المسألة القبطية بين الثورة والثورة المضادة

المسألة القبطية بين الثورة والثورة المضادة - الكاتب: بشير عبد الفتاح

 undefined

تغييب القانون
تسييس الدين
أصابع خارجية
التعثر الثوري

برغم بروز ملامحها جلية خلال العقود الأربعة المنقضية، تعود جذور ما يمكن تسميته مجازا بـ"المسألة القبطية" إلى إرهاصات نشأة الدولة الوطنية المصرية الحديثة مع بداية القرن التاسع عشر. غير أن تضافر التدخل الخارجي مع فشل نمط العلاقة الشائكة والوظيفية بين الدولة والكنيسة في إيجاد حلول سياسية وقانونية جذرية وحاسمة لتلك المسألة، قد زج بها نحو التأزم عبر تفاقم الاحتقان الطائفي وتصاعد وتيرة العنف الناجم عنه بصيغ وأدوات شتى.

تغييب القانون
ربما تبارى النظام والكنيسة في مصر سويا خلال حقبة ما قبل ثورة يناير 2011، في تقويض دعائم دولة القانون عند التعاطي مع أي عنف أو احتقان طائفيين. فمن جانبه، لم يتورع نظام يوليو طيلة العقود الستة المنقضية عن اعتماد جلسات العرف منهجا في هذا الصدد، كما لم يتردد في غمر الكنيسة بالترضيات الممكنة على كافة المستويات، استجداء لدعمها وتأييد مناصريها في الخارج، وحماية لشرعيته الهشة من أية تداعيات سلبية للتأزم الطائفي على المستويين المحلى والدولي.

بعد ثورة يناير، ازداد الوضع سوءا، إذ تفاقم تجاوز القانون من قبل الكنيسة وتعاظم ابتزاز السلطات بفعل انكسار جهاز الشرطة وغياب الدولة وتراجع هيبتها

وبدوره، لم يفوت رأس الكنيسة الأرثوذكسية ممثلا في البابا شنودة الراحل فرصة لإقصاء القانون عند أية تسوية لاحتقان أو عنف طائفيين، طالما أفسح ذلك المجال أمامه لانتزاع مكاسب حيوية، ومن ثم جاء تحديه لبعض القوانين والتشريعات الخاصة بالأحوال الشخصية للمسيحيين مؤكدا أن الكنيسة لا تقبل أحكاما تعارض الكتاب المقدس "الإنجيل"، حيث رفض حكم القضاء الإداري الذي يسمح بالزواج الثاني للأقباط المطلقين، كما رفض مقترح الزواج المدني لهم مهددا من يلجأ إليه من المسيحيين بالطرد من الكنيسة.

ولم يقبل البابا الراحل أيضا بمبدأ المعاملة بالمثل لدور العبادة، حيث رفض تضمين مشروع قانون دور العبادة الموحد بندًا ينص على إخضاع أموال الكنائس للرقابة المالية من قبل الأجهزة الرقابية في الدولة، مبررا ذلك بأن الكنائس تموَّل ذاتيًا وليست مؤسسات حكومية، وأن أموال الكنيسة ملك للمسيح ولا يحق لأية جهة مراقبتها.

ورفض كذلك خضوع الكنائس والأديرة للتفتيش على غرار دور العبادة الإسلامية بحجة استقلال الكنيسة عن أي سلطة باعتبارها ملكًا للسماء فقط. وهو ما اعتبره حقوقيون مخالفة للدستور والقانون اللذين يكفلان المساواة ويخضعان وزارة الأوقاف والأزهر والمساجد للتفتيش المستمر كما لرقابة الجهاز المركزي للمحاسبات.

وكثيرا ما تجاهلت الكنيسة القوانين المنظمة لبناء وترميم وإصلاح الكنائس عبر تحويل بعض المباني الخدمية التابعة للكنائس والأديرة إلى كنائس واضعة الدولة أمام الأمر الواقع، وإذا ما حاولت السلطات التعامل مع الحدث بإعمال القانون يلجأ البابا للضغط على الدولة ولي ذراع النظام من خلال الاعتكاف لبعض الوقت في دير الأنبا بيشوي بوادي النطرون، بالتوازي مع تكثيف الحملات الدعائية المنددة والتظاهرات الغاضبة، على غرار ما جرى في ملف كنيسة العمرانية عام 2010.

