صراع المليونيات بمصر.. الجماهير ضد الجماهير

صراع المليونيات في مصر.. الجماهير ضد الجماهير . الكاتب :فاضل الربيعي

undefined 

لم تكن الجماهير في أي وقت من التاريخ كتلة موحدة متراصة الصفوف، وهي بكل تأكيد ليست سبيكة اجتماعية واحدة يمكن التحكم فيها.

على العكس من ذلك، يقدم التاريخ السياسي الكثير من البراهين على أن الجماهير تتمتع بقابلية فريدة للانقسام، خصوصا في لحظات الأزمة الوطنية. أي تتمتع بقابلية الانتظام داخل "جماهيريتين" متصارعتين، إحداهما مع السلطة والأخرى ضدها. وليس دون معنى، أن المجابهة في الشارع المصري، بكل مشاهد العنف المؤلمة التي رافقتها، كانت تبدو -شكليا على الأقل- وكأنها بين جماهيريتين، إحداهما أسمت نفسها بـ"تمرّد" بينما ردت الأخرى باطلاق اسم "تجرّد". وكما لوحت "تمرد" بتسيير مليونية مناهضة لمرسي، ردت "تجرد" بتسيير مليونية مؤيدة له.

إن تخيل الجماهير بوصفها هي "الشعب" وأنها على حق دائما، أو أنها تقدمية وموحدة باستمرار، هو من الأوهام التي أشاعتها أدبيات الأحزاب والقوى "الجماهيرية" بمختلف مشاربها الفكرية وعلى امتداد عقود من النضال الوطني التحرري.

تخيل الجماهير بوصفها هي "الشعب" وأنها على حق دائما، أو أنها تقدمية وموحدة باستمرار، هو من الأوهام التي أشاعتها أدبيات الأحزاب والقوى "الجماهيرية" بمختلف مشاربها الفكرية وعلى امتداد عقود من النضال الوطني التحرري

هذه الحقيقة تجلت في أكمل معانيها في أحداث ميدان التحرير ومسجد رابعة العدوية بمصر. لقد انشطرت الجماهير إلى كتلتين متصارعتين، وتلاشت الفكرة الزائفة القائلة إنها كانت موحدة في مواجهة نظام الرئيس المخلوع حسني مبارك. وبالتزامن تقريبا مع أحداث مصر كانت الجماهير في تركيا تشهد انقساما مماثلا بين مؤيد ومعارض لرئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان بعد أحداث "ميدان تقسيم".

لقد كانت الجماهير المصرية التي صوتت لصالح الرئيس المعزول محمد مرسي، تبدو في أنظار الكثيرين بما في ذلك قادة جبهة الإنقاذ الوطني "جماهير تقدمية" وثورية لأنها -كما قيل- صوتت لمرشح الثورة ضد مرشح الفلول أحمد شفيق. كان معيار ثورية الجماهير، بالنسبة لقادة جبهة الإنقاذ، أن تصوت لصالح مرسي.

لكن هذه الجماهير -نفسها- تتبدى اليوم رجعية واستبدادية في أنظار قادة الإنقاذ؟ ألم ينظر إلى موقف كل مواطن رفض "مرشح الفلول" باعتباره ثوريا؟ والعكس صحيح، إذ تبدت الجماهير التي صوتت بـ"لا" لمرسي، جماهير "رجعية" ومعادية للديمقراطية؟ أما اليوم فهي بمقاييس ومعايير جبهة الإنقاذ جماهير ثورية لأنها تقول أيضا "لا" لمرسي؟

ألا نجد أنفسنا -في هذه الحالة- أمام مفارقة في طريقة صياغة المفاهيم، وأن الحقيقة التي لا مناص من القبول بها هي أن الجماهير ليست كتلة واحدة، وليست ثورية دائما وأنها لم تكن موحدة في الأصل، وأن نظرة القادة السياسيين حيالها لم تكن موحدة أيضا. فماذا يعني هذا التبدل المذهل في النظرة إلى الجماهير؟

إن تحليل ظاهرة المليونيات في مصر يتطلب منظورا جديدا، يرى الجماهير بوصفها مواد اجتماعية متحللة من طبقات متعارضة المصالح وربما الأهداف والرؤى.

ومع ذلك، هناك باستمرار عاملان مركزيان يجعلان منها قوة متماسكة يمكن أن تلعب دورا حاسما في الأحداث الكبرى، ولكن من دون أن تمكنها من التحول إلى سبيكة اجتماعية واحدة، أولاهما الظروف والتطورات السياسية التي تبلغ درجة "الأزمة الوطنية"، وثانيهما قدرة القادة الجماهيريين على طرح شعارات ذات طابع شعبي عريض (خلاصي) وبحيث تصبح هذه الشعارات هي نفسها البرنامج السياسي الذي يبشر الجماهير بأنها أصبحت هي المخلص.

