قمة الدوحة "العرب الجدد"

العنوان: قمة الدوحة "العرب الجدد" - الكاتب: غازي دحمان

undefined

جاء اجتماع القمة الرابع والعشرون لجامعة الدول العربية مختلفاً، ليشكل قطيعة مع عقود عجاف طويلة في عمر النظام العربي. كل ما في المؤتمر من صور رمزية وبيانات صريحة، كان يوحي بأن النظام العربي القديم آئل للسقوط، بكل ما حمله من تكريس للعجز، وتشريع للأنظمة التسلطية التي كان من نتيجة حكمها وصول العالم العربي إلى قاع من التخلف والدمار، وصولاً إلى احتمالية زوال النظام العربي برمته، بفعل عمليات التفكيك والتجزئة، ما لم يتم تدارك الأمر وبمهمة إسعافية باتت مطلوبة اليوم قبل غد.

قمة الدوحة طرحت مقاربة جديدة وجريئة للتعاطي مع الشأن العربي، تخرج عن المألوف والسائد، خاصة إعادة النظر في التحرك العربي على المستوى الدولي

المؤكد أن قمة الدوحة طرحت مقاربة جديدة وجريئة للتعاطي مع الشأن العربي، تخرج عن المألوف والسائد، وعلى كافة المستويات، سواء ما خص منها إعادة النظر في التحرك العربي على المستوى الدولي، بما يفيد القضايا العربية وإعادة طرحها بعد أن يصار إلى تثقيلها بعناصر القوة العربية بكل مقوماتها الجيو إستراتيجية، أو ما خص المستوى الداخلي عبر التشخيص الصحيح للمشاكل التي تعاني منها الشعوب العربية (والمثال السوري وطريقة التعاطي معه نموذج واضح في هذه المقاربة) أو حتى فيما خص العمل على تزخيم وتدعيم مؤسسات النظام العربي، بما فيها العمل على إنشاء المحكمة العربية لحقوق الإنسان، وتكليف لجنة قانونية بإعداد النظام الأساسي لها.

ولم تكن فلسطين في سياق هذه المقاربة مجرد ديكور جرى استحضاره -على ما يردد الإعلام الممول من طهران- لتمرير قضايا أخرى، بل إن المقاربة شملتها، ومن الواضح أن ثمة تأسيسا جديدا للتعاطي مع قضيتها بأسلوب أكثر عملية، بدءا من الدعوة لعقد مؤتمر مصغّر للمصالحة بين الفصائل الفلسطينية في القاهرة برعاية عربية، مما يمهد لتوحيد الصف الفلسطيني وتجاوز حالة الانقسام العبثية، وكذلك تأسيس صندوق بمليار دولار، سيعمل على تمويل مشاريع وبرامج تحافظ على الهوية العربية والإسلامية للقدس الشريف، وتعزيز صمود أهلها الذين يتعرضون لمضايقات تهدف إلى انتزاعهم من القدس في إطار مخطط تهويدها الشامل، ودعما للاقتصاد الفلسطيني لتمكينه من تطوير قدراته الذاتية، وفك ارتهانه من قبل إسرائيل التي ما فتئت تستخدم هذه الورقة في محاربتها لمطالب الشعب الفلسطيني المشروعة في إقامة دولته، هذا إلى جانب التحرك العربي دوليا   باتجاه الضغط على إسرائيل والأطراف الداعمة لها، لإعادة تحريك ملف التفاوض.

وفيما خص سوريا، فإن المقاربة الجديدة تبدو أكثر جرأة ووضوحاً، حيث -للمرة الأولى ومنذ خمسة عقود سبقت- تتاح الفرصة للشعب السوري لتمثيل نفسه، بإبعاد من تسلط على هذا الشعب عبر الانقلابات والمؤامرات، ورسخ سلطته بالمذابح واستباحة القوانين وتركيب دستور على قياسه وقياس بطانته، وبالقمع الحديدي الأعمى والأكثر شراسة، وبإلغاء الحياة السياسية، وإشاعة ثقافة السرقة المنظمة و"الرسمية" والتشبيح والفساد، وممارسات المافيات الإجرامية.

في الدوحة ثمة إعلان واضح وصريح ولا لبس فيه، وهو أنه آن لزمن الخجل والمداورة أن ينتهي، ليس هناك ما هو أكثر عاراً من السكوت على مذبحة بحق شعب بأكمله، لا ذنب له سوى أنه طالب بحريته من نظام يعرف العدو قبل الصديق أنه لا مثيل له في الفساد، يكفي أن يعرف الشعب أن ثروة آل الأسد بلغت أرقاما خيالية لإعلان الثورة على هكذا نظام.

