حزب الله ومأزق الانقياد

حزب الله ومأزق الانقياد . الكاتب: رشيد يلوح

undefined

يرى النظام الإيراني التدخل في شؤون الدول الأخرى دفاعا عن مصالح المذهب جزءًا من مفهوم أمنه القومي، في هذا الإطار يمكن فهم تصريح ممثل مرشد الثورة الإيرانية في الحرس الثوري حجة الإسلام علي سعيدي قبل أسابيع، والذي أكد فيه أن حدود إيران تنتهي عند سواحل البحر الأبيض المتوسط، ودعا الجميع إلى الدفاع عن ولاية الفقيه خلف هذه الحدود. التصريح نشره موقع وكالة فارس للأنباء المقربة من الحرس الثوري.
تورط حزب الله في القتال ضد الثوار السوريين هو تنفيذ مباشر للتوجه الإيراني، وتفعيلٌ لإرادة ولي الفقيه الذي أراد لأبناء المقاومة اللبنانية أن يكونوا جنودا في غير معركتهم

كان الأولى لحجة الإسلام سعيدي أن ينظر في مصالح الشيعة العرب جنوب إيران، والذين يعانون من التهميش والاضطهاد السياسي والثقافي، هذا السلوك يعكس جانبا من المنهجية الطائفية، حيث تستخدم الشعارات الدينية غطاءً لأهداف أخرى مناقضة تماما لمقاصد الدين.

من الواضح أن تورط حزب الله في القتال ضد الثوار السوريين هو تنفيذ مباشر للتوجه الإيراني، وتفعيل لإرادة ولي الفقيه الذي أراد لأبناء المقاومة اللبنانية أن يكونوا جنودا في غير معركتهم.

اكتَشفتْ بعض القوى المعارضة في إيران هذا الانحراف قبل سنوات من اليوم، وذلك عندما تعرضت قيادات إصلاحية لبطش الأجهزة الأمنية، وزج بالكثيرين منها في السجون. وكان من بين أولئك المعتقلين أسماء كان لها دور بارز في إرساء قواعد الثورة الإسلامية وخدمة أهدافها، إلا أنهم بادروا إلى مفاصلة النظام الحاكم بعدما تبين تحوله إلى آلة استبدادية تنكرت لمبادئ الثورة وشعاراتها.

محمد رضا خاتمي واحد من المعارضين الإيرانيين للنظام، وهو شقيق الرئيس الإيراني السابق محمد خاتمي، وزوج زهرة إشراقي حفيدة مؤسس الثورة روح الله الخميني، كان خاتمي من الطلبة المشاركين في أَسرِ الدبلوماسيين الأميركيين عقب احتلال سفارة واشنطن في طهران سنة 1979، عمل في الحرس الثوري، وتقلد مسؤوليات عدة في الجمهورية الإسلامية.

بذل محمد رضا خاتمي ورفاقه جهودا ثقافية وسياسية كبيرة لتعرية الماهية الاستبدادية لولاية الفقيه، وفي هذا السياق حاول تنبيه زعيم حزب الله حسن نصر الله إلى هذه الحقيقة، فكانت زيارة الرئيس أحمدي نجاد إلى لبنان سنة 2010 فرصة اغتنمها خاتمي لكي يحرر رسالة مفتوحة إلى نصر الله، مذكرا إياه بالمبادئ التي جمعت نضالهما المشترك قبل سنوات، وموضحا التناقض الذي يضعه فيه استقبال الرئيس نجاد المتورط في قمع وسجن أبناء الثورة وقيادييها ممن بقوا أوفياء لمبادئ وشعارات ثورة 1979.

