تأملات لا بد منها

تصميم - تأملات لا بد منها - زياد منى -

undefined

لا شك في أنه حان وقت وقوف النخب العربية لحظات لتأمل الأحداث الجسام التي هبت علينا منذ انتفاضة شعب تونس المباركة حقًا.

فإذا نظرنا حولنا، في بعض أقطار بلادنا العربية، نرى كثيرا من الغبار الناجم من الانهيارات الكثيرة التي تحيط بنا، ونرى كذلك دولاً تتشظى وشعوبا تتحارب وأقواما تزداد انقسامًا. نرى، رغم إيجابية بعض ما حصل -وفي مقدمة ذلك خلع شعوبنا رداء الخوف والرعب من أنظمة ظالمة- نتائج الصمت الطويل على تلك الأنظمة حيث حلت الولاءات القبلية والعشيرية والمناطقية والدينية، بل والمذهبية، في كثير من الأحيان، محل الولاء الوطني الجامع. وهنا يكمن الخطر الأكبر على وجودنا، ليس المعنوي فحسب وإنما المادي أيضًا.

كان رأينا منذ بداية الحراكات الشعبية المشروعة والمحقة، أن الانغماس في الغرائز واللهث وراء شعارات، تبهر البصر وتعمي البصيرة، سيقود حتمًا إلى نتائج كارثية. وكنا حذرنا من أن الافتقار إلى برنامج اقتصادي -الذي هو سياسي بامتياز- سيعني العودة إلى الأوضاع التي كانت سائدة قبل رفع شعار "الشعب يريد إسقاط النظام" وأن ما سيتغير الرداء فقط، وليس أي شيء آخر. وها نحن نشهد صحة ذلك.

الحماس وحده لا يبني نظاما، وحق القوة لا يمنح قوة الحق، ومعاملة الخصم بأدواته، وفي أحيان كثيرة بأسوأ منها بكثير، لا يفتح أبواب الحرية، كائنة ما كانت، هذه الحرية المسكينة.

التغيير يعني نقيض القائم، مع الاحتفاظ بما يحويه من إيجابيات، مهما بدت قليلة وغير ذات مغزى. أما الحكم على هذا النظام أو ذاك، ومن المسؤول عن هذا وذاك، فيدخل ضمن عمل المؤرخين.

في أوروبا، التي خاضت شعوبها عشرات الحروب ضد بعضها، ومنها ما استمر حتى مائة عام، تركوا أمر تقويم الأحداث للمؤرخين، وهم لا يزالون يبحثون وينقبون ويتبادلون الآراء والتحليلات.

هذه هي الطريق الأسلم لتفادي الاستسلام لروح الانتقام وإلغاء الآخر. لا أحد يملك الحقيقة المطلقة، ومن غير المسموح، عقليًا، قبول لا منطق امتلاك طرف، أيًا كان، الحقيقة.

الحماس وحده لا يبني نظاما، وحق القوة لا يمنح قوة الحق، ومعاملة الخصم بأدواته، وفي أحيان كثيرة بأسوأ منها بكثير، لا يفتح أبواب الحرية

العمليات الاجتماعية على جانب كبير من التعقيد، وليس ثمة كلمة نهائية في أي منها. المجتمعات البشرية تستمر في الانتقال من طور إلى آخر، رغم كل ادعاءات امتلاك الحقيقة، وما كان يصلح لليوم فلربما لن يصلح للغد، وبكل تأكيد لم يكن صالحًا للأمس.

ما أدعو إليه، من أعماق قلبي، دفن الأحقاد الشخصية والابتعاد عن النرجسيات، وعدم الاستسلام لروح الانتقام، مهما كانت الدوافع والآلام التي تقف خلفها. نحن بشر، وعلينا التفكير مليًا. علينا التمسك بالقيم الإنسانية الأبدية التي تعلمناها في بيوتنا.

كلنا تعلم في بيته ومدرسته ومن والدته ومن والده وأجداده، أن نبذ وتجنب الكذب والغدر والغش والخداع والسرقة والسطو على أموال الغير واللهاث وراءه وقتل الآخرين وترصد الجار القريب والبعيد والولاء المطلق لأمر ما أو لشخص ما حتى لو كان على ظلم، هي من محاسن السلوك الإنساني. هذه قيم إنسانية مطلقة، نجدها في كل المجتمعات.

