الفضاء الديني.. جدل الزمان والمكان

الفضاء الديني.. جدل الزمان والمكان

undefined

تشكل قضية التعايش بين أتباع الأديان هاجسا مقلقا للمجتمع الإنساني عامة وللمجتمعات متعددة الطوائف والمذاهب خصوصا، نظرا لما تمثله احتمالات الاحتكاك المفضي إلى الصراع من أخطار جسيمة تتطلب من الدولة والمجتمع تداركها، وأن يبتدع القائمون على الأمر الوسائل الكفيلة بإدارتها، وفق أسس وقواعد تُمَكِّن الجميع من التعايش في الفضاء العام بطريقة عادلة ترتكز على معطيات القيم والأخلاق المرعية في تلك الأديان. إذ يمكن عن طريق الإدارة المنظمة للفضاء الديني وضع الأسس المناسبة وإرساء قواعد السلام الاجتماعي والتعايش السلمي المشترك.

الاحتفال بالتنوع
تمثل إدارة الفضاء الديني في عالم أصبح شديد الاختلاف، ويتجه بتسارع هائل نحو العولمة، التوازن المطلوب بين الاختلاف والاحتفال بالتنوع، وقبول الآخر، أو على الأقل التسامح معه، مع الحفاظ على الحد الأدنى من التضامن.

يمكن للقوانين المنظمة لإدارة الفضاء الديني أن تلعب دورا مهما في صياغة توازن التضامن واحترام الاختلاف في الحيز المكاني والزماني العام

ويمكن القول إن النقطة المركزية في هذا التوازن بين التضامن والاختلاف بين الجماعات الدينية والمذهبية هي في منح دور للتعلم وللمعرفة في إطار من المنظومات الجامعة، لأن التعلم والمعرفة يسهلان التفاهم المتبادل والاتصالات ويمكنان من إدارة التنوع في الفضاء العام. فالعديد من المفكرين في المجتمعات الغربية لديهم الكثير من الافتراضات الليبرالية التي تقول إن الذين هم أكثر ثقافة واطلاعا هم أكثر احتمالا لأن يكونوا متسامحين ويميلون إلى قيم المساواة والحقوق والعدالة، وبأن التعلم والمعرفة يلعبان دورا كبيرا في الهندسة الاجتماعية.

ولكن، هل يصح هذا الزعم الافتراضي على كل المجتمعات الغربية؟ وإن كانت الإجابة بنعم، فهل يصح تعميمه على غير دين الأغلبية، وخاصة الإسلام، إذ إن التمييز ضد المسلمين يشهد ازديادا في كل الدول الليبرالية، مثل أوروبا وأميركا وحتى آسيا. كما تنامت التفرقة والعداء ضد المسلمين "الإسلاموفوبيا" في بقاع أخرى مختلفة من العالم.

إن حرية إعلان وممارسة العقيدة والإيمان، واتباع هذا المذهب أو ذاك، أو تغيير الديانة، أو خيار عدم الإيمان (لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ) و(فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر)، الذي جعله الخالق حقا طبيعيا لجميع البشر، تنتهك بشكل منظم، ويضاف إلى ذلك قضية الغلو والتطرف، التي تتطلب معالجتها إدارة سليمة ومحكمة للفضاء الديني، مع تفعيل دور منابر الحوار وإشاعة روح الوسطية، وتشجيع العلماء من كل الجماعات للاجتهاد الفكري فيما ينفع الإنسان، وإحكام التنسيق بين قيادات هذه الجماعات لإحداث حراك فكري، وضرورة تقريب الرؤى الفكرية لأهل العقل لبناء إستراتيجية مشتركة للأمن الفكري، وعده من أهم القضايا الاجتماعية التي تتعلق بأفكار الناس، في هذا الفضاء العام.

وهنا، قد يكون من الأوفق استدعاء التشريعات الناظمة لعلاقات المكان والزمان. إذ يمكن للقوانين المنظمة لإدارة الفضاء الديني أن تلعب دورا مهما في صياغة توازن التضامن واحترام الاختلاف في الحيز المكاني والزماني العام.