قمة الدوحة تؤسس لزمن عربي مختلف، ونمط تعاط جديد، يتحرر من التهويل الذي طالما مارسته بعض الأنظمة الديكتاتورية التي باعت بلدانها رخيصة

قمة الدوحة تؤسس لزمن عربي مختلف ونمط تعاط جديد، يتحرر من التهويل الذي طالما مارسته بعض الأنظمة الديكتاتورية التي باعت بلدانها رخيصة. النظام السوري نموذج في هذا السياق، إذ طالما اعتاش على المزايدة الفاقعة عبر ادعائه بتمسكه بالقومية العربية، فيما كان مبعوثوه ودبلوماسيوه يجوبون أصقاع العالم، يعرضون بيع سوريا قطعة قطعة لمن يحمي النظام، ألم يبعها لتركيا أيام الصفاء مع أنقرة؟، اسألوا أهل ريف دمشق الذين ثاروا على النظام بعد أن سمح للمنتجات التركية بالحلول بدل صناعتهم المحلية؟

قمة الدوحة تؤذن -أيضاً- بتحول الجامعة العربية إلى جامعة للشعوب. لقد سقطت الجامعة القديمة مع انطلاق الربيع العربي، وآن لهذا السقوط أن يصبح رسميا، كما آن للبديل أن يعلن عن نفسه بدون تردد. دفعت الشعوب العربية مئات آلاف القتلى وحجما كبيرا من الدمار ثمنا لهذا التحول. صحيح أن فشل النظام العربي لم يكن هو السبب الذي أشعل ثورات الربيع العربي، لكن تلك الأنظمة كانت جزءاً من النظام العربي الأوسع، وتجسيدا لتوجهات النخبة التي جاءت منذ عقود وكرست الإخفاق العربي المزمن في كل شيء، وعلى كل صعيد.

نحن اليوم أمام مقاربة عربية جديدة يصوغها ممثلو الشعوب العربية، "العرب الجدد" الذين حلموا بالكرامة والحرية، ولا شك أن الكرامة كما الحرية لا تتجزأ. وعليه فنحن بصدد تأسيس جديد لوعي عربي يرغب برؤية جديدة للفعل العربي. بعد أن تم كل هذا الاختراق والاستباحة للكرامة العربية، ليس غريبا أن يرفع ثوار سوريا في إحدى جمعهم صور أردوغان، لا بسبب موقفه من الثورة السورية وحسب، وإنما لوقفته الحازمة في وجه الصلف الإسرائيلي، وكان ثوار القاهرة قد استقبلوه من قبل بحفاوة بالغة.

وليست استعادة المعارضة السورية لمقعد سوريا في مجلس الجامعة العربية سوى أحد تعبيرات هذه المقاربة الجديدة، حيث تعود الجامعة إلى شعوبها التي هي من يقرر شكل العلاقات وأفق تطورها واتجاهاتها، بعد أن جرت سرقتها عقوداً طويلة لخدمة أهداف لا علاقة لها بمصالح الشعوب العربية وقضايا تنميتها واستقلالها وكرامتها.

لا شك أن القمة تميزت بنكهة جرأة السياسة القطرية. والمأمول أن تتابع هذه الجرأة مفاجآتها على مدار عام كامل تتولى فيه قطر رئاسة الجامعة العربية، التقدير أن تكون هذه سنة عربية مختلفة، فالدبلوماسية القطرية لديها من الوضوح والجرأة والعلاقات ما يكفل تحقيق نتائج أفضل. والمأمول أن تكمل قطر مبادرتها هذه بنزع الشرعية نهائيا عن نظام القتل بالذهاب من خلال هذا التثبيت القانوني العربي إلى الأمم المتحدة، من أجل فرض واقع قانوني دولي مماثل، باستبدال العلم السوري، وتعيين ممثل لـ"الحكومة" السورية المزمع تشكيلها، وبناء على طلبها، مما يؤدي عمليا إلى طرد ممثل سوريا الحالي في الأمم المتحدة بشار الجعفري.

وبهذا الخصوص  بدا أن الدوحة -في إعلانها- بدأت بالإعداد لمرحلة ما بعد الأسد، إذ دعت القمة أيضا في قراراتها الختامية إلى "عقد مؤتمر دولي -في إطار الأمم المتحدة- من أجل إعادة الإعمار في سوريا، وتكليف المجموعة العربية في نيويورك بمتابعة الموضوع مع الأمم المتحدة لتحديد مكان وزمان المؤتمر".

قمة الدوحة كانت فرصة للتعبير عن رؤى القوى الثورية الجديدة في العالم العربي، ولكشف مقدرتها على السير برهاناتها التحررية

يدرك المتابعون للشأن العربي أن أمام قطر والقمة تحديات كبيرة، أهمها أن النظام العربي عالق على خط الاشتباك بين محورين في النظام الإقليمي الجديد، حيث الصدارة -حتى على المسرح العربي- لأدوار إيران وتركيا وإسرائيل، ومن فوقها الدوران الأميركي والأوروبي المتزاحمان مع الدور الروسي المستعد والدور الصيني الجديد، لكن المؤمل أن تستطيع قطر -بعلاقاتها ودبلوماسيتها الواضحة والحازمة- تفكيك جملة هذه التعقيدات.

القمة العربية التي استضافتها قطر انعقدت -كما هو واضح- عند مفترقات دقيقة بالنسبة إلى عالم عربي متغيّر، وهي أيضاً فرصة للتعبير عن رؤى القوى الثورية الجديدة في العالم العربي، ولكشف مقدرتها على السير برهاناتها التحررية، وهي تشكل قطيعةً واضحة وأكيدة مع المرحلة العربية السابقة، يأمل الجمهور العربي من خلالها الانتقال إلى وضع أكثر فعالية وتأثيرا، وتجاوز حالة السلبية التي عانى منها النظام العربي منذ تأسيسه قبل منتصف القرن الماضي.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.