وهو ذات النهج الذى تبناه البابا الجديد للكنيسة تواضروس الثاني، حيث أعلن الاعتكاف في ذات الدير عقب أحداث الكاتدرائية ورفض إقامة مراسم العزاء للمتوفين.

أما بعد ثورة يناير، فقد ازداد الوضع سوءا، إذ تفاقم تجاوز القانون وتعاظم ابتزاز السلطات بفعل انكسار جهاز الشرطة وغياب الدولة وتراجع هيبتها، وتنامى الاجتراء عليها من قبل جيش الخارجين على القانون، الذى طفقت توظفه عناصر الثورة المضادة وبعض الأطراف الخارجية، كما بدأت تجنح دوائر مسيحية متطرفة للاستعانة به في أحداث العنف الطائفي.

تسييس الدين
اقتضت خصوصية التركيبة الإثنية في مصر أن يظل الدين أداة في الصراعات السياسية التي تدور رحاها منذ عقود طويلة. فلطالما استخدمه المستعمر الأوروبى، فرنسيا كان أو بريطانيا، لتحقيق مآربه عبر إحداث حالة من الفرقة والتشرذم بين أبناء الوطن الواحد. وفي حقبة ما بعد الاستعمار، درج الطرفان المسلم والمسيحي على توظيف الدين سياسيا. فمن جهتها، دأبت أنظمة الحكم الوطنية بدءا من عبد الناصر وحتى مبارك على تسييس الدين وتوظيفه لتوسيع قاعدة شرعيتها وترسيخ دعائم حكمها.

وفي المقابل، لم تنأ الكنيسة الأرثوذكسية بنفسها عن هذا المعترك، فإبان الحقبة الاستعمارية وفي ثنايا الحركة الوطنية ضد المحتل الأجنبي، تملكت بمجموعة مسيحية متطرفة فكرة العمل الطائفي في إطار تلك الحركة، كما استبدت بثلة أكثر تطرفا نزعات طائفية انفصالية.

وبعد رحيل المستعمر، هوت الكنيسة إلى غياهب السياسة مع تولى البابا شنودة الثالث قيادتها عام 1971، واستخدامه مصطلحات من قبيل "شعب الكنيسة" و"الشعب المسيحي"، وتقديمه نفسه والكنيسة كبديل للدولة في أمور عديدة. علاوة على توجيه المسيحيين لتبني موقف سياسي معين في قضية بعينها كالمشاركة في ثورة يناير 2011، أو تبني سلوك تصويتي محدد في الانتخابات الرئاسية على سبيل المثال.

دأبت أنظمة الحكم الوطنية بدءا من عبد الناصر وحتى مبارك على تسييس الدين وتوظيفه لتوسيع قاعدة شرعيتها وترسيخ دعائم حكمها

ويبقى مكمن الخطر في لجوء المعارضة المدنية إلى تديين الصراع السياسي عبر توظيف مخاوف المسيحيين من صعود الإخوان المسلمين إلى السلطة وتعاظم الحضور السياسي للسلفيين بعد الثورة، في الاستقطاب السياسي الحاصل بين الفسطاطين الإسلامي والعلماني، على نحو تجلت تداعياته في تحميل المعارضة كما قيادات كنسية للرئاسة والإخوان مسؤولية أحداث الكاتدرائية.

وربما غاب عن أولئك وهؤلاء أن إقحام الدين في الصراع السياسي قد لا يصب بالضرورة في مصلحتهم لأنه ربما يؤدي إلى تجييش الجماهير حول الإسلاميين والرئيس المنتخب في مواجهة أي تحالف وهمي ومفتعل بين الكنيسة والمعارضة، كما قد يضيق الفجوة المتفاقمة ما بين الإخوان والسلفيين، ذلك أن استحضار الدين في الاستقطاب السياسي غالبا ما يفضي إلى التئام فصائل التيار الإسلامي وتوسيع قاعدته الشعبية مجددا خصما من رصيد الكنيسة والمعارضة العلمانية في آن.
 