وإذا ما تعلق الأمر بالهجرة والعمل والتنقل وحرية الحركة في داخل البلد الواحد، أو داخل المجتمعات المذهبية، وتبدت المواقف المتضاربة حول المساواة والحقوق، أو إعادة توزيع الحصص المكانية والزمانية على أساس من الاعتراف بالمتغيرات المستجدة، كان لزاما أن يبقى القانون هو المهيمن على الحل لا فروض الأمر الواقع، كي لا يكون الاختلاف الديني مصدرا للمشاكل في المجتمعات الحديثة الناشئة. 

أثر الدين
رغم التنبؤات السابقة لبعض علماء الاجتماع بأن الدين لم يعد يحتل مكانا هاما للكثيرين في عالمنا المعاصر، تقول حقائق الواقع إنه لا يزال مؤثرا جدا في حياة الناس، وفي كل المجتمعات نتيجة زيادة مستويات التعليم والوصول إلى وسائل الإعلام.

وليس هذا فحسب، بل إن الزيادة في أعداد المتدينين، وتأثير التدين في السلوك العام والاختيارات الخاصة والعامة، جعل هناك اتجاها يدعو لإدارة الفضاء الديني، أو يرى أن من واجب الدول الحديثة التدخل في هذا الفضاء للحد من الصراع بين أتباع الأديان.

فالعالم الحديث أصبح لا يحتوي على دين واحد، بل متعدد الأديان، والحداثة لم تلغ الدين، وإنما هي في بعض آلياتها وواقعها، تحفز على ذلك. وإذا أجرينا رصدا سريعا للأسباب سنجد أنه، وفي أكثر من أي وقت مضى، أن نسب التدين في ازدياد لقدرة الناس، كما أسلفنا، في الوصول للمعرفة من خلال زيادة مستويات التعليم والتلقي المباشر من خلال وسائل الإعلام. وبالنسبة للكثيرين، صار الدين يمثل الديناميكية الرئيسية لتنمية هويتهم الشخصية.

فالمجتمعات الاستهلاكية ما بعد العلمانية الليبرالية قد ترى الدين مسألة خاصة وفردية، إلا أن انخراط أتباع الأديان في الجمعيات التطوعية يجعل من الممكن أن نرى الدين حالة ديمقراطية مختلفة.

فالسماح لانتشار الخدمات في المجالات المختلفة هي مما يؤكده الديني، الذي يشجع الناس في الوقت نفسه على تعزيز هويتهم الفردية وإيجاد الروابط الحميمة من خلال تجارب مجموعة المستبعدين تماما من المساهمة في أنشطة المجال العام.

لا يمكن للدولة الحديثة تجاهل تنظيم الفضاء الديني وذلك لسبب بسيط هو أن صراعات أتباع الأديان تتطلب اهتماما خاصا في المجال العام

الدين والهوية
إذا كان الدين واحدا من مكونات الهوية، فإنه في الحقيقة لا يعرف هوية واحدة، ولا يمكن اعتباره موضوعا "خاصا"، هذا إذا أردنا الدقة في الوصف. والمتدينون، في أي مجتمع، يشتركون جميعا في الحياة المدنية لمجتمعاتهم. إلا أن ما يطرأ من منافسة دينية في بعض الأحيان هو الذي يولد الحساسيات ويحدث الاحتكاكات والاشتباكات بين الجماعات، مما يؤدي إلى الصراعات المختلفة التي تهدد النظام الاجتماعي، أو تقود إلى التخريب، الذي يستدعي ضرورة تدخل الدولة من أجل السماح للجميع بالحرية في إطار النظام، وإعطاء الحرية الفردية مساحة كافية في الفضاء العام.

فلا يمكن للدولة الحديثة تجاهل تنظيم الفضاء الديني، وذلك لسبب بسيط هو أن صراعات أتباع الأديان تتطلب اهتماما خاصا في المجال العام.

