مرسي في اختبار الشعبية و"الكاريزما"

تصميم للمعرفة - مرسي في اختبار الشعبية و"الكاريزما" - حسام شاكر - فرص مراكمة الزعامة الرمزية في حالة الرئيس مرسي ربّما باتت بعد الانقلاب أوفر، بالمقارنة مع زمن القصر عندما لم يكن فعلياً يملك أو يحكم

undefined

كان الإقرار بوقوع "أخطاء" من أبرز ما خرج به الرئيس محمد مرسي في أحاديثه الأخيرة، لكنّ الهجمة على أوّل رئيس مصري مُنتخب ديمقراطيًّا تركّزت عبر سنة كاملة من المتاعب على تسفيهه، أكثر من سعيها لتصيّد عثرات التجربة أو محاكمتها بإنصاف.

وعلاوة على وضع العصيّ في دواليب الأداء بغية إفشال التجربة الجديدة وإثارة السخط الشعبي عليها، بدا واضحًا مغزى الانتقاص من أهليّة الدكتور مرسي لتقلّد الرئاسة، حتى انهالت شتائم لم يحظَ بها مبارك ذاته في أوج ثورة يناير.

مرسي في منصّات الحديث
منذ خطاباته الأولى في الرئاسة، أثار ظهور مرسي في منصّات الحديث جدلا بين المتابعين، فاتّجه جانب من النقد إلى تشريح الأداء ومضامينه تبعًا لقوالب نمطية، لكنّ مصر بعد ثورة يناير لم تترقّب رئيسًا يُعيد إنتاج السرديّات المنمّقة لمبارك وأقرانه في القمّة العربية.

ينتمي مرسي إلى جيل القادة الجدد، الذين صعدوا إلى الواجهة الرسمية قادمين من الهامش القسري أو حتى من أقبية السجون، حيث لم يُسمَح لأيٍّ منهم من قبل بفرص الظهور الإعلامي والحديث إلى الشعب

من المرجّح أنّ خطابات مرسي ستظلّ بنصوصها وكيفيّاتها وإيماءاتها موضوعًا لدراسات عدّة حول العالم، ومنها ما هو جارٍ بالفعل أو تمّ الفراغ منه، وبعضها يرصد لغة جسده منذ وقوفه الأوّل غير المتكلّف خلف المنصّة، ومخاطبته ميدان التحرير بسترة غير محميّة.

لا يخفى أنّ محمد مرسي ينتمي إلى جيل القادة العرب الجدد، الذين صعدوا إلى الواجهة الرسمية قادمين من الهامش القسري أو حتى من أقبية السجون. لم يُسمَح لأيٍّ منهم من قبل، بفرص الظهور الإعلامي والحديث إلى الشعب، رغم تدرّج بعضهم في مراتب العمل السياسي ومكابدة سجالات البرلمان سنوات طويلة.

وبمفعول عقدة البديل عن الحاكم المستبدّ، حُجِبت صورهم وأسماؤهم وحتى نبرات أصواتهم عن الجماهير، فلم يكونوا مألوفين لشعوبهم حتى يوم الاقتراع تقريبًا.

لقد أهدت هذه الحقيقة -من افتقار الشعوب إلى المعرفة الوافية بالخصائص الشخصية للحكّام الجدد- ذخيرةً فائقة المفعول لمنظومة بدت مُنسّقة بعناية، استهدفت رموز العهد الجديد، الذين استلموا الكراسي بعد خبرة راكمها أسلافهم ثلاثين سنة أو يزيد.

تحدِّي تحقيق الأُلفة
هكذا تشكّل تحدِّي تحقيق الأُلفة مع الوجوه الجديدة، بعد أن اعتاد هذا الشعب العربي أو ذاك وجوهًا مزمنة في الواجهة المُحاطة بطقوس الهيْبة. تقول الفرضية إنّ تشويه مَن يجهله الناس يتطلّب جهدًا أقلّ من تشويه مَن يعرفونه تمامًا. يستهدف المسعى نزع الهيْبة وتبديد الاحترام عن المحمولين بشرعية انتخابية، مع تأويل عكسي لنزوعهم الواضح إلى التواضع، بإظهارهم غير ملائمين للمنصب ومتطلّباته.

إنّ أسماء مثل محمد مرسي وهشام قنديل ومنصف المرزوقي وعلي العريض وعبد الإله بن كيران وآخرين غيرهم، على تنوّع نماذجها وخصائصها، اشتركت في كسرها القالب النمطي للحاكم العربي الذي يتصنّع الوقار وينتقي كلماته المُعدّة مُسبقًا بعناية فائقة.