لننظر حولنا، بعد التحلي بالتواضع المطلوب كي نعترف بمقدرتنا، بل وبحاجتنا إلى التعلم من الغير، حتى لو ظننا، في لاوعينا أننا أفضل منهم. لننظر إلى جنوب أفريقيا مثلاً، التي عانى فيها البشر ذوو البشرة الداكنة والسوداء تمييزا واضطهادا بمختلف أشكاله وتجلياته طال قرونًا، واختزن البشر السود البشرة كما هائلاً من الحقد والكراهية تجاه مضطهديهم؛ خزان من اللاتسامح يكفي لإثارة حروب الألف عام.

مع ذلك، حظيت تلك البلاد وشعبها بنخبة نادرة من السياسيين المفكرين الذين عقدوا العزم على النظر إلى المستقبل وترك الماضي للمؤرخين لينظروا فيه ما شاؤوا، والنظر إليه فقط لتجنب تكراره ولاستخلاص العبر منه.

لقد حظيت تلك البلاد بتلك النخبة، وعلينا الشعور بالغيرة، ليس بالحسد، لأنهم تمكنوا من الانتقال ببلادهم وشعبهم من نظام إلى آخر بأقل خسائر ممكنة، ومن دون تدمير بلادهم. كان من الممكن لهم ترك الزمام لمشاعرهم الشخصية وتقديم ألف ألف عذر وعذر يسوغ لجوءهم إلى العنف، والاستعانة بالمقولات المقولبة الفارغة التي كثيرًا ما يرددها الانتقاميون، ومن ذلك على سبيل المثال: آلام المخاض، لكي نبني علينا هدم ما كان قائمًا وجعل الأرضية مسطحة.

ليس ثمة من معادلة جاهزة تقودنا إلى بوابة الخلاص، ولربما علينا المرور بصدمات وكوارث إضافية كي نصل إلى ما يجب الوصول إليه، لو تجردنا من ذواتنا وغلبنا المصلحة العامة، التي هي الأعلى، على كل ما دونها

ما مررنا به من إحباطات يجب أن يكون كافيًا لتغليب العقل وتنظيف الصفوف والفكر من روح الانتقام التي لا تجلب سوى الكراهية وبحور الدماء والدموع. الهدم سهل، لكن البناء أمر على جانب كبير من الصعوبة.

نحن لا نتحدث هنا عن العدالة لأننا جميعنا نعرف أن العدل من صفات الخالق عز وجل، وأن العدالة تتم في السماء.

علينا النظر إلى أعمالنا وتصرفاتنا ومطالبنا ومستقبلنا ضمن حدود قانون وعقد اجتماعي متفق عليهما، يجمعان كل مكونات المجتمع ويوحدانه إلى درجة الانصهار، وليس على أرضية غوغائية أغلبية وأقلية، المفترض أنها سياسية الطابع والجوهر وليست عددية. أما ظن البعض بامتلاكه الحقيقة المطلقة وبأنه يحمل رسالة لفرضها على الغير، فهو فاشي ودكتاتوري قائم على تعظيم الذات وإلغاء الآخر، إما فكريًا أو ماديًا، وفي أغلب الأحيان كليهما.

هنا يأتي دور النخب الفكرية والاقتصادية والاجتماعية  لتأدية دورها في شرح طريق الخلاص المادي والروحي، المعتمد على التعلم من تجارب الغير، بعيدًا من انتهازية المثقفين وأشباه المثقفين، الذين، في غالب الأحيان، لا هم لهم سوى مصالحهم الشخصية، ما يجعلهم شعبويي الطرح، وأنانيي الهدف. وقد سبق لي أن أعربت عن رأيي في هذا المنبر، عن رأي بسلبية المصطلح، المفردة مثقف، الذي هو عكس المثقف الثوري أو المثقف الإصلاحي.

نحن نعلم أن كثيرا ممن ترك لانفعالاته العنان قد بدأ يستيقظ ويستعيد رشده وصار يتأمل في ما وصلت إليه أحوالنا. ألتقي كثيرا منهم، لكن قلة قليلة تتجرأ على المبادرة بإعلان ما تعلمته، ناهيك عن المطالبة بإعادة النظر في كل ما كان، وضرورة مراجعة النفس، قبل فوات الأوان. هذه حقيقة معروفة، لكن ما أكثر الحقائق المسكوت عنها.

