكنها -وحتى إشعار آخر- أن تتجاوز حدوداً موضوعية ترسمها توازنات القوى القائمة على الأرض.

والقصد، أن النهج السياسي لقيادة الكرملين لا تحدده المبادئ والقيم، بل المصالح المادية وطرق حمايتها بما في ذلك التلاعب بالمواقف لضمان استقرار هذه المصالح وتنميتها، وهو نهج أقدر على التعاطي براغماتياً مع أزمات العالم وربما جل ما يتطلع إليه أصحابه أن يؤخذ بالحسبان رأيهم في تقويم الأزمات الإقليمية واحتمالات تطورها، ومن هذه القناة يمكن النظر إلى حقيقة خلافات موسكو مع الغرب بشأن الصراع السوري واستخدام تشددها كورقة ابتزاز لتشجيعه على الدخول في شراكة جديدة معها بعد أن خرجت بخفي حنين من ليبيا، بل ويجوز تصنيف هذه السياسة في إطار البحث عن شروط جديدة للتعاون ولنقل كباب مفتوح أمام طريق المساومات والذي قد يفضي، في وقت قريب، إلى توافقات جديدة تناسب الطرفين.

وبمعنى آخر، فهو نوع من التبسيط باعتبار الموقف الروسي من المسألة السورية منعطفاً نوعياً أو بداية لمرحلة جديدة عنوانها القطيعة والجفاء مع الغرب بدل الحوار والتشارك، والدليل إصرار كل طرف على الاعتراف بدور الآخر في معالجة الحالة السورية، وصل أحياناً عند الغرب إلى حد التسليم بدور مفتاحي لموسكو في هذا البلد، لأسباب تتعلق بتعقيدات الوضع السوري وارتباطاته مع أهم الملفات الحساسة في المنطقة، وهي ثمرة سارعت روسيا لقطفها وبادرت لاستثمار علاقتها التاريخية مع دمشق ومعرفتها بتعقيدات المشهد الداخلي، لتظهر للجميع بأنها بالفعل الطرف الأجدر على معالجة الحالة السورية والذي لا يمكن المرور فوقه، وأن الحد الأدنى الذي يطمئنها ويحترم مصالحها هو ضمان انتقال السلطة تحت رعايتها أو بمشاركتها.

روسيا اليوم ليست روسيا السبعينيات والثمانينيات، وما يجري تجاه الملف السوري أشبه بلعبة عض أصابع لن تتعدى حقل "التنازع الآمن" على بعض حصص السيطرة والنفوذ، في ظل تشابك المصالح وتنامي القدرة على احتواء الأزمات، خاصة وأن حكومة الكرملين خير من يعلم أن تحررها من أعباء دورها العالمي كان أهم رافعة لتتجاوز أزمتها الداخلية، وأكثر من يعي بأن الشعب الروسي بعد خلاصه الصعب من كوارث السياسات القديمة، غير راغب في تغيير مساره التنموي الواعد ودفع فاتورة جديدة لسباق التسلح والتنازع على النفوذ، فقد جرب هذا الخيار طويلاً ولم يفض إلى نتيجة سوى مزيد من العذاب والمعاناة.

لكن ومثلما يجب الاعتراف بأن روسيا اليوم ليست الاتحاد السوفياتي، يجب الاعتراف بأنها ليست روسيا التي انكفأ دورها أواخر القرن الماضي، بل هي دولة نجحت في معالجة أوضاعها الاقتصادية المتعثرة وتمكنت من تسديد غالبية ديونها وبدء مرحلة من التطور المستقل والازدهار، ربما ساعدها في ذلك الارتفاع الكبير في أسعار النفط، لكن أساساً تحررها من أعباء دورها العالمي، وهي تالياً تقف اليوم في وضع يؤهلها للعب دور عالمي أكبر من الماضي على حساب التراجع النسبي في أداء واشنطن، بسبب الأزمة الاقتصادية الأميركية المتفاقمة منذ سنوات وبسبب كلفة التفرد الباهظة في قيادة العالم والحرب الواسعة ضد الإرهاب، والفشل في تحقيق النتائج المرجوة من الحربين على أفغانستان والعراق.

من الحسن أن تنتهي الحقبة الراهنة التي ينفرد فيها طرف واحد في قيادة العالم، وأن نشهد تعدد الأقطاب المتنافسة سياسياً واقتصادياً، لكن الواقع اليوم لا يزال بعيداً عن هذا الحلم

هو أمر حسن أن تنتهي الحقبة الراهنة التي ينفرد فيها طرف واحد في قيادة العالم، وأن نشهد تعدد الأقطاب المتنافسة سياسياً واقتصادياً، بما يوفر فرصة أفضل أو لنقل فرصة أقل سوءاً أمام البلدان المتخلفة للنمو والتطور، لكن الواقع اليوم لا يزال بعيداً عن هذا الحلم ولا تزال الولايات المتحدة تملك ما يميزها من القوى والإمكانيات الاقتصادية والعسكرية لتستمر في السيطرة على القرار العالمي، ولتبقى ممسكة بزمام المبادرة، وأحد تجليات هذه الحقيقة هو عدم توقف مساعيها المتنوعة لتطويق "الدب الروسي" ومحاصرة طموحه أو بالحد الأدنى تقليم خططه الجديدة وما يرسمه من سياسات لاستعادة بعض دوره العالمي، من دون أن تبخل عليه ببعض التنازلات والإغراءات.

والخلاصة لا يصح القول بعد الاصطفافات السياسية المستجدة التي ترافق الصراع السوري بأن ثمة حربا باردة جديدة تلوح في الأفق، لكن ربما يصح التساؤل، هل نشهد اليوم بتأثير خصوصية تداعيات الثورة السورية طيا لمرحلة تجاوزت العقدين من الزمن سيطر فيها القطب الواحد على العالم وتالياً بداية انحسار نسبي للتفرد الأميركي لصالح رؤية جديدة تحمل نوعاً أجدى من أنواع الشراكة والتعاون بين الدول العظمى، وهل يمنح هذا الجديد الأمم المتحدة ومجلس الأمن فرصة حقيقة لتجاوز موقعهما الشكلي وتفعيل دورهما في خلق الحلول والتوافقات حول الملفات الساخنة في العالم، أم لا يزال مثل هذا الاستنتاج مبكراً ولا تزال التوجهات الجديدة للسياسة العالمية تشاد فوق رمال متحركة؟

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.