بدا هؤلاء القادمون بإرادة حرّة خارجين عن النمط المتكلِّس في المنطقة عبر نصف قرن، حتى مع حالات خاصّة متفرِّدة أو نزقة كما في شأن معمّر القذافي مثلاً.

وقد سبقت تعليقات عدّة إلى ملاحظة ما عليه هؤلاء القادة الجدد من سَمت متواضع وهيئات غير متكلّفة، لكنّ متوالية التجريح التي صبّت حممها على الوالجين إلى القصور، حفلت بمحاولات لوصمهم باتهامات تشابهت أحيانًا من مصر إلى تونس، فاتسعت خيالاتها الخصبة للنّعت بالسفه والجنون، والتخابر لصالح دول أجنبية!

تعلِّمنا التجارب أنّ "كاريزما" الزعماء لا تخدم التوجّه الديمقراطي غالبًا، بل تستحثّ الانقياد والتبعية وتُضعف الحسّ النقدي وروح المساءلة إزاء مسالك الحُكم

لعلّ الطابع غير النمطي في شخصية أيِّ حاكم، هو بمثابة سيف ذي حدّيْن. فقد يستدعي طابع كهذا بواعثَ سوء الفهم، بل قد يُعين على تشويه الشخصيّات المستهدفة إن تكاثرت عليها السِّهام، كما في حالة محمد مصدّق عندما تولّى الحكومة الإيرانية في السنوات 1951 ـ 1953، ولكنّه في المقابل قد يراكم في ظروف معيّنة رصيدًا من الشعبية بمفعول الدنوّ من المواطن.

ومن المرجّح أنّ طائفة من الزعماء الذين حظوا بشعبية فائقة لم يكونوا ممّن أُغدقت عليهم دروس الإيماءات و"لغة الجسد" بقيادة خبراء بارعين في التمثيل، وهو ما يَصدُق على رموز نضالية مثل المهاتما غاندي وتشي غيفارا ونيلسون مانديلا وياسر عرفات وأحمد ياسين ورائد صلاح، كما يصدق على قادة التحرّر والاستقلال مغربًا ومشرقًا، إذ تفاعلت مسيرة الكفاح لديهم مع هيئات غير نمطية وملابس وأغطية رؤوس من أنماط متفرِّدة.

وإن عجز قادة العهد الديمقراطي العربي عن تسجيل نجاحات شعبية ملموسة حتى الآن لأسباب عدّة، فإنّ الفرصة النضالية قد تسنح ضمن تطوّرات مأساوية، كأنْ يُعاد الرئيس إلى حال السجن التي كان عليها فتستأنف الجماهير ملحمتها.

مسألة "الكاريزما"
قيل مرارًا إنّ القادة العرب الجدد يفتقدون "الكاريزما"، وكأنّ الحاجة إلى زعماء متوهِّجي البريق مقطوع بها.

تعلِّمنا التجارب أنّ "كاريزما" الزعماء لا تخدم التوجّه الديمقراطي غالبًا، بل تستحثّ الانقياد والتبعية وتُضعف الحسّ النقدي وروح المساءلة إزاء مسالك الحُكم.

ولنا أن نتساءل عن "كاريزما" عبد الناصر ودورها في طمس قسوة النهج الاستبدادي الذي طبع حكمه، وعمّا إذا كانت "كاريزما" عرفات قد يسّرت تمرير الانعطافة التاريخية إلى نفق أوسلو.

من القسط القول إنّ أولوية التحوّل الديمقراطي هي إنضاج المضامين والوعي بها، أكثر من استلاب الجماهير لشخصيات آسِرة تَصدُق فيها مقولة مالك بن نبي: "إذا غابت الفكرة بزغ الصنم".

إنّ بعض البريق يتأتى من المواصفات الشكلية المجرّدة، بتأثير درجة استدارة الرأس وتناسق الوجه ومواصفات البدن وطول القامة ونبرة الصوت علاوة على الهيئة والرداء، فهل تحتاج المخاضات العربية الراهنة إمعانًا في الصنميّة التي تستدرّ انقيادًا أعمى؟

صحيح أنّ الشعوب قابلة لـ"الانشداد" إلى ما تبدو "قيادة مُلهمة" تحفِّز مواطنيها وتوجِّههم صوب خيارات البناء والنهضة، لكنّ هذا لا يتراكم تلقائيًّا في لحظة كالتي برز فيها الجيل الجديد من القادة العرب، أي هبّات شعبية غلب عليها السأم من أصنام الأمس.