ويتضح اليوم بجلاء في ضوء التجربة المصرية أن الجماهير انتظمت في "جماهيريتين وأن إحداهما وقفت في نهاية المطاف ضد "الأخرى" بالفعل، وأنهما معا ظلتا في حالة مواجهة مستمرة لتقديم البرهان على أن إحداهما هي "المخلص" وأن الأخرى "شريرة".

كما أن مجريات الأحداث كشفت عن قابلية فريدة عند هاتين الجماهيريتين، فإحداهما يمكن أن تجعل من الأخرى عدوا لا مجرد خصم سياسي، وهذا يعني تعاظم القدرة على ممارسة العنف دون ضوابط. وحين يتفجر الصراع بين هاتين الجماهيريتين سوف تبدو لنا الحقيقة المرة التالية: إن إحداهما رجعية ومناهضة للديمقراطية، وأخرى تقدمية وتنشد التغيير الجذري.

وفي الواقع، لم يتعرض مفهوم سياسي للتلاعب والابتذال، مثلما حدث لمفهوم "القوى الثورية". لقد تعرض هذا المفهوم للتشويه المتعمدّ بصورة مخزية

لقد ظهر هذا الانشطار في "مفهوم الجماهير" في اللحظة التي نزل فيها الشعب (نحو 30 مليون مصري من مختلف المدن) وليندمج في واحدة من الكتلتين المتنازعتين. وبذلك حدث تخلخل في موازين القوى، أفضى بسرعة مذهلة إلى تشكيل وتكوين صورتين جديدتين، إحداهما للجماهير وأخرى للشعب، أي أن إحدى الجماهيريتين لم تعد مجرد "جماهير" بل أضحت هي الشعب.

ألا يؤكد لنا هذا الأمر أن مفهوم الشعب شيء ومفهوم الجماهير شيء آخر؟ وأن ثمة فارقا شديد الحساسية بين المفهومين، يتعين التأمل فيه بعمق على ما رأت الفيلسوفة الألمانية حنة أرندت. بكلام آخر، لم ينقسم الشعب المصري، بمقدار ما حدث الانقسام داخل المجتمع السياسي الذي انتظم في جماعتين متجابهتين.

إن كراهية قطاعات من الشعب المصري للإخوان المسلمين وسياساتهم، وربما رغبة هذه القطاعات في سرعة التخلص منهم، لا تمنع من رؤية القلق والخوف من وجود قوى داخل الجسم السياسي للمعارضة يرى فيها البعض، بحكم تاريخها وارتباطاتها الخارجية، أكثر خطرا على مستقبل مصر من حكم الإخوان، وهذا حقيقي، فلا حركة "تمرد" التي نبتت مثل شجرة في العراء، ولا البرادعي ولا حركة 6 أبريل وحزب أيمن نور، هي خيارات الشعب المصري أو هي من طراز القوى الثورية الموثوق بها.

وفي الواقع، لم يتعرض مفهوم سياسي للتلاعب والابتذال مثلما حدث لمفهوم "القوى الثورية". لقد تعرض هذا المفهوم للتشويه المتعمد بصورة مخزية، فكل من هبّ ودبّ في وسائل الإعلام بات يصف أي قوة وإن كانت "رجعية" بأنها "ثورية" لمجرد أنها نزلت للتظاهر.

بمعنى آخر، أصبح الاحتجاج هو معيار الثورية الوحيد؟

فهل أصبح مفهوم الجماهير مفهوما سياسيا تجريدا؟ وعن أي جماهير نتحدث؟ وكيف يمكن لنا إذن تفسير ظاهرة "المليونيات" المتنازعة في الشارع؟ وهل يمكن مثلا -من منظور سوسيولوجي- رؤية التطور في سلوك الجماهير وقدرتها على التحول إلى قوة في معادلة الصراع داخل المجتمع السياسي، بوصفه أبعد بكثير من مجرد تنامي وتعاظم قدراتها في ميدان التعبير عن نفسها؟ وهل يمكننا أن نرى في هذه "المليونيات" لا مجرد تطور مفاجئ في طاقة الاحتشاد التي يملكها المجتمع السياسي، ولا -كذلك- مجرد تطور في قدرة القادة السياسيين على تحريك الكتل البشرية وتنظيمها في الشارع، بل بوصفه تجسيدا حقيقيا للحظة بلوغ الأزمة الوطنية ذروتها.

لقد دخلت مصر فعليا في قلب أزمة وطنية شاملة مليئة بكل أشكال الصراع والتنافس. ومن المحتمل أننا سنكون أمام أنماط جديدة من العنف الجماهيري.

وهذه المرة قد يتخذ الصراع شكل نزاع دموي بين الشعب والجماهير -وليس بين جماهير وجماهير أخرى- وربما يغدو أكثر بربرية ووحشية مما نتصور. وفي التاريخ السياسي أمثلة مروعة عن الكيفية التي تتحول فيها الجماهير إلى "مضطهد" للشعب.

 تحول الجماهير الثورية إلى قوة رجعية وفاشية لم يعد أمرا نظريا والتجارب التاريخية تقدم أمثلة مؤلمة عن الكيفية التي ينقلب فيها الصراع السياسي التقليدي إلى عنف بربري

في كمبوديا -في الثمانينيات من القرن الماضي- مثلا، اضطهدت الجماهير "الثورية" الشعب الكمبودي بأسره، أثناء حقبة الصراع بين الأمير سيهانوك والخمير الحمر.