كشف محمد رضا خاتمي في تلك الرسالة زيف ادعاءات نظام ولاية الفقيه في دعم المقاومة، وهو يسجن ويعذب من أسسوا بنيان تلك المقاومة، وبذلوا من أجلها الغالي والرخيص، فقط لأن هؤلاء عارضوه وانتقدوا سياساته، كتب خاتمي مخاطبا نصر الله "أنت تعلم جيدا أنه الآن في إيران يتعرض أصحاب ورفاق الإمام الخميني المميزون، ووارثوه الجسمانيون والروحيون، وذوو السبق من أنصار الثورة الإسلامية، يتعرضون لأشد الضغوط والمضايقات بجرم الثبات على مبادئ الثورة الإسلامية، وعدم قبولهم بالانحراف، ولا يزال الكثير منهم يعاني من ظروف السجن القاهرة، وآخرهم الدكتور علي شكوري راد الذي اعتقل قبيل سفر أحمدي نجاد إلى لبنان ولقائه بكم. وأنت تعرف أن شكوري راد من أكبر المناصرين للمقاومة الإسلامية".

وفي موضع آخر من رسالته، أراد محمد رضا خاتمي أن يُبصِّر حسن نصر الله إلى خطورة الالتباس الذي سقط فيه حزب الله، وذلك حين نزه اقتران عمل شريف مثل مقاومة الكيان الصهيوني، مع الصمت على تجاوزات النظام الإيراني في حق المقاومين الحقيقيين في إيران، أولئك الذين يدفعون أعمارهم ثمنا لمقاومة استبداد النظام الحاكم وتجاوزات أعوانه، يقول خاتمي "في اعتقادنا لا يمكن الحديث عن مقاومة النظام الغاصب وهؤلاء الشرفاء في السجون، الأشخاص الذين صرفوا أعمارهم من أجل إعلاء كلمة الله وانتصار الثورة الإسلامية وعلو شأن الجمهورية الإسلامية، لا يمكن ادعاء مقاومة النظام الصهيوني مع عدم التبرؤ من الظلم الواقع على هؤلاء المقاومين الواقعيين، والأشد سوءا تزكية هذا الواقع بالصمت المشوب بالرضا".

رسالة محمد رضا خاتمي لحسن نصر الله عام 2010 كانت ناقوس خطر تجاهلها واختار على ما يبدو الاستسلام لولاية المرشد، ناسيا أن العدالة شرط أساس ومبدئي في الموالاة

أراد محمد رضا خاتمي أن يكشف لزعيم حزب الله بشاعة المفارقة التي يعيشها، ويحذره بالتالي من مغبة التحالف مع نظام يخفي استبداده تحت غطاء دعم المقاومة. كانت رسالة محمد رضا خاتمي ناقوس خطر تجاهله حسن نصر الله الذي اختار على ما يبدو الاستسلام لولاية المرشد، ناسيا أن العدالة شرط أساس ومبدئي في الموالاة، وكان حريا بحزب الله أن يتبين ببصيرة مواضع أقدامه، ذلك أن الأهداف النبيلة تحتاج دائما إلى وسائل نبيلة.

تفطَّن الكثير من أبناء الحزب وبعض القيادات الشيعية اللبنانية إلى انحراف الثورة الإسلامية الإيرانية عن مبادئها، وابتعاد قادتها الحاكمين عن فلسفتها الأولى. نذكر هنا العلامة صبحي الطفيلي، والعلامة حسن فضل الله، وغيرهما.

لقد تميز جزء من المرجعية الشيعية العربية على الدوام بحس اليقظة تجاه الحكام الإيرانيين، وظل بعضهم متمسكين بالحد الأدنى من الاستقلالية تجاه الأسر التي حكمت إيران منذ هيمنة الصفويين على الحكم قبل حوالي 500 عام.

في هذا السياق ينقل لنا محسن الأمين في كتابه (أعيان الشيعة) موقف الشيخ حسين عبد الصمد العاملي (ت984هـ)، وذلك بعدما أصر الملك الصفوي طهماسب على دعوته إلى إيران، فاستجاب الشيخ العاملي، وانتقل إلى قزوين وعٌيّن شيخا للإسلام فيها، لكنه أدرك في النهاية خطأ قراره، فخرج هاربا من إيران ليستقر في البحرين.