أولوية التحوّل الديمقراطي هي إنضاج المضامين والوعي بها، أكثر من استلاب الجماهير لشخصيات آسِرة تَصدُق فيها مقولة مالك بن نبي "إذا غابت الفكرة بزغ الصنم"

إنها المعضلة التي تفسِّر إلى حدٍّ ما افتقار بلدان التحوّل العربي إجمالاً إلى شخصيات "كاريزميّة" من رحم الثورة، ولنا أن نتصوّر أنّ التكريم الغربي قد قضم من رصيد بعض الوجوه التي بدت واعدة ابتداءً.

وقد جاءت انتفاضات العرب خاطفة أو قصيرة الأمد نسبيًّا، بعد عهود مديدة من إعتام الوجوه وحَجْب الأسماء عن الشعوب، حتى إنّ لاعبي الكرة الليبيين كانوا يُعرّفون بتسلسلهم العددي لا بأسمائهم.

ولمّا كانت "الكاريزما" ظاهرة قابلة للإنضاج والتضخيم بمقوِّمات إعلامية، فإنّ خنق فرصها يتأتى أحيانًا بتسديد هجمات الانتقاص من المكانة وتقويض الرمزية.

 

كان الدكتور مرسي مُستهدَفًا بوضوح في حركاته وسكناته، فما إن رفع إصبعه محذِّرًا في أحد خطاباته من عنف الشوارع، حتى لاحقته النعوت وحاصرته رسوم الكاريكاتير. وما إن اعتمر قبّعة الدكتوراه الفخرية في جامعة باكستانية حتى تعقّبته صور ورسوم مشفوعة بالنكات اللاذعة.

وتكفي الإشارة إلى سعي مقدِّمي برامج المساء في التهكّم على "مشروع النهضة"، أي برنامج مرسي الذي لم يحظَ بقراءة عادلة كحال مشروع الدستور.

يمكن الاسترسال في شواهد عدّة، وبعضها التقط أخطاء حقيقية من جانب الرئاسة فضخّمها في وَعي الجمهور. بيد أنّ الفارق كمُن في منظومة إعلامية متكاملة قعدت له كلّ مرصَد، مقابل انهماك المنظومة ذاتها في تمجيد سلفه المستبدّ، حتى بلغ الأمر مبلغ التلاعب بصور وكالات الأنباء لإبراز مبارك، تعسّفًا، متقدِّمًا القادة وفق فضيحة شهيرة في "الأهرام" العريقة.

من المفارقات أنّ فرص مراكمة الزعامة الرمزية في حالة الرئيس مرسي ربّما باتت بعد الانقلاب أوفر، بالمقارنة مع زمن القصر عندما لم يكن فعليًّا يملك أو يحكم، فالفرص المستجدّة تنبثق عن الطابع النضالي للمرحلة، وحدّة المظلمة التي لحقت بإرادة الناخبين، والملايين التي تواصل احتشادها رغم تساقط الضحايا.

معضلة الالتحام بالجماهير
ثمة قانون غير مرئي من الإرث الاستعماري، ظلّ ساريًّا في الإقليم حتى بعد إعلانات الاستقلال، يقضي بإعاقة فرص الْتِحام الحاكم بالجماهير، لهذا ظلّ الخيار هو الإبقاء على مفعول الشرعية الخارجية المُسبَغة على أنظمة الحكم، فهي استحقاق قابل للنزع.

أمّا الالتحام بالجماهير فيتيح المجال لأيِّ زعيم كي يستقوي بشعبه، في التملّص من معادلات الهيمنة ومواجهة ضغوط الخارج.

يُفسِّر هذا المنطق معضلة الفجوات العميقة أحيانًا، التي ظلّت تباعد بين الحكّام والشعوب في هذه الرقعة المركزية من العالم، وهو ما مكّن لرواج مصطلح "الاستقواء بالخارج" في الأدبيّات السياسية العربية.

ولمّا جاء مرسي مثل أقرانه الجدد، من العُمق الشعبي وليس على ظهر دبابة، تكثفت الأحابيل الرامية لعزله عن شعبه بما يحول دون نضوج حالة الْتحام لها ما بعدها في استنهاض مركز الإقليم الذي يشغل السمع والبصر.