إن الصور المرعبة التي نشرت في وسائل الإعلام العالمية لأكداس الجماجم البشرية -على شكل تلال- تفصح عن هذا البعد البربري في سلوك الجماهير، لقد قتلت الجماهير آلاف المعلمين والمثقفين وحتى أشباه المتعلمين دون مبررات سياسية، وفي الكثير من الحالات كان يجري تبرير القتل بأنه ضرورة لعودة المجتمع للفلاحة.

وفي الصين -خلال الستينيات- تعرض الشعب الصيني برمته لأقسى ألوان العنف، حين قادت الجماهير ما عرف بـ"الثورة الثقافية".

إن تحول الجماهير الثورية إلى قوة رجعية وفاشية لم يعد أمرا نظريا، والتجارب التاريخية (ألمانيا الرايخ الثالث، وروسيا الستالينية والصين الماوية وكمبوديا) تقدم أمثلة مؤلمة عن الكيفية التي ينقلب فيها الصراع السياسي التقليدي إلى عنف بربري.

ولعل المثال العراقي في الستينيات حين انقسمت الجماهير وانخرطت في صراع دموي بين الشيوعيين والبعثيين، أي بين جماهير شيوعية وجماهير بعثية وضد رئيس الوزراء عبد الكريم قاسم ومعه، يكشف في أحد أبعاده عن صراع ما دون سياسي، تستبدل فيه الأفكار بشعارات ديماغوجية، ويمارس فيه الغوغاء دور القادة الجماهيريين.

ظهر تعبير "المليونية" لأول مرة في العالم العربي بعد عام واحد فقط من احتلال العراق (9 أبريل/نيسان 2003) عندما أعلن الشيخ مقتدى الصدر زعيم التيار الصدري عن تسيير "تظاهرات مليونية" مناوئة للدستور الذي كتب مسودته الأولى يهودي أميركي يدعى نوح فيلتمان، لم يعرف عنه أي خبرة سابقة في مجال كتابة الدساتير. ثم توالت المليونيات الصدرية حيث سمع في مرات كثيرة هتاف "كلا… كلا احتلال".

قبل هذا الوقت لم يكن هناك في الأدبيات السياسية العربية قط تعبير سياسي/اجتماعي عنوانه "المليونية".

لقد كان طموح الأحزاب التاريخية "الجماهيرية مثل الشيوعيين والبعث" قبل الاحتلال لا يكاد يتجاوز حدود تنظيم التظاهرات الجماهيرية التقليدية التي تضم بضع مئات من النشطاء السياسيين.

في سماء ميدان التحرير وميدان رابعة العدوية، وحيث احتشدت "تمرد" لمواجهة "تجرد" يبزغ فجر العنف الجماهيري الذي يهدد بصراع مليونيات طويل ومرير

لكن، وبعد وقت قصير فقط من الاحتلال -وحين كان الحزب الحاكم ينهار ولم تكن هناك حركة سياسية واحدة منظمة- ظهرت فجأة قوى اجتماعية جماهيرية جديدة، معظم قادتها من رجال الدين.

ومنذئذ حدث تبدل في مضمون التظاهرات، فهي نادت بوحدة العراقيين مع تزايد أشكال ومظاهر الانقسام السياسي في الشارع، ثم سرعان ما اتخذ هذا الجانب بعدا جديدا، وذلك مع تعاظم مظاهر وتجليات الانقسام، وظهور بوادر عن انشقاق مذهبي خطير، كان يستكمل بشكل أو آخر مظاهر الانقسام المذهبي "الطائفي" ولكن بأدوات غير سياسية.

ولذا سمعت هتافات المليونيات العراقية بقوة "إخوان شيعة وسنة…هذا الوطن ما نبيعه". وبطبيعة الحال لم يكن لهذه الشعارات أي معنى حقيقي أو جدوى أو أدنى تأثير في مجرى الصراع، إذ كان الدم العراقي يسفك فوق صخرة الهوية المذهبية، الصلبة والآخذة في التصلب أكثر فأكثر. لقد تحولت ملايين مقتدى الصدر إلى مصدر قلق ورعب، مع تفجر الصراع على أسس مذهبية بعد أحداث سامراء 2006. بكلام آخر، كانت الجماهير المليونية تقود بنفسها الحرب الطائفية على الشعب بأسره حتى وهي تردد شعار "أخوة في الدين والوطن".

ومنذ ذلك الوقت وحتى اليوم، صار تعبير "تظاهرات مليونية" شائعا في الثقافة السياسية للقوى الاجتماعية والسياسية المتصارعة في العراق.

في سماء ميدان التحرير وميدان رابعة العدوية وحيث احتشدت "تمرد" لمواجهة "تجرد" يبزغ فجر العنف الجماهيري الذي يهدد بصراع مليونيات طويل ومرير.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.