طبعًا هناك أناس ينتمون إلى جماعة غير قابلة للتعلم إما بسبب ارتباطات وطموحات شخصية مبتذلة، أو بسبب مصالح اقتصادية ضيقة، لكن العامة، ببراءتها وابتعادها عن التكلف وكلامها الواضح في كل ما يهمها، فرديًا وجماعيًا، هي المحرك الحقيقي للمجتمعات. الإنسان العادي البسيط هو حاضنة التغيير لأنه ليس بمدع ولأنه متواضع ولأنه يدرك فطريًا مصلحته الشخصية والاجتماعية.

ليس ثمة من معادلة جاهزة تقودنا إلى بوابة الخلاص، ولربما علينا المرور بصدمات وكوارث إضافية كي نصل إلى ما يجب الوصول إليه، لو تجردنا من ذواتنا وغلبنا المصلحة العامة، التي هي الأعلى، على كل ما دونها.

أقول هذا وأعود للتذكير بأننا لا زلنا هدفًا لأطماع الغرب الاستعماري، وأكرر ثمة غرب ليس باستعماريً. ليس في تاريخ علاقتنا بذاك المستعمر أي لحظة يظهر فيها حريصا قولاً وفعلاً على مصالحنا، أفرادًا وشعوبا. الفكر الاستعماري إلغائي، قائم على عقد التفوق، الأبيض، على غيره.

الفكر الاستعماري لم يتراجع يومًا من أي بقعة على الأرض، بل طرد طردًا، اندحر ولم ينسحب. الغرب الاستعماري ينظر إلينا على أننا غزاة للأرض التي ورثه إياها إله كتابه المقدس. لذا كان احتلال العالم خروجًا بمنطقه الأسطوري، خروجا من العبودية إلى الحرية؛ خروجا من الكفر إلى الإيمان، خروجا إلى بهاء الشعب المختار.

الفكر الاستعماري لم يتراجع يومًا من أي بقعة على الأرض، بل طرد طردًا، اندحر ولم ينسحب. الغرب الاستعماري ينظر إلينا على أننا غزاة للأرض التي ورثه إياها إله كتابه المقدس

كذلك ينظر إلى احتلال الأميركيتين وغيرها من بقاع شعوب الأرض الضعيفة. ولذا قال الجنرال أللنبي "الآن انتهت الحروب الصليبية" عندما احتل القدس (بمساعدة الثوار العرب المسلمين ضد العثمانيين المسلمين-ويا لها من مهزلة)، وكذلك قول الجنرال غورو، أو غيره "ها قد عدنا يا صلاح الدين".

علينا أن ندرك حقيقة أن الغرب الاستعماري لا يميز بعضنا من بعض، لا يقسمنا إلى خراف وماعز، كما يقول المثل الإنجليزي. فنحن، ومعنا كل من ليس هو، أجناس دنيا خلقت لكي تقاد ولتخدم من هو أرقى منها.

الغرب الاستعماري يرى أن العرب الجلف طردوه من بلاده ومهد حضارته (وهذا غير صحيح تاريخيًا) ولا يعترف بالحقائق المثبتة تاريخيًا بأن لا علاقة له بأرضنا وبأننا نحن ورثة الحضارات التي قامت بيننا.

هذا الغرب لا يمكن التفاهم معه ولا التهاون في كيفية النظر إليه، ووجب بالتالي التصدي له، دفاعًا عن أوطاننا وشعوبنا وحقنا في التطور الحر وفق إرادتنا.

لكن، ثمة غرب آخر، يخشى من بعضنا، كما نخشاهم نحن، هو ليس استعماريًا ويريد العثور على لغة تفاهم وتعايش بيننا، على نخبنا المبادرة لمخاطبته والحديث المعمق معه، من دون أحكام مسبقة، وبكل تجرد ومسؤولية. علينا البحث عما هو إنساني فينا، وإظهار أن العدوانية ليست من ملازمات شخصيتنا، وأننا نريد العيش بسلام مع كل شعوب الأرض التي تحترم حقوقنا في التطور الحر المستقل في أوطاننا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.