ولمّا كانت "الكاريزما" ظاهرة قابلة للإنضاج والتضخيم بمقوِّمات إعلامية، فإنّ خنق فرصها يتأتى أحيانًا بتسديد هجمات الانتقاص من المكانة وتقويض الرمزية

يجدر الاعتراف بضراوة جهود عزل مرسي عن شعبه، وأنّها أحرزت نجاحات مكّنت مُسبَقًا لفعل العزل الانقلابي، الذي استأنف بالتالي عهود الالتصاق بالدبابة والتدثّر بالشرعية الخارجية.

لقد ضربت منظومة التشويه بحجاب من حول مرسي، فلم تتِح للشعب فرصة معايشة رئيسه، إلى درجة التجاهل الإعلامي المطبِق لبساطة حياته اليومية، أو دلالة تنازل "أم أحمد" عن حياة القصر وامتياز "السيدة الأولى".

مرسي ومطالب المكاشفة
تبقى مسألة المُكاشفة والمُصارحة. فقد تلاحقت على مدى الشهور الماضية مطالبات للرئيس مرسي بأن يخرج إلى شعبه بخطاب المكاشفة، ليصارحه بالحقائق والوقائع، خروجًا من حال الصمت النسبيّ.

وما يثير الانتباه ابتداءً أنّ مطالبات المكاشفة تلك إنّما جاءت من معلِّقين معتدلين وكذلك من فريق "الحرية والعدالة". ولم يُظهِر خصوم مرسي المترصِّدون له انشغالاً بمصارحة كهذه، مع ارتفاع سقوف مطالبهم الجذرية قبل تواطُؤ بعضهم لاحقًا مع الانقلاب.

لعلّ السؤال الذي يجدر طرحه في ظلال ما وقع بعد الثلاثين من يونيو، إن كان يسع رئيسًا يمضي في حقل ألغام أن يكشف لشعبه كلّ الأوراق، بما قد يُفضي إلى إشعال جبهات مفتوحة مع ركائز الدولة ذاتها، مثل الجيش والمخابرات والأمن وليس القضاء وحده؟

وهل توجّب على رئيس كبرى الدول العربية الإقرار بأنّه لا يحكم سوى رقعة القصر المُحاط بسهام الموت، وأنّ وزير داخليته تركه ليلقى مصيره في ليلة شتوية طوّقته فيها حشود مندفعة صوب الأسوار؟

كان مرسي مُستهدَفًا في حركاته وسكناته، فما إن رفع إصبعه محذِّرًا من عنف الشوارع، حتى لاحقته النعوت وحاصرته رسوم الكاريكاتير. وما إن اعتمر قبّعة الدكتوراه الفخرية حتى تعقّبته صور ورسوم مشفوعة بالنكات اللاذعة

نفهم اليوم أكثر من أي وقت مضى، أنّ محمد مرسي المنشغل بإطفاء الحرائق طوال سنة، كان يتحدّث وفي فمه ماء. فقد اتضح جليًّا، على سبيل المثال، أنّ المليارات المحجوبة عن التنمية الحرجة، تدفّقت بعد لحظة الإطاحة بالديمقراطية.

فهل كان على الرئيس الصاعد فوق خزائن فارغة أن يفتح النار على أشقّاء يستوعبون ملايين القادمين من ضفاف النيل؟

وكيف يُنجِز المصارحة والمكاشفة من لم يَحُز فرصة عادلة في وسائل الإعلام التي أنشبت أظفارها في تجربة الحكم الوليدة من يومها الأوّل، ثمّ قدّمت فروض الولاء في حضرة العسكر؟

تتوزّع التخمينات في اتجاهات شتى، بما يفرض الانتظار ردحًا من الزمن حتى تتكشّف التفاصيل، ومنها ملابسات التلكّؤ الذي شاب استجابة صندوق النقد الدولي للاحتياجات التمويلية الملحّة لمصر خلال عام الديمقراطية.

في ربع الساعة الأخير خرج مرسي بخطاب حمل لافتة "المصارحة والمكاشفة"، نحا فيه جزئيًّا منحى السادات في حملاته الخطابية، بتناوله الأسماء بصراحة وتشخيص الوقائع بجُرأة، مع الفارق بين الرجليْن والسياقيْن.

ثمّ تجلّى لاحقًا أنّ أوّل رئيس ديمقراطي لمصر أوْمَأ في خطابه الرسميّ الأخير ولم يُصارح تمامًا، وإن أقرّ بأخطاء. فسرعان ما اتضح مفعول الترتيبات الإقليمية والدولية الماضية تحت السطح، وترجّل فارس الانقضاض على ربيع مصر، بعد أيّام من جلوسه في الصفّ الأوّل ضمن جمهرة المصفّقين.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.