في ظل المصالح القومية والسياسية للطبقة الحاكمة في إيران، ومع وجود تناقضات وصراعات بين أجنحة وقوى داخل النظام، تبقى الاستقلالية والتأكيد على قيم التعايش والتسامح هو الخيار الأمثل أمام مدرسة التشيع العربية، ولن يتحقق ذلك بالطبع إن لم تبذل الحكومات العربية وسعها في احتضان هذه المدرسة ضمن بيئة وطنية يحتكم فيها المجتمع إلى منطق الحقوق والواجبات، مع تجريم الطائفية ومشتقاتها.

لم يستطع حسن نصر الله فك ارتباطه بالنظام الإيراني، أو على الأقل ترك مسافة فاصلة بين إيران والحزب، تعطي لهذا الأخير حرية اتخاذ بعض القرارات، وتشخيص ما يواجهه من مستجدات بيئته السياسية والاجتماعية. ربما لم يكن يتوقع نصر الله أن يكون الحزب في مثل موقفه اليوم، حيث وضع خلف ظهره تاريخا من مقاومة الاحتلال الصهيوني، موجها بنادقه نحو أبناء الشعب السوري، مواليا لنظام بشار الأسد الذي لا يقل استبدادا عن النظام الإيراني، كل ذلك بناء على تبريرات لا تستقيم مع منطق الحق ونصرة المظلوم.

تعيش إيران اليوم مخاضا داخليا عسيرا، بعدما اتجه نظام ولاية الفقيه بقوة نحو مأسسة المجال الديني ضمن بناء هرمي يترأسه ولي الفقيه، ويخضع له باقي الفقهاء ومؤسساتهم العلمية، وجمهورهم من المُقلِّدين، وقد رفض علماء ومفكرون هذه السياسة التي تهدف إلى إسكات الأصوات الفقهية الشيعية المخالفة لمرشد الثورة علي خامنئي، ومن هؤلاء نجد المفكر الديني المعارض محسن كديفر الذي فضح انقياد الكثير من رجال الدين الشيعة للحُكم، فقال "الآن أصبح الفقهاء الشيعة في إيران متورطون في المصيبة التي كانوا بسببها يشمتون بنظرائهم السنة منذ قرون، الذين يجلسون على مائدة الدولة، ولا يستطيعون التصرف باستقلال عن إرادة الحاكم، ومن بين هؤلاء يوجد فقهاء مجلس الخبراء الذين أصبحوا منبوذين بشكل كبير في إيران بسبب مشاركتهم في كل الظلم الذي أوقعته ولاية الفقيه الجائرة على الشعب".

يعتقد العديد من قياديي الثورة الإيرانية المعارضين للنظام الحاكم أن استبداد النظام ليس سوى نتيجة حتمية لانحرافه عن مبادئ الثورة، وأهدافها المعلنة في تحقيق استقلال البلاد، وحرية الشعب

يعتقد العديد من قياديي الثورة الإيرانية المعارضين للنظام الحاكم أن استبداد هذا الأخير ليس سوى نتيجة حتمية لانحرافه عن مبادئ الثورة، وأهدافها المعلنة في تحقيق استقلال البلاد، وحرية الشعب، وبناء نظام جمهوري حقيقي، من هؤلاء، نذكر محسن آرمين، الذي كان من شباب الثورة الإسلامية المؤسسين، شرح في إحدى مقالاته درجة انحراف الثورة الإسلامية عن مبادئها وأسسها الأولى، حيث ربط بين عقم النظام الإيراني الثقافي والنظري، ولجوئه إلى العنف ضد المنتقدين، وتورطه في الطبقية الاجتماعية، ثلاث علامات سماها آرمين بالسرطان المهلك، الذي أفرغ الثورة بالتدريج من مضمونها الأصلي، وأدخلها في صمت، وجعل المجتمع أسيرا للتهييج والتعصب.

من المستبعد جدا أن تكون قيادات حزب الله غافلة عن هذا الانحراف الذي أصاب الثورة الإيرانية، لكن من المؤكد اليوم أن الحزب قد أصبح في مأزق الانقياد الكامل لإرادة ولي الفقيه، وستكون المقاومة، بلا شك، هي الضحية الأولى لهذا الانقياد.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.