والحكمة تقول إنه في أي سياق تعددي يجب أن تظل جميع الأديان غير مهددة لسلطات الدولة، والحفاظ على الشرعية كنطاق واسع من أجل بقاء الجميع في سلام. وكل دولة تحاول إنشاء هوية وطنية لا بد لها من إدارة مختلف أشكال التنوع المتأصل فيها. وفي الوقت نفسه، تسعى الجماعات الدينية (الأغلبية والأقلية على حد سواء) إلى تأكيد حضورهم في صلب سياسات الدولة التي تشكل تحديا لسلطتهم. وهنا، يبرز سؤال حول كيف يعيش المؤمنون قناعاتهم والولاءات التي يقدسونها ضمن الفضاء العام؟ وكذلك سؤال آخر حول كيفية مشاركة الجماعات الدينية في تشجيع المبادرات الهادفة لخلق الوعي الجماعي للمجتمع والدولة؟

الدين والدولة
ورغم ما يشهد به الواقع من أن التوترات بين الدين والدولة لا مفر منها، فإن هذا لا يعني أنهما دائما على الجانبين المتقابلين، أو أنهما ضدان لا يجتمعان. ونظرا لقيود الحفاظ على الشرعية العامة في النظم التعددية، أو سياقات الديمقراطية الليبرالية، فإن ديانة الأكثرية ينبغي أن تستحوذ على الفضائل المدنية للمجتمع، مثلما يجب على الأغلبية دعم السياسات العامة، التي تستفيد منها هي والأقلية بعدالة تساوي الحقوق والواجبات.

وعلاوة على ذلك، تسعى الدولة باستمرار إلى الاستفادة من الدين في التعبئة لإنجاز المهام الطموحة، بما في ذلك التعليم، وبناء المجتمع، والمساعدة الاجتماعية، والوقاية من الإرهاب. رغم أن هذه "الشراكة" نادرا ما تكون سلسة، أو غير مثيرة للمشاكل.

ويعتقد الكثيرون اليوم أننا قد نكون مبالغين بالتأثيرات الكبيرة للدين في المجال العام، لهذا لم تنتبه الدول بما يكفي لقضية إدارة التنوع الديني. إذ لم تعد قضية مثل التسامح الديني في العالم المعاصر مسألة خاصة، ولكنها واحدة من مسائل الشأن العام، وأي خيار سياسي بين إدارة أنشطة هذا الشأن العام واللامبالاة هو خيار زائف على ما يبدو، لأنه من دون وضع حدود فاصلة وواصلة في مساحات الحياد المدنية سيعرض الأفراد لضغوط قد لا يحتملونها، رسميا من خلال القوانين وبشكل غير رسمي من خلال عمليات "غسيل المخ"، التي تمليها الأديان على أتباعها، والتسامح هنا يعني المشاركة في المجال العام دون إكراه. ولذلك تبدو الحرية الدينية كموضوع تنظيم حكومي، وإدارة الفضاء الديني هي جزء لا يتجزأ من وظائف الحكومات الحديثة.

بين الحرية والعقيدة
إن التوتر بين الحرية الدينية والعقيدة الدينية أمر معتاد، ولكن على الحكومات البحث باستمرار عن التوقف عن رؤية العلاقة بينهما كعوالم متمايزة. فهما حالة اعتقاد فردية ومُكَوِّن للهوية والانتماء العام في المجتمع. فالدين، كما يظهر في تعبيرات السلوك العام، هو واحد من أغنى دوافع الانتماء الذي يبعدنا عن الفردانية، لأنه يستوعب الذاتية الزائدة لدينا ويوفر آليات التصدي لمطالبنا من أجل المساعدة العامة. إذ إن الكثير من أنماط الحياة والمؤسسات الثقافية المرتبطة بنا أصبحت جزءا ضروريا من الحياة الدينية والمدنية، وهناك تواز الآن بين فضول الحياة المدنية والدينية وأعمالهما، وفيما يتعلق بالحنين للدولة/الأمة لتحقيق الازدهار الاقتصادي والرقي الاجتماعي.