أصابع خارجية
قد لا نبالغ إذ نزعم أن تصاعد دور الخارج في الملف القبطي يعد أحد أهم أسباب تعقده وتأججه ما بين فينة وأخرى. فبينما دأبت إسرائيل على توظيف الملف القبطي لضرب استقرار مصر وتقويض نهضتها، عكفت واشنطن على استخدام ذات الملف لاستتباع نظام يوليو البائد وابتزازه وحمله على تبنى مواقف وسياسات داخلية وخارجية تخدم الإستراتيجية الأميركية، لم يختلف الوضع كثيرا مع الرئيس مرسي، رغم امتلاكه مسوغات عديدة تخوله كسر هذا الحصار.

فبعد إشارات عديدة وجهها المسيحيون في مصر وخارجها إلى واشنطن للتعبير عن استيائهم مما اعتبروه انحيازا أميركيا واضحا للرئيس وجماعة الإخوان المسلمين على حساب مخاوف المسيحيين والمعارضة العلمانية من صعود الإسلاميين إلى سدة السلطة بعد الثورة، وجدت الإدارة الأميركية في انبعاث الاحتقان والعنف الطائفيين فرصة مثالية لاستتباع النظام الجديد وابتزاز الرئيس وجماعته.

فعقب أحداث الخصوص والكاتدرائية، كشفت مصادر مصرية مسؤولة عن تهديد واشنطن وعواصم أوروبية للقاهرة بوقف دعمهم لها خلال الفترة المقبلة بسبب تلك الأحداث ما لم تتخذ الحكومة موقفاً حاسماً لمعالجتها، وتضع ضمانات واضحة لحماية حقوق الأقباط، وأن بعثة صندوق النقد الدولي التي زارت مصر مؤخرا أوصت إدارة الصندوق بعدم تقديم قرض الـ4.8 مليارات دولار لمصر، طالما لم تستقر الأوضاع الداخلية فيها.

فيما حثت الخارجية الأميركية الحكومة المصرية على الإسراع في تنفيذ وعد الرئيس محمد مرسي للبابا تواضروس الثاني، بحماية الكاتدرائية وإعلان نتائج التحقيقات الجارية في هذا الخصوص.

وبينما اعتبرت صحيفة واشنطن بوست الأميركية أن حادث الكاتدرائية هو الأسوأ بين حوادث الفتنة الطائفية، أوردت مجلة فورين بوليسي أن اشتباكات الكاتدرائية تزيد مخاوف المسيحيين من حكم الإخوان، واتهمت الشرطة بالاشتراك في الهجوم بإطلاقها الغاز داخل الكاتدرائية.

وأعرب عضو مجلس النواب بالكونغرس الأميركي فرانك وولف عن انزعاجه الشديد من الحادث، وطالب بتعيين مبعوث أميركي خاص لحماية حقوق الأقليات الدينية في الشرق الأوسط وجنوب آسيا. وهو الأمر الذى أكد المتحدث باسم الخارجية الأميركية، باتريك فينتريل أن واشنطن تناقشه مع نظرائه المصريين.

التعثر الثوري
بينما هيأ غياب الديمقراطية والافتقاد إلى المشروع الوطني -الذى يظل المصريين جميعا ويقوي لحمتهم في مرحلة ما قبل ثورة يناير- أجواء مثالية لأحداث العنف الطائفي التي تهدد النسيج الوطني، يبدو أن تعثر المسيرة الثورية حاليا ممثلا في استعصاء التحول الديمقراطي، وتأخر التنمية الاقتصادية، واستمرار الانفلات الأمني، وطغيان الاستقطاب السياسي، بالتزامن مع استشراء الثورة المضادة وتدخل عناصر خارجية لإجهاض الثورة، قد وفر هو الآخر بيئة خصبة لتجدد الفتن الطائفية، خصوصا مع صعود جماعة الإخوان المسلمين إلى سدة السلطة وتعاظم دور التيار السلفي على الساحة السياسية بالقدر الذي من شأنه أن يغذي مخاوف المسيحيين من المستقبل، رغم تبني مختلف فصائل التيار الإسلامي خطابا سياسيا مستنيرا يولي أهمية كبرى لمبدأ المواطنة وقبول الآخر.

فلقد مهد ارتباك المرحلة الانتقالية وتكدسها بالتحديات والمفاجآت غير السارة على كافة الصعد والمسارات، السبيل لانبعاث التوتر الطائفي، لا سيما بعد أن أضحى العنف سمتا ملازما للمصريين جراء غياب الدولة الذي أتاح لجيش الخارجين على القانون ممارسة أنشطته غير المشروعة بغية التربح، سواء لحسابه أو لمصلحة من يمول، أيا كانت هويته أو خلفيته السياسية والفكرية، وبعدما هرع أعداء الثورة في الداخل والخارج لتوظيف الاحتقان والعنف الطائفيين للعبث بأمن البلاد ووحدتها والنيل من ثورتها.

وليس بخاف على كل ذي بصيرة أن الثورة المضادة لا تتورع عن استخدام أدوات متنوعة وأسلحة شتى بغية إجهاض ثورة الشعب، وبعد أن استنفدت في سبيل ذلك عديد الوسائل، جاء الدور على ورقة الفتنة الطائفية، التي تعد جوادا رابحا في هذا السياق، ليس فقط لتأثيرها المباشر على الاستقرار المجتمعي وتماسك الدولة ولكن أيضا لما لها من امتدادات وتشعبات خارجية، حيث لن تتورع أطراف إقليمية ودولية لا تريد لثورة مصر أن تكتمل وتنجح ولا للبلاد أن تنهض، عن إذكاء الفتنة الطائفية وتأليب المسيحيين على المسلمين والعكس عبر ضخ الأموال والسلاح وبث الدعاية المغرضة.

وما من شك في أن تعثر ثورة يناير وانحرافها عن مسارها حتى تفرقت بشركائها السبل، قد يسر من مهمة الثورة المضادة، إذ فتح الباب على مصراعيه أمام اجترار عذابات الماضي وآلام المرحلة السابقة من تمييز وصراعات اجتماعية وثقافية تنضح باحتقان طائفي.

فلقد تمخض الاستقطاب السياسي الحاد عن استشراء أزمة الثقة بين مختلف الأطياف السياسية فضلا عن تهتك مكونات النسيج الوطني. ومع غياب الحقيقة ووهن آليات الوصول إليها، تطايرت الاتهامات المتبادلة، وتبارى كل طرف في تحميل الآخر مسؤولية الإخفاق.

لن تتورع أطراف إقليمية ودولية لا تريد لثورة مصر أن تكتمل وتنجح ولا للبلاد أن تنهض، عن إذكاء الفتنة الطائفية وتأليب المسيحيين على المسلمين والعكس عبر ضخ الأموال والسلاح وبث الدعاية المغرضة

ففي حين ألقت دوائر رسمية باللائمة على من بداخل الكاتدرائية جراء استفزازهم لمحيطها، حمل المجلس الملي العام رئيس الدولة والحكومة، مسؤولية غياب العدل والأمن، والسكوت على ما سماه "التواطؤ المشبوه لبعض العاملين بأجهزة الدولة التنفيذية عن حماية أبناء الوطن وممتلكاتهم ودور عبادتهم".

هذا بينما، كانت ولا تزال، ثورة يناير فرصة تاريخية لوأد الفتنة الطائفية وطي صفحة الاحتقان والعنف الطائفيين، حيث جمعت مسلمي مصر ومسيحييها تحت راية واحدة وشعارات وأهداف مشتركة كالتنمية الاقتصادية والديمقراطية التي تعزز قيم المساواة ومبدأ سيادة القانون والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية.

وهى الأهداف التي يمهد بلوغها السبيل لإرساء دعائم قوية وأكثر رسوخا لمواطنة تتيح لأبناء الوطن الواحد العيش معا في بيئة أكثر تسامحا، شريطة أن يعي الفرقاء السياسيون والدينيون خطورة الخطب وحساسية المرحلة، فيتساموا فوق خلافاتهم ومنازعاتهم السياسية والدينية وحساباتهم الفئوية الضيقة، ويلتفتوا إلى مصلحة الوطن ومستقبل الثورة، وينقوا سرائرهم ويتحروا السبل الكفيلة بدرء الفتنة وسد الأبواب أمام أية تدخلات خارجية مغرضة، وأن يهموا لبلورة عقد اجتماعي جديد يوحد الجهود لاستكمال الثورة وبلوغ غاياتها بما يساعد على ترسيخ دعائم دولة القانون والمواطنة، ويكفل التعايش السلمي الآمن والخلاق بين شركاء الوطن ورفقاء الدرب.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.