التوتر بين الحرية الدينية والعقيدة الدينية أمر معتاد، ولكن على الحكومات الحث باستمرار عن التوقف عن رؤية العلاقة بينهما كعوالم متمايزة

لهذا، عندما نعمل في منتدى الفكر العربي على تنظيم مؤتمر حول موضوع "إدارة الفضاء الديني: المعنى والمبنى"، فإننا ننوي أن نقدم من خلاله نظرة معمقة لجوانب هذا الموضوع المختلفة، تحقيقا لعدد من الأهداف منها:

– التفاعل بين الباحثين والمراكز البحثية والجامعات المحلية والإقليمية والدولية ومنظمات المجتمع المدني في مجالات الدراسات النظرية والتطبيقية لموضوع إدارة الفضاء الديني، كأحد أهم أسس التعايش بين أتباع الأديان.

– التعريف بالجوانب المختلفة للفضاء الديني، ومناقشة المفاهيم والرؤى المختلفة للفضاء الديني، والدور الذي يمكن أن تقوم به الدولة والمجتمع في إدارته.

– دراسة دور المشتركات العقدية والأخلاقية في ترسيخ أسس التعايش، ومظاهر التواصل الحضاري والثقافي بين أتباع الأديان المختلفة.

– دراسة تفاعلات الفضاء الديني، وما يتعلق منها بتحديات الحاضر وآفاق المستقبل.

– إظهار دور القانون في الحفاظ على علاقات الفضاء الديني.

– إحداث الترابط بين إدارة الفضاء الديني والقضايا الأخرى المتصلة به.

– دراسة سياسات وإستراتيجيات الحفاظ على النظام العام في الفضاء الديني.

– دور المواثيق والمعايير العالمية وارتباطها بواقع الفضاء الديني.

– دور الميراث الحضاري في تعزيز التعايش المشترك في الفضاء الديني.

– تعزيز الوعي بأهمية الفضاء الديني، وإبراز دور المؤسسات الثقافية والإعلامية في زيادة وإثراء هذا الوعي.

– إلقاء الضوء على دور مؤسسات الدولة والمجتمع في تضمين ثقافة الحفاظ على المعطيات التراثية والحضارية للفضاء الديني في مراحل التعليم المختلفة.

– إبراز مدى أهمية إدارة الفضاء الديني في الحفاظ على الحرية الفردية والأمن الجماعي.

وفي خاتمة هذا التصور، يطرأ تساؤل حول كيف يمكن وضع حدود مميزة للمتساكنين في هذا المجال العام؟ وما إذا كان ممكنا أن تتحقق التضامنات المطلوبة دون ترتيبات قانونية ناظمة؟ وقد لا تتوفر الإجابة بشكل تفصيلي الآن، وبالتالي، فإن إدارة الفضاء الديني ربما تمثل الأساس الجيد لهذه التضامنات الجديدة، بين الهويات والمصالح في مختلف المجتمعات المعاصرة.

إدارة الفضاء الديني تمثل الأساس الجيد للتضامنات المطلوبة بين الهويات والمصالح في مختلف المجتمعات المعاصرة

وينتظر أن تقدم هذه التضامنات وعدا من التماسك داخل المجتمعات التي ليست هرمية، أو مبنية على الهيمنة والتسلط، أو تشكلت على أنماط من الإقصاء والتهميش وقوانين القهر، التي أصبح جرائها الفضاء الديني وكيفيات إدارته مشكلة بائنة ومعقدة وكبيرة للمجتمعات في جميع أنحاء العالم.

وفي المحصلة النهائية، فإن الاهتمام الحالي بالدين هو انعكاس لظاهرات ارتفاع حالات التدين لدى الشعوب، مما اضطر المنظرين للدولة الحديثة إلى الاعتراف به، والدعوة لمحاولة دمج عمليات أكثر معاصرة له في المجال العام.

فيما ترى الكثير من الدول الاحتكاكات المتفاقمة والمتجددة بين أتباع الأديان والمذاهب بشكل جديد، وتضعها بعض الحكومات، وبكثير من التبسيط، في موضع فريد بين السياسة والاقتصاد، أو ترتبها بمنظور العلمنة في حيز المعتقدات التقليدية، متكئين جميعا على فكرة توسعية الدولة الوطنية وهيمنتها على الشأن العام، ومتجاهلين ما يتعلق بالتطورات الساحقة للحركات الدينية على الأرض، التي لا يمكن تجاهلها.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.